من داخل قرى صعيد مصر، انطلقت رحلة الباحثة الإنثروبولوجية البريطانية وينفريد بلاكمان، في العام 1923، فرصدت حياة أهل الصعيد وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية وطقوسهم في المناسبات، وقد سجلت رحلتها وما مرت به خلال ست سنوات في كتابها "الناس في صعيد مصر/العادات والتقاليد" ترجمه أحمد محمود، ونشرت الطبعة الأولى منه عام 1995. فمن أي مدينة بدأت وكيف اختتمت رحلتها؟
استقلت القطار المتجه إلى الصعيد، وجلست جوار نافذة تطل على البيوت الريفية التي يغطيها النخيل المرتفع، تتأمل ملامح الناس ووجوههم التي لا تختلف كثيراً عن ملامح القدماء المصريين المرسومة على جدران معابدهم ومتجسدة في تماثيلهم.
استقبلتها الفيوم في مطلع الرحلة، ثم خطفتها أبراج الحمام المشيدة بطول الطريق، والبيوت المبنية بالطوب اللبن، المزدانة بالأطباق الصيني من الخارج كأنما لو كانت تعويذة لإبعاد الشر عن أهل البيت، ثم يخطف عينيها الباعة الجائلون الذين تظنهم مطربين شعبيين قبل أن تفهم نداءاتهم. كما أعجبت وينفريد بصوامع السعف التي تصنع في مدينة الفيوم دون غيرها من محافظات الصعيد، والتي ازدهرت صناعتها في منتصف القرن الماضي وتصفها بالقفة الكبيرة المجدولة المصنوعة من خوص النخيل ولها فتحة واسعة من الأعلى. احتكر الرجال صناعة هذا النوع من الصوامع دونما أن يكون للنساء نصيب من الصناعة بينما كن يصنعن الصوامع الطينية التي كانت تشيد خصيصاً لتخزين الغلال وحفظها من التلف والتعفن.
زارت وينفريد أسيوط وقنا، ولاحظت شيوعاً واضحاً لصناعة الفخار بهاتين المدينتين، واهتمت بمواد تصنيعه وطرق تجفيفه وعلاقة هذه الصناعة بتاريخ الآثار المصرية، وأهميتها بالنسبة لعلم الآثار نفسه.
انتبهت خلال رحلتها إلى المساجد بالقرى ولاحظت أن لكل قرية مسجداً أو أكثر ومدفناً واحداً، ودكاكين عدة، ولكل بيت مقاعد مبنية بالطوب اللبن يسميها الناس هناك "مصطبة". اكتشفت علاقة وطيدة بين الأهالي الذين يسكنون بجوار البحر اليوسفي، وهو فرع من ترعة الإبراهيمية يصب في منخفض الفيوم.
من داخل قرى صعيد مصر، انطلقت رحلة الباحثة الإنثروبولوجية البريطانية وينفريد بلاكمان، في العام 1923، فرصدت حياة أهل الصعيد وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية، وقد سجلت رحلتها التي امتدّت ست سنوات في كتابها "الناس في صعيد مصر/العادات والتقاليد"
يعتقد أهل القرى أن مياهه تشفي من الأمراض وتجلب الرزق. ولكل قرية سوق خاص بها يقام كل أسبوع وفي السوق تأخذ كل طائفة مكاناً مخصصاً لها، حيث تجد داخل السوق، سوقاً آخر يتجمع فيه بائعو اللحوم والطيور، وسوق لبائعي الأقمشة، وسوق لبائعي السمن والبيض، وسوق للأدوات المنزلية، وغيرها. وتظل بعض القرى محافظة على هذه العادة حتى يومنا هذا، فنجد في محافظة المنيا مركز ديرمواس، حيث تقيم قرية دلجا السوق يوم السبت، وقرية أبو خلقة يوم الخميس، وقرية نزلة البدرمان يوم الأحد، وغيره.
انجذبت وينفريد، في هذه الأسواق، إلى الحركة والحياة بداخلها وتوافر مختلف أنواع السلع بأسعار مناسبة، إذ لا تقتصر الأسواق على حركة البيع والشراء فقط، بل لفت وينفريد توافد أصحاب المواهب كالسحرة والحواة، والفرق الفنية مثل رواة السير الشعبية والفرق الإنشادية إلى هذه الأسواق.
وضع المرأة الصعيدية
اهتمت وينفريد بلاكمان خلال رحلتها في الصعيد بدراسة وضع المرأة الصعيدية داخل مجتمعها، وعايشت معاناة نساء الجنوب، اللائي لا تملك إحداهن حق التحكم في حياتها، بل توضع تحت رحمة الرجل. ثم ذهبت إلى اهتمام المرأة الجنوبية بجمالها واعتبرت أن الوشم أبرز ما كان يتزين به النساء، بالرغم من صعوبة تنفيذه آنذاك، إذ كانت تذهب المرأة لسوق القرية وتقوم هناك بعمل الوشم على الذقن بينما النساء المسيحيات يدقن وشم الصليب.
اللافت للنظر عند وينفريد، بخصوص زينة النساء، لباس المرأة الصعيدية التقليدي الذي اعتبرته رمزاً من رموز الجمال في القرى وكانت تخاف أن يتبدد هذا الجمال إذا اختلط بالملابس الإنكليزية التي كانت قد بدأت تغزو المجتمع المصري في مطلع القرن التاسع عشر.
راقبت وينفريد الطقوس النسائية للإنجاب إذ شاهدت بعض النساء يأخذن عظام الموتى من داخل المقابل المهجورة للقفز عليها لضمان الإنجاب، وأيضاً الطواف حول المعابد الأثرية أو زيارة أضرحة الأولياء الصالحين، والتبرك بهم، ورأت امرأة يوضع على بطنها قرص من العجين وثبت بمنتصفه قلاحة ذرة مشتعلة ثم يضغط عليهما بقدر فخار ثم ينتهي الطقس بسحب القدر مرة أخرى، وعرفت أن هذه الطريقة تفعلها النساء كواحد من طقوس الخصوبة آنذاك إلى جانب طرق أخرى.
اهتمت وينفريد بلاكمان خلال رحلتها في الصعيد بدراسة وضع المرأة الصعيدية داخل مجتمعها، وعايشت معاناة نساء الجنوب، اللائي لا تملك إحداهن حق التحكم في حياتها بل توضع تحت رحمة الرجل
عايشت وينفريد في الصعيد صراعات الثأر بين العائلات واعتبرت قانون الثأر عائقاً كبيراً في تحقيق العدالة بين الناس.
حاولت اكتشاف المطبخ المصري، والتعرف على أكثر المأكولات شعبية في جنوب مصر، حيث تعرفت على خبز "البَتاو" إالذي يصنع من دقيق الذرة الشامية ويضاف إليه غلال الحلبة المطحونة لحفظه من التعفن، ويخزن داخل أسطوانة مصنوعة من الطين اللبن تسمى "طُباعة"، كما وجدت صناعات عديدة من المخبوزات كالعيش الشمسي والعيش الضلي وخبز المرحرح، والمخروطة والقادوسية، والفطائر، وجميع هذه الأطعمة تطهى في الفرن الطين "الفرن البلدي" وموقد "الكَانون".
طقوس الزراعة والحصاد
مارست وينفريد طقوس الزراعة والحصاد مع المصريين القرويين داخل الحقول، أعجبتها مهارتهم رغم بدائية أدوات العمل، كالشادوف، وهو أداة بدائية استخدمت لرفع المياه. ولأنها مهمة شاقة كان المزارع يغني أغنيات حزينة عند تنفيذها، واستخدم أيضاً آنذاك المحراث البدائي والساقية الطنبور.
راقبت وينفريد الطقوس النسائية للإنجاب إذ شاهدت بعض النساء يأخذن عظام الموتى من داخل المقابل المهجورة للقفز عليها لضمان الإنجاب
تستعد الأسرة لموسم الحصاد من الرجال والنساء والأطفال يشاركون جميعاً، ويستخدمون تعاويذ عدة لمباركة المحصول، مثل تعويذة عروسة القمح، وهي قطف افضل السنابل وجدولتها وتعليقها على باب الدار أو تقديمها هدايا للفقراء.
النورج كان أدارة درس محصول القمح، وبعده تتم غربلة المحصول وتخزينه في الصوامع، وفوق أسطح المنازل حتى تحميه أشعة الشمس من التلف، أما عند حصاد الذرة، كان الفلاح يوزع الفطائر على جيرانه في الحقل ويطلق النيران في السماء احتفالاً بالحصاد، وعند عودته إلى المنزل بالمحصول يربط على جبهة الجاموسة أو البقرة كيزان الذرة ابتهاجاً بالحصاد.
عالم السحر والسحرة
عالم السحر والسحرة لم يقف عند حقبة زمنية معينة في مصر، بل تنوع وتطور من فترة إلى أخرى منذ إلا أن وينفريد، حينما حكت عنه في كتابها، لم تذكر قصة سحرة فرعون رغم أنها تكلمت عن السحر في مصر القديمة، لكن التاريخ المصري حتى الآن لم يعط دليلاً واحداً على وجود ملك يدعى فرعون، لا بردية ولا جدارية ولا حتى مقبرة، وإن كانت هذه القصص حقيقية، فأين الدليل الذي يثبت صحتها؟ لكنها لاحظت انتشار الدجالين في القرى، ولكل قرية ساحر واحد أو أكثر، يلجأ إليه الأهالي لحل مشكلاتهم وشفاء مرضاهم ظناً منهم أن السحرة يتمتعون بقدرات خارقة، وتصل شهرة الساحر منهم إلى القرى المجاورة فيأتون إليه من كل حدب وصوب للتداوي وطلب المساعدة.
اكتشفت وينفريد أن الساحر في القرية يتمتع بهيبة كبيرة لدرجة أن الناس يخافون منه، ربما لأنه محترف في صناعة الشرّ، ويمكنه حجب الرزق عن الرجال ومنعهم من ممارسة الجنس، وقادر على حجب الرجال عن الفتاة الراغبة في الزواج، أو منعها من الإنجاب.
ولم يكن الرجال وحدهم يحتكرون هذا المجال بل كان هناك الكثير من النساء الساحرات، ولم يكن المسلمون وحدهم الذين يحترفون السحر، بل كان هناك مسيحيون أيضاً، لدرجة أن وينفريد تعرفت على الكثير من السحرة والساحرات، وكان لها صديقان منهم مسيحي ومسلم، وهما مشهوران في مختلف القرى.
كانت وينفريد تحضر الجلسات التي يقيمها السحرة وتعرفت على العديد من التعاويذ التي يستخدمونها وتكلموا معها عن التمائم والأحجبة التي يعطونها للأهالي بدافع مساعدتهم لحل مشكلاتهم. لم يقف الأمر عند هذا الحد حول السحر الذي كان يربط بين السحر والكنوز المدفونة تحت الأرض، واستخدام البخور لإحضار العفريت المسؤول عن حماية الكنز للكشف عنه وإخراجه.
لاحظت وينفريد انتشار الدجالين في القرى، ولكل قرية ساحر واحد أو أكثر، يلجأ إليه الأهالي لحل مشكلاتهم وشفاء مرضاهم ظناً منهم أن السحرة يتمتعون بقدرات خارقة، وتصل شهرة الساحر منهم إلى القرى المجاورة فيأتون إليه من كل حدب وصوب للتداوي وطلب المساعدة
يحظى الوالي أو القديس في القرية بمكانة رفيعة عند الأهالي، وكل المعجزات التي يختلقها الرواة تنسب لهم، ويُشاع بين القرويين عن القدرات الاعجازية التي يتمتع بها كل منهما، ولا تخلو قرية من قديس أو والٍ، وفي كل قرية تقام موالد سنوياً احتفالاً بهما، وربما كل يوم يحدث احتفال في قرية مختلفة بمولد أحد الأولياء أو القديسين. تحكي وينفريد عن التقديس الذي يحصل عليه الوالي بعد وفاته حيث يبنى له ضريح تعلوه قبة مرتفعة مزينة بالنقوش وتزرع حوله الأشجار. يظهر الوالي في المنام لأحد أهالي القرية ويطلب منه أن يبني له ضريحاً، وإذا تبول أحدهم جانب الضريح في يوم من الأيام فإن لعنة الوالي أو القديس سوف تصيبه لا محالة.
يذهب الأهالي إلى الضريح، ويطلبون منه تحقيق أمنيات لهم مثل الإنجاب، أو إنجاب مولود ذكر، أو طلب الزواج، أو حل مشكلة العجز الجنسي، أو طلب المال، وإذا حصل أحدهم على حل لمشكلته أو تحققت أمنيته يذهب إلى ضريح الوالي ويشعل له الشموع باعتبارها قرباناً له، إلى جانب كسوة جديدة للضريح أو وضع مال في صندوقه، وتكون هذه الهدايا والقرابين في شكل نذور يفي بها المرء إن تحققت أمنيته.
كانت تتعجب وينفريد من القيمة الكبيرة التي يبديها الأهالي للأولياء والقديسين، وكلها تعود إلى الحكايات التي تروى عنهم من معجزات وقدرات خارقة، مما يدفع الناس إلى تصديقها والإيمان بهم من خلالها، ولا تختلف القطوس والمعتقدات عند الأولياء المسلمين عن غيرها من معتقدات وطقوس القديسين المسيحيين، ويعترف المعتقد الشعبي القروي بسلطان القديسين والأولياء لأنهم يقدسون الموروثات الشعبية ويعتقدون بصدقها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...