شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
وهْم المركزية الأوروبيّة أو ماذا لو لم تولد البيتلز؟

وهْم المركزية الأوروبيّة أو ماذا لو لم تولد البيتلز؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 19 يناير 202303:05 م

تندرج هذه المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"

بدأ الفرنسي بيير بيارد مشروعه عن العوالم الموازية عام 2007، بكتابه "كيف نتحدث عن كتب لم نقرأها؟"، وتخللت أعماله بعده أعمالٌ مشابهة تراهن على فرضية "لو السحريّة"، كـ"ماذا لو غيّرت الأعمال الأدبية مؤلفيها؟-2010"، و "كيف نتحدث عن أماكن لم نزرها؟ -2012"، وسواها من المؤلفات التي صدر آخرها بعنوان "وماذا لو لم تولد البيتلز؟ -2022".

يشير عنوان الكتاب إلى فرقة البيتلز البريطانيّة الغنية عن التعريف، ويدلل نظرية سبق أن شاهدناها في عدة أفلام، كـ"عالم بدون بيتهوفن-2020" و"البارحة -2019" الذي يناقش فرضية اختفاء البيتلز من العالم ويشير إليه بيارد في الكتاب.

المختلف عن فرضيات "ماذا لو" التقليدية أن بيارد لا يحاول تقديم بدائل، بل يناقش كيف يمكن لفرقة موسيقيّة أن تخفي أخرى وتمنعها من الشهرة، بصورة أخرى، كان الممكن لو لم يكتشف رايموند جونز أعضاء فرقة البيتلز، أن تحل مكانها فرقة الـكينكس وتكتسح العالم وموسيقى البوب.

عوالم موازية بلا ماركس وفرويد وباسترناك

لا يقتصر الكتاب على البيتلز، بل يناقش مفهوم العالم الموازي بأكمله، وكيف يمكن لحدث واحد صغير أن يغير كل تصورنا عن العالم، لكن هذا التصور لا يعني اختلافاً جذرياً بل ربما استبدالاً، وتقنيات مختلفة في التأثير، فالكتاب مقسم إلى أربعة أقسام "كسوفات، تأثيرات، تأثيرات على الماضي، تدخلات" ويناقش في كل واحد منها أسلوباً لافتراض منشأ العالم الموازي، أو العالم الذي خضع لتغيير يجعله يختلف عما نعرفه.
تنتمي فرضية البيتلز إلى قسم الكسوفات، إلى جانب فرضية أخرى مفادها "ما شكل العالم بدون شكسبير"، التي يبدو الجواب عنها سهلاً، لو لم يكن صاحب "هاملت" حياً أو لم ينل الشهرة الكافية، لحل مكانه بين جونسون، في إشارة  إلى التغيرات التاريخية التي تؤدي إلى شهرة واحد على حساب آخر، فالعالم الموازي إذا لا يكتفي فقط بتغيير بسيط، بل تضافر مجموعة من القوى والمصادفات، التي تؤدي إلى انتشار شخص أو كتاب على حساب آخر.
هي حكاية عالم مواز لا توجد فيه فرقة البيتلز. نسي الناس فيه كل أغانيهم، ولا يتذكر أي أحد ألحانهم التي هزّت العالم... ماذا لو لم تولد فرقة "البيتلز"؟
نفس الأمر في الفصل الثاني، فعالم دون ماركس أو دون فرويد، لا يعني غياب الشيوعية أو التحليل النفسي، بل تأثيرات مختلفة من قبل آخرين كانوا سيساهمون بتشكيل العالم كما نعرفه، لكن بتعديلات طفيفة، ناهيك بالأثر الرجعي كما في الفصل الثالث، إعادة اكتشاف كافكا مثلاً غيّر نظرتنا للأدب، لكن غياب كافكا نفسه لا يعني تأخراً أو خلق عالم مختلف كلياً.

وهم الحتمية التاريخيّة الأوروبيّة

يراهن الكتاب على حتمية تاريخيّة من نوع ما، أي هناك مجموعة ظروف تتداخل في لحظة ما كي يظهر كتاب أو شخص أو فكرة، بصورة أخرى، هناك عوامل تاريخيّة لا فكاك منها، لهذا السبب لن نخوض في كل فرضية يضعها بيارد، كونه لا يبنيها على أساس مُتخيل، بل يقتبس من عالمنا نفسه ليشير إلى عالم موازٍ، فعوض عن "رأس المال "لكارل ماركس، الذي مات طفلاً مع أخوته، قد يظهر شخص آخر يؤلف  كتاباً آخر بعنوان كـ" ضد الربح:  مقاربات لنظام اقتصادي جديد".
سؤال المخيلة في العالم البديل في فرضيات بيارد جانبي، كونه يبحث في السياقات التاريخيّة، ويعيد التفكير بالقوى التي تساهم بترسيخ باسترناك وغياب منافسيه أو مجايليه الذين لا نعرف أسماءهم، و هنا يبرز ما هو ملفت، لا يوجد استثناءات تاريخيّة غيرت شكل العالم، بل هو على حاله، العبوديّة، وعصر التنوير، وصعود النازية... ، وما يسمى الأحداث التي صنعت التاريخ ليست استثناءات، بل جزء من دورة التاريخ نفسه الذي لا نمتلك مخططاً واضحاً عنه.
هذه الحتميّة التاريخية حين قراءة الكتابة يتضح أنها ليست سوى متخيل أوروبي، شكل من أشكال المركزية الأوروبية التي تقرأ الماضي وتعيد إنتاجه، وتصنف الأطراف والهوامش بناء على علاقتها مع هذا المركز، نشير هنا إلى فرضيات عبد الفتاح كيليطو، في نوع من التباهي الخجول، ونطرح سؤالاً لن يرضى عنه صاحب لسان آدم، مفاده "ماذا لو لم يكن هناك رسالة الغفران؟ هل ستعرف أوروبا الكوميديا الإلهية ؟"، هكذا سؤال يرسخ المركزية الأوروبيّة ودورها في إضفاء الاعتراف على نفسها وعلى من حولها، وهنا تظهر  فرضية العالم الموازي بوصفها إستراتيجية لقراءة الذات في علاقتها مع الآخر.
هناك جرح نرجسي على أوروبا أن تتصالح معه، وتقبل حقيقة أنها ليست مركز العالم، وتاريخها ليس التاريخ الوحيد، فهي ليست إلا قارة كباقي القارات، والأوروبيون ليسوا وحدهم في العالم
يحاول بيارد أن يضع حدوداً جمالية بين العالم الموازي والديستوبيا، ويمكن القول إن الأولى ذات منشأ علميّ، والأخرى تأتي من المخيلة، لكن ماذا عن "الرجل في القصر العالي"، هل التكنلوجيا هي التي فتحت بوابة نحو عالم مواز يحكمه النازيون، أم مخيلة الجمعية للأفراد المؤمنين بأن ما يعيشونه ليس الحقيقة؟خصوصاً أنهم قرّاء في رواية فيليب كايديك الشهيرة، وعشاق أفلام في المسلسل التلفزيوني المقتبس عنها؟
يشير بيارد إلى مفهوم الأعمال الخالدة، أو تلك الأعمال التي تشكل تاريخ النوع الأدبي، كدون كيخوتة وعوليس، وغيرها من النتاجات الأدبية التي شكلت تواريخ الأنواع، ويشير إلى قدرتها على فرض قراءة محددة ووضع قواعد لكيفية تلقي العالم وحكاياته. الإشكالي أن قيمة هذه الأعمال لا تأتي من فرادتها، بل من الشروط التاريخيّة والأذواق التي ساهمت بتسمية دون كيخوتة أول رواية، التسمية اللاحقة على تأليفها، وكأن الروايات الأخرى تناسلت منها، لكن لو لم يكن هناك دون كيخوتة، فهل هذا يعني اختفاء الرواية؟ الإجابة دون تعقيدات، لا .
يدعو بيارد في خاتمة الكتاب العلوم الإنسانية والنظرية الأدبية إلى الانفتاح أكثر نحو مقاربة العوالم الموازيّة، وقراءة التاريخ واحتمالاته المتعددة بوصفها جميعها صالحةً وفعالة، وفي الأسطر الأخيرة نراه يشير إلى جرح نرجسي على أوروبا أن تتصالح معه، وتقبل حقيقة أنها ليست مركز العالم، وتاريخها ليس التاريخ الوحيد، فهي ليست إلا قارة كباقي القارات، والأوروبيون ليسوا وحدهم في العالم.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard