اثنان في هذا الجيل، يرتقيان حقاً لتجاوز الشك في أصالة ما يملكونه، ربما لأنهما مرا باختبارين هما الأعنف، علاء عبد الفتاح والصحافي محمد أبو الغيط.
الأول أكبر من مدون ثوري، بل ملهم لجيل ورمز لثورة مجهضة والثاني أكبر من صحافي، بل وصل في مهنته إلى آفاق تضارع أكبر الصحافيين العالميين، كشأن كل ما حلمت به الثورة ووعدت به، والاثنان – للأسف- يأسرهما مجاز رهيب وتافه: قهر السجن وقسوة المرض، رهبته في أنهما من يتحملان فاتورته كاملة، وتفاهته في عدم استحقاقهما لذلك، كأن السجن والمرض هما خطان تحت اسميهما للتشديد على أهميتهما وتفردهما بين جيلنا، هل كنا لننتبه للأمر لولا ذلك المجاز الأليم؟ ثمن الخطين ألم رهيب، والاسمان اللذان يعلوانهما، عزيزان على القلوب التي حلمت، وكل من مازال يحمل ذرة من نبل وكرامة في روحه.
والاثنان، إذ يحدثانا عن الألم، يرغبان في اكتشاف جذوره واقتلاعه.
الاثنان كلما تعاظم كربهما، كلما ازدادت شفافية رؤاهما وتثبتنا من معدنهما النادر الذي كان حاضراً من البداية، متوهجاً، ويصعب تزويره، والدليل أن يقظة ونباهة عقليهما، وحساسية روحيهما تشتد حدة ورهافة، رغم اشتداد السجن والمرض.
والاثنان، إذ يحدثانا عن الألم، يرغبان في اكتشاف جذوره واقتلاعه، بالنيابة عنا ومن أجلنا في الأغلب، حساسية تتجاوز ضيق الأنا، إلى نحن، تستقصي محيط الألم وأسبابه، تفهم دوائره المتشابكة المعقدة بعمق، تاريخه وأصوله ومستقبله ثم تحيل ذلك التعقيد إلى وضوح يجعل من إدراكهما للسجن، إدراكاً لسجننا نحن، من إدراكهما للألم إدراكاً لألمنا، والاثنان لا يضفيان على السجن والألم معان نبيلة، فلا أحد في رأيهما يستحق أن يسجن لساعة، أن يتألم لثانية، بل تنطلق أسئلتهما من كل ما يحرك الفكرة الأصيلة: الغضب، الاعتراض، ومن ثم محاولة الفهم.
علاء عبد الفتاح ومحمد أبو الغيط... الأول أكبر من مدون ثوري، بل ملهم لجيل ورمز لثورة مجهضة والثاني أكبر من صحافي، بل وصل في مهنته إلى آفاق تضارع أكبر الصحافيين العالميين
لا يوجد دليل أن جيلنا هو أكثر حساسية وذكاء من الأجيال السابقة، إذا ما نحينا الغرور وجابهنا الحقيقة بوضوح، إذ نالت الأجيال السابقة على الأقل تعليماً أعمق في فترة، أنقذهم فيها على الأقل بقايا الإيمان بالمعنى ووضوحه، أما نحن فمطحنة مبارك التي تربينا تحت رحاها ساكنة في جذور كل ما نظنه مثمراً، بحيث تترك تشوها في كل إنجاز، وفساداً في كل محاولة للتحرر، وتشويشاً لكل نظرة، وتسميماً للحواس. لكن إذا كنا لا نملك دليلاً، فإننا نملك علاء عبد الفتاح ومحمد أبو الغيط، لأنهما يمتلكان الحساسية والذكاء، فيمكن لنا أن نقول إننا أيضا حساسون وأذكياء، يمكن لنا أن نحتمي بمظلتهما من شمس الحاضر والماضي الجحيمية التي تفضح عوار أنفسنا، مقارنة بكل ما طمحنا إليه وحلمنا به.
رغم السجن والمرض، إلا أنهما بكل ما يملكانه من أصالة ومثابرة وشجاعة قلب وإرادة نادرة، دفعا سياج حياتيهما إلى ما بعد حدودها القصوى.
معهما لا يوجد حد لعمق الوجود والتجربة، وهذا درس من ألف. درس ثمين لنا عن الحياة ومعناها، من اثنين تمكنا طيلة حياتيهما، من الاتصال الدائم بجوهر حقيقتهما العميقة، عيش حياة غير منقوصة أو زائفة، لم تضطر يوما لتوسل الحب من شيء خارج تلك الحقيقة.
الاثنان كلما تعاظم كربهما، كلما ازدادت شفافية رؤاهما وتثبتنا من معدنهما النادر الذي كان حاضراً من البداية، متوهجاً، ويصعب تزويره
وكلامي ليس عزاء لهما في مصابهما، بل عزاءً لنا، وتذكيراً بأن نسعى على الأقل لأن نحيا مثل تلك الحياة، أن نستلهم من قوة إرادتهما المعنى.
في النهاية لا أملك إلا أن أطلب منكم قراءة نص سؤال الألم الذي نشره محمد أبو الغيط قبل أيام على صفحته على الفيسبوك، والذي يتحدث فيه عن تجربته مع ألم مرض السرطان، في رأيي ليس نصاً عادياً، بل هو واحد من تلك النصوص الإنسانية الكبيرة في تأثيرها، الملهمة والمهمة والقابلة للخلود، للقراءة في أي زمن ومكان وبمعزل عن الحدث الذي حركه، لأنه في الأساس مساءلة لمعنى الألم الإنساني في خصوصيته وعمومه، دعوة لفهم آلام الآخرين مهما كانت ضخامة آلامنا، ربما لأنه السبيل الوحيد لتخفيفها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...