المكتئب
الفصل القديم من الحكاية
قد تدرك في لحظة مفاجئة أنك تعيش منذ ولدت في حالة واحدة تشبه الحياة، لا الحياة نفسها. لا أستطيع أن أحدّد متى بالضبط كانت لحظة إدراكي أنني سجينة حالة واحدة منذ ولدت، وأن كل ما أمر به هو أكبر من أن يكون سببه شخصاً أو موقفاً أو قصة حدثت لي.
هل كانت لحظة إدراكي المفاجئة من وقت ليس بعيد، أي أنها اللحظة التي أخبرني فيها حبيبي السابق أنني بحاجة لأن أتغير كلياً، وأن علي إصلاح ما أفسدته في نفسيته وفي علاقتنا، دون أن يشعر بالذنب أو يعترف بالأسباب الحقيقية، وهي أنه في علاقة أخرى بالتوازي مع انقلابه هذا؟ أم كانت اللحظة التي علمت فيها أنه تقدم لخطبة صديقته بعد أيام من عزلي بشكل نهائي عن حياته، بكذب وافتراء وأنانية تملأ سمع وبصر العالم كله؟
أم حين برّر سرعة خطبته للجميع بكذبة أبشع وتهمة أشنع، وهي أنني مريضة نفسياً وعقلياً وهو لم يعد يحتمل؟ أم كانت اللحظة أقدم وأبعد بكثير، مثل اليوم التي ذهبت فيه معه الى الصيدلية لأشتري أقراص "بوسبار، واندرال" وهي أدوية تصرف دون نشرة طبيب، لأنها لا تسبب مضاعفات خطرة، ولا تستخدم لعلاج الأمراض النفسية أو العقلية المزمنة حسب علمي، هي لتخفيف التوتر والقلق، وهذا يعني أن أثره لم يكن كافياً أو حقيقياً في حياتي لأستقر بعيداً عن مخاوفي قليلاً؟
هذا لم يكن مهماً، كان المهم أن أنتهي بأسرع وقت، أن أذهب إلى قاع جهنم، لأحترق وأنتهي وأبعث من جديد، وكأن من حقه أن يخلدني في جحيمه لأنه يريد شيئاً آخر.
أعزائي، لا أسرد هذا لإدانة أحد، أنا أعيش حقي في المكاشفة، لم يعد يهمني أمر أحد لأقتصّ منه، ولا نظرة أحد لأدافع عن نفسي أمامه، فبرغم كل الظلم الذي استمرّ عامين، بالأخص بعد انقضاء قصة الحب البائسة التي أخذت من عمري ما يقارب ثلاث سنوات يابسات، لا خضراء كما كنت أظن، وغيرها وغيرها من الأحداث والقصص التي سبقتها ولحقتها.
أحاول البحث عن اللحظة التي أدركت فيها أنني أعيش الاكتئاب لا الأيام، أعيش مع الاكتئاب لا مع البشر، أنطق بلسان الاكتئاب في كل جملة، وأمارس أفكاره في كل فعل، وأصدّر انفعالاته في كل موقف... مجاز
فقط أحاول البحث عن اللحظة التي أدركت فيها أنني أعيش الاكتئاب لا الأيام، أعيش مع الاكتئاب لا مع البشر، أنطق بلسان الاكتئاب في كل جملة، وأمارس أفكاره في كل فعل، وأصدّر انفعالاته في كل موقف، فإن كنت مكتئباً هذا يعني أن كل حدث يمرّ فوقك، جوارك، داخلك، هو كارثة نفسية، ومع ذلك وبرغم كل أبعاد سوء تلك الحالة التي أعترف بها، وسأسرد تفاصيلاً أكثر وأكثر عنها، إلا أنه كان يمكن أن أتعافى تماماً "بحب صادق، وحضن حقيقي، وكلمات داعمة"، كما كنت أحاول أن أكون دائماً، وأنا غير قادرة على التنفس بانتظام، فسوداوية عوالم أي مكتئب لا تبرّر لأحد الافتراء والأذى.
في وكر الاكتئاب
أنا هدير، عشت ستة وعشرين عاماً في وكر الكلب الأسود (الاكتئاب)، ومع أبنائه (كل من هم حولي). تفاصيل التفاصيل كانت تتسبب لي بجروح غائرة، بالأخص وأنا أعيش حالة فقد، بسبب الموت أو بسبب فراق صديق أو حبيب، فـبالتزامن مع أي حدث صعب أعيشه، كانت جميع الكلمات الموجّهة لي تضعني موضع الدفاع عن نفسي، وأحياناً تضعني موضع الصمت وقبول التطاول. ومع تقدمي في العمر، جعلتني جميع المواقف أقبل الجميع دون حساب، فامتلأت حياتي بالخراب والمخربين، وتكاثرت فوقي ديدان الهشاشة، وراحت تنخر ببطء أي تماسك داخلي.
سألتني المعالجة في جلسة قديمة عن أحلام اليقظة، وإن كان هناك حلم مشترك أراه دائماً. لم أجبها وقتها، لأنني لم أمتلك تفسيراً لحالتي، أما اليوم فسأجيب على السؤال بدقة: يبدو أن خروجي من صورتي القديمة منحني وضوحاً بالغاً. كنت أرى في أحلام اليقظة دائماً أنني "رسولة للخير"، أتخيلني دائماً في موقف مع أي أحد لم يبادلني الاحترام، مع أي شخص سخر مني، أو اعتبرني أقل منه دينياً وأخلاقياً، أو تسبّب في جرح أو إحراج لي، أتخيلني أنقذه من مصيبة، أسانده، أُقدّم له الخير برغم أذاه، وكأنني أمنحني تلك الرؤى لأثبت أني جيدة رغم أنف أي أحد، لأقول لنفسي التي تبكي حد الاختناق، من الرفض والأحكام والتنمّر وتشوّه صورتها الذاتية، إنها أفضل مما أراها أو يراها عليه أي أحد.
ظننت أنني قادرة على كتابة هذا الموضوع بسلاسة أكثر وإلمام أعمق، لكن التفاصيل أدق من أن ترتّب، وأكثر من أن تسرد في نص للمكاشفة، يمكن أن أخبركم أشياء أخرى صغيرة، جعلت أي حدث أمرّ به مثل بركان غامض، لا أحد يتوقع ساعة انفجاره. مثلاً كنت حساسة لدرجة الهستريا، متعبة، اعتمادية وحزينة دائماً، وأشبه الجميع. هل لك أن تتخيل نفسك تحاول أن تشبه أي عابر في حياتك باختلاف كل التفاصيل، لتتجنب الغربة والرفض؟ تعقد اتفاقات يومية مع أشياء لا تؤمن بها لكسب رضا شخص لن يتذكّرك بعد أن ينتهي لقاؤكم؟ تحب أناساً تائهين مثلك تماماً، وتعيش حلم البرّ الآمن؟
تصدّق الشر فيك في كل رواية من أحد، وحين تقترب من الموت بسبب البكاء وشعور الذنب، ستمسح يدك اليمنى على كتفك، ثم تهمس لنفسك بأنك جيد وتقسم لها على ذلك، ثم تعتذر لها على غياب الدليل؟ تترك نفسك لأناس غير جديرين بالاحترام للسخرية منك، وتقييمك، والتدخل في شؤونك، تصرخ بالرفض من داخلك، ومن خارجك توافقهم، وتبرّر أمامهم فعلتك؟
كل المدينة ضدك، إدمان التودّد لأي أحد وكل أحد سيصبح جزءاً من لاوعيك، وكأنك تحاول رشوتهم. أي مصيبة في العالم حتماً ستصيبك، وأي تشهير وفضيحة أنت بطلها القادم، والإعدام هو مصيرك الحتمي... مجاز
تكتب آراءك البسيطة أو محاولات كتابتك الأولى في مساحتك على فيسبوك بإيمان كبير، ثم تمسحها وأنت ترتجف، لأنك تخيلت أن هناك شخصاً يسكن النصف الآخر من الكرة الأرضية يسخر منها؟ تضحك في وجه أكبر متحرّش في المدينة لأن الجميع يقدّره، ويعتبره شخصاً مثالياً، متديناً وذا علم، فببساطة من أنت لتصدق روايتك عنه، وتمارس قناعتك عليه؟ ترد على مكالمات كل من كشفت حقيقتهم وأدركت حقارتهم، لأنك أضعف من غلق أي صفحة؟
كل المدينة ضدك، إدمان التودّد لأي أحد وكل أحد سيصبح جزءاً من لاوعيك، وكأنك تحاول رشوتهم. أي مصيبة في العالم حتماً ستصيبك، وأي تشهير وفضيحة أنت بطلها القادم، والإعدام هو مصيرك الحتمي.
الفصل الجديد من الحكاية
لا أتوقع أن يقرأ نصي هذا أحد يعرفني، هذا النصّ لي، لدعمي، فأنا لا أستطيع مهما كتبت أن أذكر شيئاً من كوارثي النفسية التي كانت. أذكر هنا ما يجعل نصّي متماسكاً فقط، أذكر عناوين من يتأملها من الممكن أن يتوقع حجم جحيمي، حجم مأساتي التي ذكرت أنها كانت أكبر من أي يكون المتسبّب فيها شخصاً أو موقفاً أو قصة حدثت لي، ليفهم من كان يراني شديدة الهشاشة، أو شديدة القوة، لطيفة بوضوح، أو حزينة بغرق، شيئاً يجعلني ذات منطق في رأسه، ليفهم كل من كنت أبغضهم لماذا كنت أتواجد أحياناً في مساحاتهم، دون أن أخبرهم بأنهم ذباب قذر، ليدرك أحد يشعر بأنه انتهى بسبب خذلان حبيبه أو خيانته، أن حبيبه شيء تافه ولا يستحق، والجحيم الذي يعيشه له أسباب أكبر وأبعد.
لا أتوقع أن يقرأ نصي هذا أحد يعرفني، هذا النصّ لي، لدعمي، فأنا لا أستطيع مهما كتبت أن أذكر شيئاً من كوارثي النفسية التي كانت. أذكر هنا ما يجعل نصّي متماسكاً فقط.. مجاز
ربما يمرّ على هذا النص شخص يضع أمله على أناس تائهين ومتعبين، لذلك سأخبره بأن الأمان الحقيقي في إيجاد برّه هو أولاً، لأحكي كيف شعرت بنهايتي مع كل فصل دراسي لا أحقق نجاحاً فيه، لأن قيمتي دائماً ارتبطت بأحداث وإنجازات، وكيف توقفت عن الكتابة أحياناً، لأن أي نقد بخصوص ضعف النحو والصرف كان يعيدني لأسئلة حول حقيقة موهبتي، لأسأل: هل كان طبيعياً أن تنتهي فصول الرقص التي كانت تسعدني بإنتهاء قدرتي على عيش الخفة والفرح؟ وهل كان عادلاً اعتباري مدلّـلة لا تتحمل المسؤوليات، لمجرد أنني كنت أعمل في وظائف لا أضع شروطي في عقدها، لأنني أشعر بدونية مطلقة، فتمتصّني الهياكل الإدارية والإداريون؟
أتذكر مشهداً لا أظنه مشهوراً كثيراً لسعاد حسني في نهاية فيلم "غرباء"، كانت تسير تائهة تقول وهي تتأمل من مرّوا على حياتها: "مش ممكن الدنيا كلها تكون فؤاد أو أحمد أو سمير، لازم فيه شيء صح، شيء حقيقي موجود، شيء مش شايفينه لكن موجود". مثلما لا أستطيع أن أحدد اللحظة التي أدركت فيها أنني أعيش اكتئاباً لا حياة، لا أستطيع أيضاً أن أحدد كيف انتهى كل ذلك، وفهمت أن المشكلة ليست في موقف، أو قصة، أو في فؤاد وأحمد وسمير، بل في داخلي.
حين أدركت بيقين شديد الوضوح بأن ألمي لم يكن سببه أنني أواجه قساوة العالم كله بمفردي، بل سببه أنني أواجه نفسي دائماً، انطلقت بسرعة البرق نحو نفس حقيقية، شديدة الوضوح. لا أبرر للآخرين ما اقترفوه في حقي، مثلما لا أبرّر لنفسي ما اقترفته في حقهم، لكن وضع نقطة النهاية لسنوات الاستنزاف الطويلة هو عين العقل، هو عين احتياجاتي، لذلك كان علي أن أفعل شيئاً حقيقياً لي، شيئاً غير النحيب والهروب واجترار الأحزان ولوم الآخرين.
مزقت من عام وسبعة شهور كل مجلدات الماضي، اعتنيت بنفسي جيداً، فهمتها، دللتها، عاقبتها، وغفرت لها كل ما كان، وثقت فيها، وحددت لها أبعاد من يناسبها، أكملت علاجي السلوكي، ودرست من جديد قواعد اللغتين العربية والإنجليزية، وبنيت حدودي النفسية والاجتماعية بالحديد والإسمنت، أصبحت حصناً منيعاً لا يدخله تائه أو مستغل، وإن دخله تاه فيه، شفيت من الخوف، ومن انتظار الإثباتات من الآخرين.
قبلت الوظائف سيرتي الذاتية، ورحب بها أكثر من مكان مرموق، لا أحد اليوم يمكن أن يتاجر بأحلامي، لا أحد يجرؤ على التطاول، على جرّي لجداله. لا أطلب اليوم من أي أحد أن يلتزم حدوده، أو أعلمه كيف يحترمني، لا أصرخ ولا أغضب لأي سبب، جميع الأشياء سهلة في حضرة المعايير، في حضرة احترام الذات وتقديرها. أزور طبيبتي على فترات من أجل الفضفضة الصحية، ولم أتناول اليوم اي حبوب للاكتئاب، أتناول الطعام الصحي، الفيتامين والأكلات اللذيذة.
اليوم، أنظر للمرآة فأجدني جميلة حقاً، جميلة جمالاً طبيعياً صادقاً، ملامحي تجري تحتها الحياة، حتى جسدي أشعر أنه أخف وأرشق وأنضر وأروع. لا أفرط في الاعتذار أو في العتاب، لا أحب الجدال، أميز أشيائي الحقيقة التي تستحق لأنها لا تجعلني أعاني أبداً، لا تجعلني أشعر بالدونية والضآلة، معايري الأخلاقية أنا وحدي رقيبتها، درجة إيماني لا تعني أحداً إطلاقاً، تفاصيلي الخارجية والداخلية ليست محل تقييم لأحد، أي تهمة معلبة أهلاً بها، فحاويتي كبيرة ستبلتعها بهدوء، وأي ثناء مهما بلغ حجمه لا يزيدني شيئاً.
أعمل اليوم باجتهاد في عدة جهات تمنيتها كثيراً، أحلم أحلاماً كبيرة، أُحقق منها ما أستحقه، وأؤجل ما يحتاج جهداً أكبر، أمر بنوبات ضعف وخوف ومشاعر سلبية، ووحدة أحياناً، لكنني لم أفقد نفسي ثانية، لذلك لا أخاف أن أعيش أي موقف أو انهيار، لا أخاف أن أرهق أحداً، لأنني الآن لست مرهقة مني، أصبحت أُحب نفسي بشكل حقيقي، وأقدم الحب لغيري بحواسي كلها، وإدراكي كله، من دون غشاوة، أو دوافع لا مرئية، لذلك أصبحت جميع تفاصيلي الوجدانية والعاطفية مثل لوحات حسية تضخ حياة، لا عناء.
أتساءل أحياناً، هل يقبلك الناس وأنت تسير بأقدام من حديد، بعدما كنت تزحف فوق جدرانهم سراً؟ في الحقيقة لا تهمني الإجابة كثيراً ، أعلم أن الناس لا تطيق الزواحف، مثلما لا تطيق القوة، لذلك لم اعد أهتم بالإجابات ولا بأصحابها، لا أخاف منها، ولا منهم، لا أخاف من الحقائق، أو من المجهول، أو من أي شيء، فحين تنجو من نفسك ستنجو دائماً من الآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه