جسر خشبي صغير يفصلنا عن هذا المتحف الذي يُعدّ قطعةً من روح أم كلثوم. يستقبلنا المكان القابع على نيل القاهرة بترحاب بالغ، فما أن تدلف أقدامنا داخله حتى نشعر أننا أمام مكان فريد بتفاصيله. الأشجار المحيطة بالمكان تستقبلنا لنشعر بأزهار حمراء ومساحات خضراء تخطف عيوننا عبر أشجار فريدة تحيط بسور المتحف، يسقبلنا رجال الأمن بملابسهم البيضاء على جانب طريق دخولنا، ولا صوت هنا يعلو على صوت أم كلثوم. على الباب يخبرنا أحد العمال قائلاً: "تفضل يا أفندم متحف أم كلثوم على الشمال".
قصر المانسترلي وقصة هدمه
هنا وعبر مساحة صغيرة (250 متراً مربعاً)، يوجد متحف سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم، وقد افتتح في 28 أيلول/سبتمر عام 2001 في عهد الرئيس الأسبق مبارك، ليشكل أحد مباني قصر المانسترلي في منطقة الروضة على ضفاف نيل القاهرة. ويتصدر حديقة المتحف تمثالٌ مجسم لها للفنان آدم حنين، تم نحته من الرخام الأبيض، وتوجد لافتة على شكل آلة قانون كُتب عليها باللغتين العربية والإنكليزية عبارة "متحف أم كلثوم".
نصعد بضع درجات من السلم فنصبح أمام باب المتحف، لكن قبل الدخول يتحدث الباحث الأثري أبو العلا خليل لنا عن تاريخ هذا المكان قائلاً: "جزيرة الروضة هي أقدم الجزر النيلية بحدود القاهرة، كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي لمصر. عُرفت الجزيرة بـ(الروضة) نسبة للبستان الذي أنشأه الوزير الفاطمي الأفضل شاهَنْشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي سنة 490هـ (1096م) في شمال الجزيرة، وقد سماه (الروضة)، فعمت التسمية على الجزيرة كلها إلى وقتنا الحاضر".
يضم متحف أم كلثوم في القاهرة مقتنياتٍ نادرةً وفريدة، ومن أهم المقتنيات العود الخاص بها، وبعض من مقتنياتها الخاصة وملابسها، كما يضم المتحف سجلاً صحافياً كاملاً عنها منذ العشرينيات
ويحيط بمتحف أم كلثوم أهم الأعمال التي خلدت جزيرة الروضة، وهو مقياس النيل الذي بني عام 247هـ (862م) في فترة الخليفة العباسي المتوكل على الله، على يد واليه على مصر، يزيد بن عبد الله التركي، وكان الهدف من المقياس هو قياس مناسيب المياه في نهر النيل لمعرفة قدرإرتفاعها من زيادة أو نقصان لعلاقتها الوثيقة بمواسم الزراعة وري الأراضى الزراعية، وما يرتبط بذلك من رخاء البلاد أو قحطها، وعليه يتم تحديد وتقدير "الخراج" أي ضريبة الأراضي، فقد كان عدم وفاء النيل وزيادته يفزع الناس ويزيد الغلاء وترتفع الأسعار ويذبح المسكين بغير سكين حسبما وصف المؤرخون.
كما يحيط بمتحف أم كلثوم أثر هام هو كوشك كبير بجنوب جزيرة الروضة، وهو الآن تحت التجديد الأثري، وقبل ذلك كان يشهد حفلات فنية خاصة بتراث أم كلثوم، وقد شيده حسن فؤاد باشا مناسترلي كتخدا خديوي مصر عباس حلمي الأول، عام 185، حيث شيد قصراً كبيراً وكوشكاً كبيراً، و"الكوشك" اصطلاح معماري يعني صالة كبيرة تحفّها الحجرات، وتبنى من الخشب، وتنقش على جدرانها الزخارف، وتكون من دور واحد، وقد أفلتت بقايا الكوشك من عوادي الزمن، فقد هدم وحلّت محله محطة المياه التي تجاور متحف أم كلثوم.
فساتين أم كلثوم
خلف الباب وعقب أن نستلم من موظف الاستقبال تذكرة الدخول (عشر جنيهات)، ونحمل صورة أم كلثوم وكأنها طابع بريد له شكل مميز، نجد على يميننا في مدخل المتحف نظارتها الشمسية المطعمة بالماس التي ظهرت في العديد من صور أم كلثوم الشهيرة، كما أن منديلها الأحمر المطرز الشهير قد عُلّق هناك.
ثم ندخل بصحبة صوت أمين المتحف، حيث نجد واجهة جميلة تضم مجموعة من الفساتين الطويلة التي ظهرت بها السيدة في حفلاتها الغنائية، فذلك فستان مطرز غنت به "الأطلال"، وهذا رداء أغنية "سيرة الحب".
يخبرنا أمين المتحف معلوماتٍ عن الصور المقابلة لفساتينها قائلاً: "هذه صور أفلامها الستة التي مثلت فيها، وقد ابتعدت لأسباب صحية عن السينما. وهذه صورُ كافةِ أنشطتها الخيرية، وصور مجهودها الحربي أثناء ما قبل حرب أكتوبر 1973.
نيشان الكمال قُدم لأم كلثوم رغم اعتراض الأميرات على اعتبار أنها فلاحة، ولكن الملك فاروق أصرّ على منحها إياه
ثم مجموعة صور تجمعها بالراقصة اللبنانية الشهيرة بديعة مصابني التي ساندتْها في بداية مشوارها الفني، وبجوارها صورة مع زوجها الثاني إبراهيم الحفناوي، ويقف بجوار الصور بفخامة شديدة، الغرامفون، إحدى الآلآت الصوتية من بيت أم كلثوم. ثم صور تسجل وتروي تفاعل الجمهور مع حفلاتها، وترصد تماهيهم الكامل معها، كما ترصد أشهر رواد حفلاتها، وصور أخرى لها في فرنسا ومع جيهان السادات، وصور في العديد من رحلاتها الخارجية".
فيلم عن قصة حياة أم كلثوم
نترك الصور ونشاهد فيلماً يروي قصة حياة أم كلثوم. هنا في صالة صغيرة عبر كراسٍ محدودة ومظلمة ندخل عالماً آخر. نصبح شركاء حقيقيين في فيلم وثائقي عن أم كلثوم يحتفي بمسيرتها الفنية ودورها في المجهود الحربي، ويرصد تحولات حياتها وبعض أدوارها الفنية، ليشهد رحلة صعود خاصة تنتهي بوفاة أم كلثوم، بصورٍ خاصة من مشاهد جنازتها ربما لم يستطع جيلي رؤيتها من قبل.
الفيلم سيناريو وإخراج إبراهيم الموجي، وهو فيلم يجعلنا نحتشد لهذه الموهبة العظيمة الإنسانة والفنانة أم كلثوم، فالموجي كان يؤمن دائماً، وهو يقدم أعماله أنه لا يبحث عن النقائص عند الناس، فنقائص العظماء هي سلوى الفاشلين كما يقول.
الأوسمة والنياشين التي حصلت عليها أم كلثوم
نخرج من الفيلم لنكمل جولتنا مع العديد من المقتنيات الهامة التي تتبع منطق الضوء والظل في الظهور، فهناك ركن مهم لمجموعة من الأوسمة والنياشين التي حصدتها أم كلثوم في مسيرتها، ومن ضمنها نيشان الكمال الذي منحه إياها الملك فاروق، ويأتي صوت أمين المتحف يقول:
"هذا النيشان قُدم لها رغم اعتراض الأميرات على اعتبار أنها فلاحة، ولكن أصرّ فاروق على منحها إياه عام 1946. وهناك العديد من الدروع والأوسمة، مثل قلادة النيل من الرئيس جمال عبد الناصر، ميدالية تسليح الجيش المصري، وسام الأرز الوطني، وسام الاستحقاق من سوريا، وسام الكفاءة الفكرية من المغرب، وسام الامتياز من باكستان، ووسام نوط الجمهورية من تونس.
خطابات القادة السياسيين لأم كلثوم
على إحدى الجدرايات صورة نادرة تؤرخ لشباب أم كلثوم بمفردها، وأخرى مع أخيها في بداية حياتها الفنية، وبجوارها مفكرتها الخاصة، وجواز سفرها الدبلوماسي، كما تضم الجداريات الأشعارَ الأصلية المكتوبة لأغانيها الشهيرة بخطّ يد مؤلفيها، مثل: "الحب كده" بخط بيرم التونسي، وقصيدة "سَلوا كؤوس الطلا"، بخط أمير الشعراء أحمد شوقي، وعليها بعض التعديلات التي قامت بها أم كلثوم بنفسها، و"حيرت قلبي معاك" لأحمد رامي، و"إنت عمري" بخط أحمد شفيق كامل، وقصيدة "هذه ليلتي" بخط جورج جرداق.
بعث الرئيس التونسىي الحبيب بورقيبة لأم كلثوم خطاباً يشكرها فيه على العناية بزوجته أثناء مناسك العمرة، وهناك خطاب من السيدة جيهان السادات تشكرها فيه على تبرعها بخمسة آلاف جينه لجمعية الوفاء والأمل، وخطاب من عبد الناصر تحيةً لما قدمته لللوطن ولثورة يوليو... موجودات متحف أم كلثوم
وفي المقابل لها عدد من الخطابات الهامة التي أرسلها لها القادة السياسيون؛ فقد بعث لها الرئيس التونسىي الحبيب بورقيبة خطاباً يشكرها فيه على العناية بزوجته أثناء مناسك العمرة، وهناك خطاب من السيدة جيهان السادات تشكرها فيه على تبرعها بخمسة آلاف جينه لجمعية الوفاء والأمل عام 1973، وخطاب من الرئيس عبد الناصر تحيةً لما قدمته لللوطن ولثورة يوليو، وخطاب من الرئيس السادات يشكرها على تبرعها للجيش. أيضاً من ضمن العقود المهمة للمتحف هو أول عقد وقعته أم كلثوم مع الإذاعة المصرية عام 1934، والذي تقاضت بموجبه 25 جينه لكل حفلة، على أن تحيي حفلة كل أسبوع.
مكتبة المتحف
رحلت أم كلثوم عن عالمنا في 3 شباط/فبراير 1975، بعد معاناة من التهاب الكلى، وكانت قد سافرت إلى لندن للعلاج ولكنها توفيت. وبالمتحف مكتبة تضم أرشيفها الصحافي، وكثيراً من الكتب والمجلدات التي كتبت عنها. يتحدث حاتم البيلي المشرف على المتحف لرصيف22 قائلاً: "المتحف يضم مقتنيات نادرة وفريدة ويحظى بزيارات من العالم العربي كله، ومن أقيم المقتنيات بالمتحف العود الخاص بأم كلثوم، والذي كانت تعزف بنفسها عليه، إلى جانب مقتنيات عديدة نادرة وفريدة من مقتنياتها الشخصية وملابسها. كما يضم المتحف مكتبةً سمعبصرية تضم شاشات تستعرض أغانيها وأصوات حفلاتها ورحلاتها الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى سجل صحافي كامل عنها منذ العشرينيات".
زوار المتحف
خلال جولتي بالمتحف كان يوجد العديد من الزوار المصريين والعرب. تقول لنا ندى عادل، طالبة دراسات حرة بكلية الفنون الجميلة: "شعرت أنني فى زمن آخر، زمن أم كلثوم. كل شيء يؤرخ لعصرها. وأعجبتنى فكرة الإضاءة بداخل المتحف، فهي غير مبالغ فيها، وكأننا نشاهد كلَّ ألوان المقتنيات بلونها الطبيعي".
شعرت أنني فى زمن آخر، زمن أم كلثوم
منى صالح عوض، مدرسة بمدرسة النور للمكفوفين قالت لنا: "زرت المتحف بصحبة أولادي ووجدت أنهم يشعرون بسعادة غامرة رغم أعمارهم الصغيرة، فقد شاهدنا مقتنيات فريدة عن أم كلثوم وشهدنا فصلاً من فصول عظمتها، وشعرت أنني أعود لهذا العصر، وتعرفت على الجوائز والنياشين التي حصلتْ عليها، وهذه معلومات لم أكن أعرفها قبل الزيارة".
بانوراما متحفية
يوجد بالمتحف بانوراما تحيطها من الجانبين صورتان لأم كلثوم من اليمين واليسار، حيث تُعرض على شاشة عرضها 15 متراً لقطاتٌ مختلفة تمتزج فيها صور أم كلثوم بمعالم مصر الأثرية والتاريخية، خلال 12 دقيقة، لتبدو أم كلثوم كأحد معالم مصر التي لا تفنى. وتسلمنا هذه البانوراما لباب المتحف للخروج لنودع قطعةً هامة من تاريخ مصر الفني والإنساني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون