"ما كان أهم من الكتاب بالنسبة إليّ... ما حفر أثره عميقاً داخلي، كان استمرار محمد في الكتابة للنفس حتى اليوم الأخير".
بهذه الجملة، افتتح الصحافي والروائي، والمحرر الأدبي أحمد سمير حديثه مع رصيف22 عن الرحلة الشاقة نفسياً لتحرير نصوص كتاب "أنا قادم أيها الضوء"، الذي أنجزه صديقه الراحل الصحافي محمد أبو الغيط.
صدر الكتاب بعد يومين من رحيل محمد إلى الضوء، ووفق موقع جود ريدز، هو ثاني أعلى الكتب قراءة في مصر. وأعلنت أمانة جوائز ساويرس الثقافية أمس الأحد 8 يناير/ كانون الأول، عن تكريم صاحب الكتاب لإنجازه المتميز في الصحافة والكتابة، وهي المرة الأولى التي تمنح فيها المؤسسة تكريماً لكاتب عقب وفاته.
ورغم رحيله المبكر، لا يزال محمد أبو الغيط واحداً من أهم الصحافيين المصريين، وتبقى تحقيقاته الاستقصائية العالمية التي أعدها أو شارك فيها ونال عنها العديد من الجوائز الدولية علامات بارزة على ملاحقة الفساد والإخلاص لحق القراء في المعرفة ولدور الصحافة في الكشف والتمهيد للمحاسبة.
إرث كبير تركه أبو الغيط في 34 عاماً هي كل عمره على الأرض. و11 عاماً فقط من العمل في الصحافة والكتابة، كان صديقه ومحرر كتابه أحمد سمير رفيقاً له في معظمها.
بعدما فرقهما المنفى شبه الإجباري ممثلاً في سفر محمد أبو الغيط عام 2014، ولد بينهما الحديث عن نشر كتاب لمحمد يعمل سمير على تحريره، وظلت الفكرة مؤجلة منذ عام 2015
يقول سمير: "المسيرة كانت متشابهة. كنا نواجه نفس التحديات تقريباً".
لمع نجما سمير وأبو الغيط ككاتبي مقال شابين لكل منهما طريقه وأسلوبه، جاءا إلى عالم الصحافة عقب ثورة 25 يناير، في وقت وصلت حرية التعبير والنشر في مصر إلى ذرى لم تشهدها من قبل، ووئدت سريعاً خلال بضعة أشهر، لكن قبل وأدها، كان اسما أبو الغيط وسمير قد ترسخا ككاتبين، أولهما مُخلِص للمعرفة والمعلوماتية التي ترجع ربما لخلفيته كطبيب، والثاني مُخلِص للتعليق السياسي السلس الخفيف الظل، وله طريقه الخاص في الكتابة السياسية الساخرة.
بعدما فرقهما المنفى شبه الإجباري ممثلاً في سفر محمد أبو الغيط عام 2014، ولد بينهما الحديث عن نشر كتاب لمحمد يعمل سمير على تحريره، وظلت الفكرة مؤجلة منذ عام 2015.
"ما كان أهم من الكتاب بالنسبة إليّ... ما حفر أثره عميقاً داخلي، كان استمرار محمد في الكتابة للنفس حتى اليوم الأخير".
"أنا قادم أيها الضوء"
عندما بدأ سمير عمله كمحرر في دار الشروق، سعى كثيراً لاستكتاب أبو الغيط، واقترح عليه أن تكون المقالات الإنسانية التي كان ينشرها في موقع كسرة نواة لكتاب، كما اقترح سمير على صديقه أن يجمعها عدد من الريفيوهات السينمائية ومراجعات الكتب التي كتبها محمد كنواة لكتاب آخر عن السينما أو عن الكتب، "لكن محمد كان يرى أنه عندما ينشر كتاباً، سيكون قد خطط من البداية أن يكون كذلك، وحول موضوع بعينه"، يقول سمير.
يواصل سمير حديثه عن صديقه: "كان يأمل أيضاً في تأليف الروايات، لكنه كان ينتظر حتى يصل إلى سن معيّنة، كان ينتظر النضج والتجربة"، يقول محمد أبو الغيط في كتابه الوحيد المنشور حتى الآن: "في حياتي البعيدة السابقة (ق. س) اختصار قبل السرطان، كنت أحب خوض التجارب. دائماً يحركني مزيج من الفضول والرغبة في مسابقة العمر قبل أن يداهمني الوقت".
عندما بدأ محمد في الكتابة عن مرضه في منشورات متتالية على فيسبوك، جمع أحمد سمير ما نشر منها حتى مارس/ آذار الماضي، في ملف وورد، فوجد أن إجمالي الكلمات يصل إلى 10 آلاف كلمة، كلها حول موضوع واحد: "نواة هائلة لكتاب بشروط أبو الغيط وأمنياته"، فعرض عليه الفكرة. يقول سمير: "من مارس (آذار) إلى سبتمبر (أيلول)، إذا ما واصلت الكتابة بمعدل 2000 إلى 3000 كلمة، فسيكون لدينا بحلول هذا الموعد ما يفي بالحد الأدنى لنشر كتاب 20 ألف كلمة"، هذا ما دار في عقل المحرر والصديق، ونقله إلى صديقه.
"كان الكتاب بالنسبة لمحمد، فرصة لمقابلة أصدقائه في القاهرة، ومناسبة لتوديعهم"... وهو ما لم يتحقق للأسف
أمل "المعرض"
كان الأطباء قد أخبروا أبو الغيط أن لديه عاماً أو عامين على أقصى تقدير، منذ إجراء العملية الأولى له، عاش منها 13 شهراً، لذا كانت الخطة أيضاً مناسبة له، فكما أخبر صديقه: "كل خططي وطموحاتي لا تتضمن سوى معرض الكتاب القادم"، في إشارة إلى دورة المعرض التي ستنعقد في 26 من يناير/ كانون الثاني الجاري.
يقول سمير: "كان الكتاب بالنسبة له فرصة لمقابلة أصدقائه في القاهرة، ومناسبة لتوديعهم"، وهو ما لم يتحقق للأسف.
كان محمد أبو الغيط يأمل بشكل خاص في أن يقابل أصدقاءه في منتدى شبكة روايات التفاعلية التي شهدت ظهوره الأول في عالم الكتابة عام 2005، قبل أن يجذبه عالم الصحافة، منطلقاً من تدوينته الأكثر شهرة "الفقراء أولاً يا أولاد الكلب"، وكذلك كان يرغب في رؤية زملائه في جريدة الشروق حيث عمل بعض الوقت، وأقاربه الذين لم يرهم منذ منفاه الاختياري.
استقر الصديقان على أن كتاب "أنا قادم أيها الضوء" سيكون هدفاً واضحاً، وسيحقق لأبو الغيط ما أراد، أن يستمر في الكتابة من خلال موضوع يسهل فيه الانتقال من الخاص إلى العام، وأن يكون لديه قبل نهاية العام كتاب يقابل بسببه محبيه في معرض الكتاب
في البداية رغب محمد في أن يؤجل العمل على ذلك الكتاب تحديداً، وأن يحقق حلماً مؤجلاً بكتابة رواية، لكن مرة أخرى يتداخل عقل المحرر مع الصديق، وينصحه سمير – من واقع تجربته- أن الرواية فن كبير، معقد، قد يحتاج إلى قراءات كثيرة مختلفة عن طبيعة ما يقرأه ويكتبه أبو الغيط حالياً، ولا يكفي فيه أن تكون كاتباً بارعاً. يفسر سمير: "حجم خبرته في مجال الكتابة الروائية لم يكن كبيراً"، ربما أشفق عليه من طموح قد يخفق وقد يصيب خلال ذلك الزمن المحدود الذي أخبره عنه الأطباء: "من خبرتي أيضاً كمحرر، لم تكن فكرة الرواية جيدة بما يكفي ليغامر، أما الكتابة حول مرضه، فهناك نواة موجودة بالفعل، كتابة عظيمة تجر المرض إلى أرض قوة أبو الغيط الخارقة؛ استبصار الصحافي والكاتب البارع".
كان أبو الغيط يرغب في أن يكتب حول تجربة مرضه في مرحلة لاحقة: "أن يكتبها حين تنتهي، أن يخوض تجربة المرض للنهاية أولاً"، تمسكا بالأمل؟ ربما.
لكن هذا النقاش لم يأخذ وقتاً طويلاً، يوم أو يومين على الأكثر، وخلال مكالمة تلفونية طويلة استقر الصديقان على أن كتاب "أنا قادم أيها الضوء" سيكون هدفاً واضحاً، وسيحقق لأبو الغيط ما أراد، أن يستمر في الكتابة من خلال موضوع يسهل فيه الانتقال من الخاص إلى العام، وأن يكون لديه قبل نهاية العام كتاب يقابل من خلاله وبسببه أصدقائه ومحبيه في معرض الكتاب.
سلم أبو الغيط النسخة الأولى من الكتاب، في أكتوبر الماضي، نسخة تنقصها ثلاثة فصول، رآها هو وسمير هامة: فصل عن زوجته إسراء التي تكرر ذكرها في أغلب مواضع الكتاب، فصل عن والديه، وأخيراً فصل لماذا أكتب؟
مأزق الصديق والتزام المحرر
المفارقة أن سمير قبل تحرير الكتاب، لم يستطع أن يقرأ أكثر من فصلين على الأكثر: "كان الأمر صعباً على نفسي، وتعاملت مع مرض محمد من خلال الإنكار، حتى أنني قررت أن أضغط زر «آن فولو» لحساب محمد على فيسبوك، كي أتجنب رؤية النصوص، وأكتفي بدلاً من ذلك بمكالمة طويلة أسبوعية، أتحدث فيها معه عن كل شيء، عدا المرض". ولم يكن سمير يعلق كثيراً على أخبار تطوراته، يكتفي بالسمع ويمتنع عن التعليق. لم يفهم حجم المعاناة حقاً إلا عندما بدأ في تحرير الكتاب: "عندما أخبرني أن أمامه سنتين، كنت أظن بسذاجة أن ذلك يعني فترة أخيرة يمكن للمرء أن يقضيها في ممارسة نشاط، دون أن أدرك - عن عمد- أن جسده يتداعى. لكن تظل قدرة محمد على الكتابة هي الشيء الرحيم في كل ما حدث".
إتمام وتمام
سلم أبو الغيط النسخة الأولى من الكتاب، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نسخة تنقصها ثلاثة فصول، رآها هو وسمير هامة: فصل عن زوجته إسراء التي تكرر ذكرها في أغلب مواضع الكتاب، فصل عن والديه، وأخيراً فصل لماذا أكتب؟
كان اقتراح سمير الذي قرأ المسودة الأولى في 48 ساعة، وكذلك إدارة النشر في الشروق، أن تصدر الطبعة الأولى من الكتاب من دون تلك الفصول، ثم تضم لاحقاً في الطبعة الثانية، لكن أبو الغيط رفض وفضل استكمال الأجزاء الناقصة، واستمر في الكتابة. خلال تلك الفترة كانت الدار قد انتهت من مراجعة وتنسيق ماكيت للكتاب من دون الفصول الثلاثة، التي سلمها قبل أسبوع من دخوله في الغيبوبة الأخيرة.
كانت الرسالة الأخيرة من سمير، الرسالة الوحيدة التي لم يقرأها محمد لدخوله في الغيبوبة الأخيرة، وحوت النسخة الديجتال من الكتاب
يقول سمير: "كان هناك اقتراح بفصلين إضافيين، لكنه رأى أن الكتاب هكذا يصلح للنشر، قد يُضَم الفصلان في الطبعة اللاحقة"، وراجع محمد الماكيت والتعديلات والغلاف الذي صممه صديقه حسام سرحان.
كانت الفقرات الأخيرة في الكتاب قد أملاها على زوجته إسراء بعد أن فقدت أصابعه القدرة على الكتابة. وقتها، كان الأطباء قد أخبروه أن جسده يتداعى وأن كل ما تبقى له هو شهر على الأرجح.
عرض سمير خلال فترة تحرير الكتاب أن يساعد هو في إجراء التعديلات المقترحة، رفقاً بحالة محمد الصحية، لكن أبو الغيط أصر على تنفيذها بنفسه.
قبل الغيبوبة بيوم، دخل الكتاب المرحلة النهائية من التنسيق والمراجعة.
كانت الرسالة الأخيرة من سمير، الرسالة الوحيدة التي لم يقرأها محمد لدخوله في الغيبوبة الأخيرة، هي النسخة الديجتال من الكتاب.
يقول سمير: "لم أبالغ في الأمل ولا اليأس، لذا حتى عندما أخبرني بما قاله الأطباء بأن أمامه شهراً واحداً، لم أتعامل مع الكتاب على أنه نصه الأخير، من الوارد دائماً كسر الفترة المحددة".
كانت إدارة الشروق ممثلة في المهندس إبراهيم المعلم، قد وافقت على كل التعديلات التي طلبها أبو الغيط بخصوص العقد، لكن ما إن ذهب إلى الضوء، حتى قرر المعلم أن يكون صافي أرباح الكتاب لصالح أسرته.
وكان الفصلان الإضافيان اللذان خطط أبو الغيط لكتابتهما إذا ما أسعفه الوقت، هو مقال يقارن فيه النظام الصحي في بريطانيا بمصر، وآخر عن الطب البديل.
ربما لم يتسع الوقت لمحمد كي يكتب هذين، إلا أننا نأمل أن المستقبل قد يحمل لنا مفاجآت اختزنها لنا الراحل الألمع بيننا: محمد أبو الغيط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون