تبدو المسافة بين حلوان الأمس القريب وحلوان اللحظة الراهنة، هي نفسها المسافة بين الحلم والكابوس؛ الحلم بإنشاء أجمل مدينة استشفائية وسياحية في العالم، وكابوس التلوث والازدحام والفوضى والصخب، بمعدلات قياسية عالمية أيضاً.
بالقرب من العاصمة المصرية (30 كيلومتراً من قلب القاهرة)، تقع الضاحية الفريدة حلوان، تلك التي كانت تُعرف بالجميلة النقيّة، حيث الاخضرار والسكينة والعيون المعدنية والكبريتية الساحرة. وفي هدوئها الشامل العميق، كان يمكن للإنسان "أن يستمع إلى خواطره"، بحد ما ذكره عنها نجيب محفوظ في روايته "الباقي من الزمن ساعة".
العيون الكبريتية للاستشفاء في حلوان الماضي
وهبت الطبيعة حلوان كل الفرص لتكون جنة الله على الأرض، فهي المساحة الاستثنائية فوق سطح البحر بأربعين متراً، الممنوحة طقساً جافّاً مثاليّاً لا تتخلله الرطوبة، والملأى بعيون المياه المعدنية والكبريتية التي قلما يوجد مثلها في أي مكان في العالم، من حيث درجة النقاء والقدرة على علاج الأمراض والآلام.
تبدو المسافة بين حلوان الأمس القريب، وحلوان اللحظة الراهنة، هي نفسها المسافة بين الحلم والكابوس؛ الحلم بإنشاء أجمل مدينة استشفائية وسياحية في العالم، وكابوس التلوث والازدحام والفوضى والصخب، بمعدلات قياسية عالمية
وهي مدينة الاستجمام والاستشفاء والنقاهة والتمتع بالحدائق البهية التاريخية الواسعة، ومنها الحديقة اليابانية الغنية بالأشجار النادرة، التي يعود تأسيسها إلى أكثر من مئة عام (أنشأها المهندس المعماري ذو الفقار باشا في عام 1919 على الطراز الآسيوي كرمز للحضارات الشرقية)، وتحتوي الحديقة تماثيل "بوذا" الشهيرة على ضفاف بحيرة اللوتس.
تطلعات منطقية
ولقد اتجهت الأحلام في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلى تفعيل الاستغلال السياحي لمنطقة حلوان على أعلى مستوى، وبأقصى طاقة ممكنة، لتكون وفق رغبات المسؤولين وتصريحاتهم آنذاك أجمل منطقة سياحية في العالم، وتتمتع بشاليهات نموذجية حول عيون المياه، ومتاحف، ومتنزهات، وحديقة حيوان. وانطلقت آلة الدعاية الإعلامية في العهد الناصري للترويج لهذه الأحلام بحماس بالغ وقناعة كاملة: حلوان تصبح مشتىً عالميّاً خلال شهور قليلة، تعظيم استغلال حلوان كمدينة صحية عالمية، آلاف السائحين سيعالجون يوميّاً في حلوان، ستون فداناً حول عين حلوان ستخصصها الدولة للسياحة ولمرضى الروماتيزم الباحثين في قارات العالم عن المياه الكبريتية والدفء والشمس.
الحديقة اليابانية
والحقيقة أن تدشين "حلوان الحلم" في ذلك الوقت لم يكن آتياً من فراغ، فلها من التاريخ والجغرافيا والمعطيات ما كان يؤهلها للتفوق، لولا الإهمال وسوء التخطيط والإدارة. بل إنها أرض الأحلام فعلاً بلا مبالغة، فهي "الرخيصة النائية، المغموسة في السكينة والتأمل، التياهة بمياهها المعدنية وحماماتها الكبريتية وحديقتها اليابانية، مصحة الأعصاب المتوترة والمفاصل المتوعكة والصدور المهترئة والعزلة الغافية"، بتعبير نجيب محفوظ. وهي المقصد الأبرز للاستشفاء والعلاج من أمراض العظام والأمراض الجلدية على مدار قرون طويلة، خصوصاً في "كابريتاج حلوان"، الذي كان يحظى بشهرة علاجية واسعة في سائر الأرجاء، حيث تتجاوز نسبة الكبريت العلاجية في مياهه الصافية 27%.
عيون حلوان المهملة
وقد عرف قدماء المصريين عين حلوان، وسمّيت في نقوش حجر رشيد الهيروغليفية "عين آن"، كرمز للأعمال الخيرية الإلهية. وازداد اهتمام المصريين بمياه حلوان المعدنية وعيونها الكبريتية في العصر الإسلامي. وأصدر الخديوي عباس الأول فرماناً ببناء منتجع علاجي في حلوان في أواخر القرن التاسع عشر، ودشّن مركز عيون حلوان الكبريتية لاستقبال السياح والمرضى على طراز عربي، وهو الذي أطلق عليه لاحقاً "مركز حلوان الكبريتي للطب الطبيعي والروماتيزم"، ليتضمن أنماطاً وأساليب متنوعة للعلاج، في الحمامات الكبريتية، وبالطمي الكبريتي، وفي الحمام المائي الكهربي، للتخلص من الأمراض والالتهابات العظمية والمفصلية والروماتيزمية والجلدية والعصبية والعضلية، والنقرس ولين العظام والربو، وبعض حالات الشلل، والنزلات الشعبية والدرنية، والأمراض التنفسية، وغيرها.
التدهور الشامل
المثير والمدهش في رحلة حلوان التراجيدية، هو أن آلة البروباغندا التي كانت تبيع الحلم، هي ذاتها التي راحت تبشّر بالكابوس دون أن تدري! فكما هللت وسائل الإعلام آنذاك للمدينة السياحية الاستشفائية العالمية غير المسبوقة، فإنها وصفت المصانع والمشروعات المؤسسية الرسمية الجديدة في حلوان، وعلى رأسها مجمّع الحديد والصلب ومصانع الأسمنت وغيرها، بأنها "السد العالي الجديد للصناعة المصرية". وباتت حلوان في هذه الجولة الدعائية هي "الصخرة" التي تتحطم عليها أسطورة أن مصر بلد زراعي فقط! والحقيقة، التي تجلت فيما بعد أن الأسطورة التي تحطّمت حقّاً هي أحلام ترويج حلوان كمدينة سياحية واستشفائية عالمية، وذلك بفعل التلوث والضجيج والفوضى والعشوائية وتغيّر الخريطة المكانية والسكانية للمنطقة، جرّاء التوسع في إنشاء المصانع غير المؤمّنة بالفلاتر القياسية، على هذا النحو المفرط وغير المسؤول.
غابة الإسمنت
وقد بلغت الكارثة مداها الأعلى سريعاً، فنسبة غبار الأسمنت والفحم والأدخنة في حلوان في الوقت الحالي، لا مثيل لها في العالم كله، ما يقلل الإشعاع الشمسي المرئي تماماً، ويعوق التمثيل الضوئي للنباتات، ويؤدي إلى انتشار الفطريات والأمراض الجلدية ولين العظام والربو وضيق التنفس والالتهاب الرئوي ولوكيميا الدم وخلل الجهاز المناعي والحساسية وغيرها من الأمراض الخطيرة، في المدينة التي سمّيت ذات يوم "مدينة علاجية". كما يعاني ملايين السكان، في مدينة الضوضاء لا الهدوء، من مخاطر انتشار القمامة والمجاري والبرك والمستنقعات الآسنة. كذلك، فقد أزيلت الحدائق والقصور والمتنزهات، وحلت محلها غابات الأسمنت من البنايات والعمائر غير المتناسقة، التي حجبت الجمال مع الهواء الطلق.
التلوث عنوان حلوان الحالية
وحتى الحديقة اليابانية، الأثر التاريخي الأخضر، فقد دمّرتها يد الإهمال الباطشة بآخر الظلال الحُلمية في حلوان، ولم تفلح مبادرات محافظة القاهرة المتعلقة بالحدائق المتخصصة في صيانتها وتطويرها، لضعف الميزانيات المالية، وسوء التخطيط والإدارة. فماذا يتبقى من حلوان الأمس القريب، وقد دمّر الإسمنت هدوءها وسلبها نقاءها وجمالها؟ وهل سيظل بوذا في الحديقة اليابانية، أم أنه سيفيق من تأملاته محتجّاً، ليرحل إلى الهدوء في الصحراء؟!
ماذا يتبقى من حلوان الأمس القريب، وقد دمّر الإسمنت هدوءها وسلبها نقاءها وجمالها؟ وهل سيظل بوذا في الحديقة اليابانية، أم أنه سيفيق من تأملاته محتجّاً، ليرحل إلى الهدوء في الصحراء؟
ولأن أبواب الأمل ونوافذه لا يجب أن تظل موصدة إلى الأبد، فلعله من الضروري الإشارة إلى مبادرة جديدة، عمرها أسابيع قليلة، لاستعادة حلوان الغائبة. هذه المبادرة هي "حلوان باللون الأخضر"، لنشر الوعي البيئي، وقد انطلقت بالتزامن مع مؤتمر المناخ الدولي في مصر في أواخر العام الماضي، وتهدف إلى استرجاع حلوان كمشفى عالمي مائي متميز، ومنطقة غنية بالحدائق. كما تأخذ المبادرة على عاتقها نشر التوعية، والدعوة إلى التشجير، والحد من التلوث، وإعادة تدوير المخلفات، وحماية البيئة الطبيعية، وتحسين جودة الهواء، وما إلى ذلك. فليتمهّلْ بوذا قليلاً إذاً، عساه أن يعيد النظر في قراره النهائي بشأن الرحيل!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 6 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت