تأخذنا الحياة بعيداً، تختبر جَلَدَنا ما حيينا، من يستطيع أن يتوقع أين ستحط به الحياة أو أن يعرف ما الذي ينتظره؟ تقلب الحرب الأحوال وتشتت العائلات وتدمر بعض أو كل الروح.
إنها الغربة ورحلة اللجوء من تجعلك تبدأ حياتك مرة أخرى من الصفر أو أدنى منه. لكنها الحياة من جديد تنير لك ضوءاً خافتاً في غربتك الحالكة. ووحده الحب يجعلك تصالح الحياة كل مرة وتغفر قسوتها السابقة.
"كنا مجرد صديقين افتراضيين، لم أكن أعرفه ولم يكن يعرف عني سوى كتاباتي التي أنشرها على صفحتي على فيسبوك". هكذا تبدأ مي جليلي (65 عاماً) مبتسمة كلامها.
"لكنني كنت أبحث عنكِ في وجوه الناس في شوارع مدينتك، تمنيت لو نلتقي صدفة".
يوجه سعيد الخالدي (68 عاماً) الحديث لمي.
ويتابع "أصدقائي حدثوني عنها كثيراً، قالوا عليك أن تلتقي بها، لكن تلك الصدفة المشتهاة لم تحدث آنذاك. قبل أن نلتقي كنت قد آثرت وحدتي وصرفت وقتي بالقيام بالعديد من النشاطات، وممارسة هوايات قديمة لي كالصيد والتصوير، لكنني لم أكف بيني وبين نفسي عن البحث عنها".
"قبل أن نلتقي كنت قد آثرت وحدتي وصرفت وقتي بممارسة هوايات قديمة، لكنني لم أكف بيني وبين نفسي عن البحث عنها". سعيد الخالدي، 68 عاماً
قبل أن يصبح سعيد الفلسطيني لاجئاً للمرة الثانية في هولندا، كان يعمل في سوريا كأستاذ لمادة الرياضيات في العديد من المدارس الحكومية، بالإضافة لنشاطه التطوعي كمدير تنفيذي لمكتب مجموعة "عائدون" في سوريا، التي تعنى بالتوعية بحق العودة للفلسطينيين عبر عقد المؤتمرات الشبابية والمحاضرات والمعسكرات. كانت حياة سعيد الاجتماعية في سوريا قوية وعلاقاته الاجتماعية متشعبة بمختلف فئات المجتمع.
بالإضافة إلى الجو العائلي الحميم الذي كان يحظى به، كان يجتمع معظم الأيام بعائلته الصغيرة حول البركة في حديقة منزلهم في مخيم خان الشيح في ريف دمشق، بينما تحضر زوجته القهوة للحديث عما دار في يومهما أو للنقاش حول مواضيع كثيرة.
كل هذا فقده سعيد في منفاه إذ صار كل من أبنائه في بلد مختلف، إبنه هاجر إلى هولندا مع عائلته، وابنته الكبرى ما زالت تقيم في دمشق مع عائلتها، أما ابنه الثالث ففي كوريا الجنوبية، وابنته الصغرى ومدللته تزوجت من أردني قبل سفره بقليل وهي في مدينة إربد.
وهكذا أصبح كل منهم في رقعة مختلفة من الأرض، وقد حطت الفاجعة الكبرى في حياة سعيد حين توفيت زوجته وأم أولاده حميدة بعد أشهر قليلة من وصولهما إلى هولندا.
حطت الفاجعة الكبرى في حياة سعيد حين توفيت زوجته وأم أولاده حميدة بعد أشهر قليلة من وصولهما إلى هولندا
عاش سعيد بعد رحيل زوجته أكثر من ثلاث سنوات في وحدة وحزن قاسيين. كره ذلك البيت الذي غابت منه وعنه زوجته، وانتقل للسكن في مدينة هاوزن الهولندية.
ترد مي: "أنا أيضا كنت وحيدة. كنت قد وصلت إلى هولندا قبل خمس سنوات، وألفت الحياة وحدي، ولو لم أحبذها. لا أحد يعرف وحشة أوروبا ومذاقها المر إلا من عاش بها وحيداً. بعد أن يختفي وهج الانبهار الأول بالمكان، تبدأ دوامة الملل وتكرار الأيام دون جديد. صارت كل الأشياء تبدو باهتة. كنت أزور ابنتيّ من حين إلى آخر في ألمانيا والنمسا لأقضي بعض الوقت مع أحفادي ثم أعود إلى بيتي في هولندا. وكان لديّ القليل من الأصدقاء الذين التقي بهم في فترات متباعدة. لكن الوحدة والكآبة كانتا تعششان في جدران شقتي الصغيرة. كنت أغرق في التفكير في حياتي في دمشق قبل أن آتي إلى هولندا وفي حياتي الخاوية هنا. كنت أتأمل النهايات. الموت كان يبدو قريباً، أقرب مما أتمنى".
كانت مي تعمل في سوريا أستاذة لمادة الفلسفة في مدارس حكومية، وقد قامت بتربية ابنها هشام وابنتيها هدى وياسمين وحدها بعد طلاقها من زوجها الأول، منذ ما يقارب الثلاثين عاماً، تقول: "لم يفارقني أولادي ليومٍ واحدٍ".
لكن بعد أن كبر أبناؤها أخذت الحياة كلاً منهم بعيداً، لذا قررت مي أن تركب البحر، أي أن تهاجر بطريقة غير شرعية، لتكون قريبة من أولادها.
قررت "مي"، أن تركب البحر، وتهاجر لتكون قريبة من أولادها وأحفادها، لكنها ظلت تعاني الوحدة حتى بعد وصولها إلى أوروبا.
كتبت مي رواية عن رحلة لجوئها تلك التي تصفها بأنها: "شاقة ومخيفة"، بداية بقطع الحدود بين سوريا وتركيا براً ثم ركوب البحر إلى أوروبا، لكن كتابها "جسر إزمير" لم يُنشر بعد.
يكمل سعيد: "تحدثنا أول مرة على فيسبوك لأمر لا أتذكره، ربما للحديث عن نشاط ذي علاقة بفلسطين، واتفقنا أن نلتقي. جلسنا في مقهى في وسط مدينة هيلفرسوم حيث تقيم مي، وهي تبعد عن مدينة هاوزن نصف ساعة. تحدثنا في شؤون كثيرة، كأن كلاً منا أوجد كوّة في جدران حياته ليدخل منها الآخر. تحدثنا عن ماضينا وذكرياتنا والحال الذي آل إليه واقع كل منا. فنجان القهوة الذي اتفقنا أن نشربه صار فناجين. ثم مشينا في السوق مثل صديقين قديمين التقيا مجدداً بعد أن فرقتهما المسافات والأزمان. كنا صادقين، لم نتجمل ولم ندّعِ ولم نزيّف حرفاً. كان لكلينا رغبة في تفريغ شحنات اليأس والحزن والغربة والوحدة".
تعلق مي: "لم أعتقد بأن القدر سيجمعنا أسرع مما توقعت. ركب سعيد في الحافلة وعاد إلى منزله وأنا عدت إلى منزلي والأفكار تعصف في ذهني، حتى أنني لم أنم ليلتها. انتابتني مشاعر غريبة ومختلفة، ولأنني أم وجدة لستة أحفاد دهشت مما شعرت. قلت لنفسي، اهدئي قليلًا، ما تشعرين به بعيد عن الواقع ولستِ أهلاً للمجازفة".
صورة لمي وسعيد.
لكن شيئاً تغيّر في حياتي لم أستطع كبحه، خاصة بعدما أرسل لي سعيد رسالة كانت خليطاً من التمني والود والشكر على حلاوة اللقاء وذلك الانسجام الذي ولد بيننا في ساعات قليلة. وتمنى في آخر رسالته لو نلتقي ثانية، وأنا أيضاً كنت قد تمنيت ذلك جداً في قرارة نفسي".
سرح خاطر سعيد مبتسماً لبرهة وهو يسمع ما قالته مي، كأنه يسترجع ذكريات بداية علاقتهما ثم أكمل الحكاية من حيث توقفت مي: "التقينا بعدها مرات، وفي كل مرة كنا نتأكد أننا سنقلل من وطأة الغربة والحزن لو عشنا سوية".
ارتبط سعيد ومي حين كانت قيود التباعد شديدة بسبب تفشي وباء كوفيد-19، لذا احتفلا بزواجهما في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2020، بعد شهرين فقط من أول لقاء بينهما، في حفل صغير جمع عدداً قليلاً من أصدقائهما في الغربة.
يكمل سعيد: "صرنا بعدها كأننا نعيش معاً منذ الأزل. لم تكن كل الأشياء سهلة، فكل منا يحمل عمراً من التجارب والأفكار والطباع المختلفة، لكن وحده الحب الكبير ما جعلنا نتجاوز كل الصعاب".
"كل منا كان يحمل عمراً من التجارب والأفكار والطباع المختلفة، لكن وحده الحب الكبير ما جعلنا نتجاوز كل الصعاب". سعيد.
يجلس سعيد لسماع الموسيقى الهادئة في معظم الأيام وهو يقرأ الكتب في صالة بيتهما الصغير والدافئ، بينما يختلس النظر من وقت لآخر للصورة المحببة إلى قلبه المعلقة على الحائط، إنها صورة جامعة لكل أولاده، بينما تعتكف مي في غرفة النوم لتكتب. لينتهي ذلك الانفصال المؤقت بينهما حين يتشاركان بإعداد الطعام في المطبخ بينما الأحاديث والنقاشات بينهما لا تنضب، أو حين يخرجان لممارسة رياضة المشي التي يحبها سعيد وصارت مي تمارسها برفقته بسبب تشجيعه لها، بعدما كانت لا تقوى عليها بسبب إصابة سابقة في قدمها.
توضح مي: "لم يكن أولادنا سعداء جداً بزواجنا، لكن كل منهم لديه حياته المستقلة بعيداً عنا، فقبلوا بزواجنا على مضض. حين قابل أولادي سعيد أحبوه لدماثته وطيب أخلاقه، إنه يعرف دوماً ما الذي عليه فعله أو قوله في حضورهم. وحين التقيت بابن وابنة سعيد كان اللقاء لطيفاً، فكلاهما كان يريد الأفضل لوالدهما".
تضيف مي: "لا أهتم نهائياً برأي أو كلام الناس حول شؤون حياتي. حتى لو التقيت سعيد في الشام كنت سأتزوجه، فنحن نعيش حياتنا لمرة واحدة، فلنعشها إذن وفق أهوائنا".
يقول سعيد: "الأيام تمضي الآن لطيفة سلسة، نتمشى ونذهب للتسوق ونقرأ ونكتب ونزور بعضاً من الأصدقاء والأقارب، ونسافر معاً من وقت لآخر. نقيم في الصيف في بيتي، وفي الشتاء ننتقل إلى بيت مي. الحقيقة أن الحياة صارت بوجود مي بجانبي أجمل".
تنهي مي حكايتهما بالقول: "يشجعني سعيد دوماً على الكتابة. نختلف أحياناً لكننا نتفق في أوقات أكثر. لا أعتقد بأن هناك عمراً معيناً للارتباط، نحن قد جاوزنا منتصف عقدنا السابع من العمر، والحب بيننا يكبر كل يوم ويأخذ أشكالًا أكثر عمقاً. لقد تغيّرت الحياة عن بكرة أبيها منذ تزوجنا، فلقد زاد انتماؤنا إلى المكان الذي نقيم فيه، وتبددت غربتنا لما التقينا".
"تبددت غربتنا لما التقينا". مي، عن قصة الحب التي تعيشها بعد الستين من عمرها
لعل كلمة السر في قصة مي وسعيد هي الأنس،كل منهما كان يبحث عن الأنس في غربته ووحدته فوجده في الآخر. وربما حكاياتهما تبين أن القلب لا يشيخ ولو شاب الرأس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون