شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
من كتف الملكة نازلي إلى خصر كاريوكا...

من كتف الملكة نازلي إلى خصر كاريوكا... "التلّي" المصري يلمع على الأجساد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الثلاثاء 10 يناير 202312:13 م

قطعة تُل وإبرة معدنية وخيوط ذهبية وفضية. أشياء عادية تصبح استثنائية إذا ما ضمتها أياد ناعمة، لتحولها بلمسة سحرية إلى قطعة فنية نادرة. إنه التلّي المصري المتفرد، الذي يحكي تراث الجدات ويبرز أنوثة الجميلات، ويزيد النجمات توهجاً ودلالاً.


بنت جزيرة شندويل

التلّي هو أحد فنون التطريز بخيوط الذهب والفضة على قماش التُل. هكذا تعرّفه شيماء النجار صاحبة مشروع المشغولات اليدوية "شاندا تلّي" هي بنت سوهاج وبالتحديد جزيرة شندويل التي اشتهرت نساؤها بمهاراتهن في تطريز التلّي، تؤكد النجار لرصيف22 أن اسم التلّي يرجع إلى الملك أتالوس من آسيا الصغرى، الذي اخترع فن التطريز بالذهب والفضة.

بدأت علاقتها بالتلّي عندما وقعت في غرامه وهي طفلة في عمر 12 عاماً، فتعلمت تطريزه من نساء الجزيرة الماهرات، وبرعت فيه حتى أسست مشروعها الخاص في عام 2000، وأصبحت مع الوقت مدربة محترفة للكثيرات. 

التلّي هو أحد فنون التطريز بخيوط الذهب والفضة على قماش التُل برسومات مستوحاة من البيئة الصعيدية  

تقول شيماء أن التلّى المصري يتم تطريزه على قماش التُل برسومات مستوحاة من البيئة الصعيدية. وقد راجعت صناعته وتجارته في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي حيث اقتصر ارتداؤه حينها على الثريات ونساء العائلة المالكة، فكان الشال أوالفستان التلّي من الأشياء المهمة والهدايا القيّمة التي تقوم الأم بإهدائها لابنتها ليله الزفاف.


عاشقة التلّي

لم تكن شيماء النجار بنت سوهاج الوحيدة التي وقعت في غرام التلّي. فلقد فُتنت به أيضا هالة فودة الأستاذة الجامعية منذ أن رأته في معرض "تراثنا" منذ عامين فانبهرت به وانشغلت بالبحث عن جذوره، قبل أن تؤسس مشروعها الخاص تحت اسم "تالّينا" الذي أحيت من خلاله هذا التراث لكن بشكل عصري.

هالة التي تدرّس الأدب الفرنسي في آداب عين شمس منذ ثلاثين عاماً تنفي عن نفسها أنها مصممة أزياء محترفة، فهي عاشقة للتلّي. لذلك لا تسعي لتحقيق ربح من مشروعها التجاري بقدر ما أخذت على عاتقها إحياءه، وتقديمه للجمهور المصري من جديد، بروح عصرية لكن مع الاحتفاظ الكامل بهويته كتراث نادر.

لهذا بحثت هالة في المراجع العربية والأجنبية عن بدايات التلّي في مصر فاكتشفت أنه كان الزي التقليدي للمرأة في صعيد مصر منذ منتصف القرن الثامن عشر، مؤكدة أن هذا تاريخ موثق حيث أشار الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أن محمد علي باشا قد احتكر صناعة التلّي في مصر في عام 1809 وحرص على تصنيع الخيوط المستخدمة في صناعته في القاهرة بمنطقة الخرنفش. ما يشير أن الصناعة كانت قائمة قبل ذلك بكثير، وأنها صناعة تقوم عليها تجارة رائجة.

تؤكد هالة لرصيف22 أن التلّي ظل الزي التقليدي لنساء الصعيد المصري لعقود طويلة. حيث كانت الفتاة تقوم بتطريز فستان زفافها بنفسها.


كيف وصل السحر المصري لهوليوود؟

في رحلة بحثها في تاريخ التلّي المصري اكتشفت هالة فودة في المراجع التاريخية المختلفة أنه ومع رواج السياحة الأوروبية في مصر خلال القرن التاسع عشر قامت شركة "توماس كوك" بتنظيم رحلات نيلية للأماكن السياحية، فكانت المراكب تنطلق من القاهرة إلى الأقصر وأسوان حيث أهم المقابر والمعابد الفرعونية القائمة، وكانت تلك المراكب تتوقف في أسيوط للاستراحة والتزود بالمؤن المختلفة، فوجدها أهل أسيوط فرصة لعرض إنتاجهم من التلّي، الذي لفت انتباه الأوربيات، فاقتنه النساء  حيث وجدن أن الشيلان المصنوعة منه مناسبة لاتدائها فوق القبعات الكبيرة لحماية وجوههن من الشمس والأتربة. ثم صار التلّى من من الهدايا التذكارية المرغوبة من مصر المحروسة؛ ومن هنا بدأت رحلة التلّي خارج مصر. لكنه ظل مقتصراً على الأغنياء حتى تغير الحال بعد أن أصبحت الرحلات الأوربية إلى مصر في متناول الطبقة الوسطى، فعزف عنه أثرياء أوروبا.  


أشار الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أن محمد علي باشا قد احتكر صناعة التلّي في مصر في عام 1809 وحرص على تصنيع الخيوط المستخدمة في صناعته في القاهرة بمنطقة الخرنفش. ما يشير أن الصناعة كانت قائمة قبل ذلك، وأنها كانت تجارة رائجة. 

تكمل: "مع كثرة الرحلات انتشر التلّي في أوروبا ومنها إلى الولايات المتحدة حتى وصل إلى نجمات هوليوود. لدينا صور لأشهر النجمات وقد ارتدين التلّي في مشاهد من أفلامهن، فقد ارتدته النجمة هيدي لامار  في فيلمها الشهير شمشون ودليلة في عام 1949، كما ارتدته النجمة الأمريكية كلارا بو في أحد أفلامها الصامته. كذلك عرفته نجمات مصر منذ منتصف الثلاثينات، فقد ارتدته أسمهان في فيلم غرام وانتقام 1944".

أيضاً ظهرت بالتلّي سامية جمال وتحية كاريوكا في العديد من اللوحات الاستعراضية السينمائية. وهو الأمر الذي انتقل لغوازي شارع محمد علي مما أدى لعزوف جمهوره عنه، وأدى ذلك إلى انحساره الذي استمر لأكثر من 60 عاماً، حتى تم إحياؤه في فترة التسعينيات على يد بعثة إيطالية عثروا على قطعة تلّي في أحد المتاحف هناك، فقرروا البحث عن أصلها وجاؤوا بها إلى الصعيد، وسألوا عنها وعن كيفية صناعتها، وبعد رحلة بحث عثروا على سيدة مسنة، أكدت أنها كانت تصنع مثلها في شبابها. وحاولت المسنة استعادة طريقة تطريزها وتذكرتها بالفعل، وعلمتها لخمس فتيات، والخمس علّمنها لخمس، حتى عادت صناعة التلّي للحياة مرة أخرى.


مبدعات ولسن عاملات

على الرغم من إقامتها في القاهرة؛ إلا أن هالة أصرت أن يكون مقر مشروعها في جزيرة شندويل. فنساء الجزيرة اشتهرن ببراعتهن في تطريرز التلّي. ويعملن به منذ سنوات طويلة وهن في منازلهن. لذلك رأت أن تتم جميع مراحل تحويل أفكارها إلى منتج ملموس هناك في سوهاج. بداية من غزل القماش بالنول السوهاجي، مرورا بقص الموديل وتطريز التلّي، ثم الحياكة والتشطيب. بهدف تنمية البيئة المحيطة به بالتوازي مع إحيائه.

ترفض هالة تسمية صانعات التلّي بالعاملات، فبرأيها هن مبدعات من طراز خاص، لكل منهن بصمتها الخاصة، فقد وصلن لدرجة من المهارة والإبداع تؤهلهن للمنافسة عالمياً على كل المستويات. لذلك تحرص دوماً على تقديرهن بالشكل اللائق، فهن أهم عنصر في صناعة التلًي على الإطلاق.  

يصل عدد رسومات التلًي إلى سبعين، جميعها تمثل رحلة العروس من منزل أبيها إلى منزل زوجها؛ بينما تمر في طريقها بمفردات البيئة الصعيدية كالنخل والجمل والمسجد والكنيسة والشمعدان والورود

يصل عدد "موتيفات" التلًي المصري أو رسوماته إلى سبعين كما تؤكد هالة والتي تشير إلى أنها جميعاً تمثل رحلة العروس من منزل أبيها إلى منزل زوجها؛ الذي يتم رسمه في هيئة نخلة أو جمل. بينما تمر في طريقها بمفردات من البيئة الصعيدية كالمنزل والمسجد والكنيسة والشمعدان والورود. كلها رسومات حرصت هالة على الاحتفاظ بها في تصميماتها فهي روح التلّي المصري كما تؤكد. لذلك ترفض دوماً اللعب في الموتيفات أو تغييرها بحجة التطوير.

منذ بداية مشروعها حرصت على أن تجعل التلّي تفصيلة أساسية في حياة المرأة المصرية، يمكنها أن ترتديه في أي وقت وكل مكان، فبعد أن كان مقتصراً على ملابس السهرة والمناسبات. أدخلت هالة أقمشة جديدة تتلاءم مع طبيعته. فاستخدمت أقمشة القطن والكتان والصوف، وجميعها مغزولة بالنول اليدوي، وصممت العديد من القطع التي تناسب الجامعة والعمل والمناسبات الرسمية. بهدف نشر ثقافة ارتداء التلّي في مصر، مؤكدة أنه يصلح لأي مناسبة ولكل مكان، فقط على المرأة اختيار القطعة المناسبة. فلا يقتصر ارتداؤه على النجمات كما يتصور البعض بعد أن ارتدته بعضهن مؤخراً في مناسبات فنية عديدة. ويرجع الفضل في ذلك للمصمم المبدع محمد سامي الذي كان أول من أدخل التلّي في فساتين المهرجانات الفنية.


نحلم بعروض عالمية 

لم يكن من الممكن الحديث عن التلّي دون اللقاء بالمصمم المصري محمد سامي الذي أعاد للتلّي مكانته وحجز له مكاناً مميزاً على السجادة الحمراء في المهرجانات الدولية.

ارتدته الأميرات والملكات وظهرت سامة جمال وتحية كاريوكا بالتلّي قبل أن ينتقل لغوازي شارع محمد علي مما أدى لعزوف جمهوره الثري عنه 


بدأ رحلته مع تصميم الملابس في عام 2003، لكن رحلته مع التلّي بدأت في 2014 كما يقول لرصيف22 عندما كان في زيارة لأحد معارض التضامن الاجتماعي، وهناك تعرف على التلّي واكتشف مدى جماله وعرف أن نساء سوهاج وأسيوط هن فقط من بين نساء الصعيد من تخصصن فيه.

تعرف سامي خلال تلك الزيارة على الموتيفات الخاصة بالتلّي وانبهر ببراعة تنفيذها ودقتها، فقرر الاستعانة بها في موديلاته للنجمات فارتدت تصاميمه الفنانة يسرا والإعلامية مني الشاذلي والسيناريست مريم نعوم.


يقول: "لن نستطيع الحفاظ على التلّي كتراث مصري أصيل بمحاولاتنا الفردية كمصممي أزياء، فالأمر يحتاج بشدة لدعم حكومي يمكننا من تسجيله في اليونسكو كتراث غير مادي مصري كما فعلت دولة الإمارات مؤخراً في التلّي الإماراتي، والذي يختلف كلياً عن التلّي المصري. لذلك فتسجيلها له لن يمنعنا من الإقدام على نفس الخطوة مطلقاً كما يتصور البعض. الأمر فقط يحتاج إلى جهة حكومية تتبني الأمر".

وأخيراً يقترح سامي أن تنظم الحكومة عروض أزياء دولية في الداخل والخارج لعرض تصميمات التلي عالمياً حتى يتم تأكيده كزي مصري خالص يعبر عن الهوية المصرية وتاريخها العريق.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image