بين روايتين متطرفتين للتاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، يُمزق الشعب المصري، بالأحرى يُباد، بأسلحة رواد هاتين الروايتين؛ الأولى هي تلك الرواية الرسمية الحكومية المناصرة للسلطة، والتي تُعلي من شأن الهوية الوطنية، والشخصية المصرية وسماتِها، ولأن أصحاب هذه الرواية هم أبناء أبرار للسلطة (أي سلطة)، فيقومون تلقائياً ببيع الشعب بثمنٍ بخس للأنظمة الحاكمة على مدار فترات التاريخ المختلفة.
وعلى النقيض من هذه الرواية الرسمية التقليدية، توجد رواية أخرى مغايرة، تسعى في الأساس إلى تفكيك هذه الرواية المتحجرة، وإخضاع كل عناصرها ودعائمها إلى التحليل والتفكيك، لتصوغ في النهاية روايتها الخاصة.
يُمكننا هنا أن نذكر مؤرخاً ممثلاً عن كل رواية لإبراز الفارق بين الرؤيتين؛ فعبد الرحمن الرافعي، على سبيل المثال، قدم سردية حكومية وطنية تمجيدية لعهد محمد علي، باعتباره مؤسس مصر الحديثة، وعلى النقيض من هذه الرواية، يُقدم الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في كتابه "كل رجال الباشا"، سردية مغايرة تماماً، تُصور عهد محمد علي عهداً للاستعباد، والخضوع والإذلال الذي عاشه المصريون حتى صار إرثاً تم توريثه من جيل إلى جيل. سرديتان على طرفي النقيض، لكنهما جديرتان بالقراءة والتأمل، لاعتمادهما أساليب ومناهج البحث العلمي بدقة.
السردية التفكيكية
من الواضح أن السردية التفكيكية، كانت الأكثر إغراءً لدى عدد من الباحثين أو المنظرين الجدد، وهؤلاء اعتمدوا هذه السردية في تناولهم للتاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، وصاروا يُشكلون تياراً ذا ملامح محددة؛ فهم لا يتسلحون بأي منهج علمي، ومن ثم تجيء كتاباتهم في صورة ملاحظات أو تأملات، ربما لا تفضي إلى شيء، ولأنهم أهانوا المنهج التفكيكي ذاته، فقد أسالوا كل شيء، ودعموا من دون وعي منهم، حالة السيولة الاجتماعية التي يلعنونها.
وبشكلٍ عام فإن الملمح الرئيسي في كتابات أصحاب هذا التيار، هو التحقير من كل ما هو مصري، والتشكيك في الهوية المصرية، والإعلاء من شأن القيم الغربية- هذا لأنهم أبناء أبرار لنظرية الغرب المتحضر والشرق المتخلف- وتصوير المصريين كمجموعة من العبيد في لغة استعلائية فوقية لا تخلو من السخرية.
وتتجلى هذه الملامح المُشوَّهه والمُشوِّهه، في كتاب "تاريخ العصامية والجَربَعَة... تأملات نقدية في الاجتماع السياسي الحديث" للباحث محمد نعيم، صدر عن دار المحروسة بالقاهرة 2021. علاوة على تصديره لكلمة "الجربعة" التي تشي بالاحتقار في العنوان، كان نعيم سخياً وفظاً في رصده لصور الجربعة المصرية، متحفزاً لأبسط السلوكيات، يُفتتها ويُحللها، ويُخرج منها جربعة ما مختبئة، حتى أنه يرى أن النيش المصري (قطعة من الأثاث، يُحتفظ فيها بتحف أو أشياء تعطي منظراً جمالياً)، صورة من صور جربعة المصريين، لأنهم من وجهة نظره لا يُقدرون الجمال، ولا يفهمونه، بل لا يستحقون أن يشعروا به، لأنهم كانوا فلاحين فقراء، وعبيداً، يُضربون بالكُرباج.
بين روايتين متطرفتين للتاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، يُمزق الشعب المصري، بالأحرى يُباد، بأسلحة رواد هاتين الروايتين؛ الأولى هي الرواية الرسمية المناصرة للسلطة، والرواية الثانية هي التي تسعى إلى تفكيك الرواية الأولى، وإخضاع كل عناصرها ودعائمها إلى التحليل والتفكيك
ومن اللافت أيضًا أن نعيم لم يتعرض لأنظمة الحكم الاستبدادية التي تناوبت على مصر، بنفس الحدة والعنف اللتين تسلحا بهما في تناوله للمجتمع المصري وتحولاته، وكذلك لم "يَحف" الحقبة الاستعمارية بكلمة، حيث شُغله الشاغل هو الشعب المصري الذي يُصوِر ويُجمِّل تاريخه في هذه الفقرة: "لا يوجد في مصر أبناء حَسَبٍ ونَسَب بالمعنى الذي يدعيه البعض، وتاريخ المصريين بالمعنى الواسع، هو تاريخ التخلص من الفقر ووصمته، وبدلاً من أن يعتبر المصريون أنفسَهم فقراء أو فقراء سابقين، ويحتفوا بقصص كفاح وعصامية أهلهم وأجدادهم المباشرين التي اعتمدت على الجهد والتعليم واستغلال اللحظات الطيبة في التاريخ التي سمحت بتكافؤ الفرص، راحوا يُنكرون هذا التاريخ لصالح ادِّعاءات كاذبة عن تاريخ خاص لتميز عائلاتهم أو أصولهم الاجتماعية".
ولعل المُطلعين على التاريخ الاجتماعي لمصر، وخاصة قبل حقبة التحديث في القرن التاسع عشر، سيتأكدون من صدق ما ذكره نعيم حول" الفقر والجوع والحرمان، والعبودية"، هذا العالم الأسود المُريع الذي عاش المصريون بين جدرانه الطينية، التي يُحطمها الفيضان كل عام، ليغطي الطين أجسادهم، ويصبحوا كائنات لا حول لها ولا قوة، لا ترى ذاتها وكذلك لا ترى غير هذا العالم الكئيب.
من الواضح أن السردية التفكيكية، كانت الأكثر إغراءً لدى عدد من الباحثين أو المنظرين الجدد، وهؤلاء اعتمدوا هذه السردية في تناولهم للتاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، وصاروا يُشكلون تياراً ذا ملامح محددة
ليست المشكلة في ما طرحه نعيم فهو تاريخ مُسجل، ولا يُنكره أحد، لكن المشكلة تكمن في اللغة الاستعلائية والفوقية التي يتناول بها التاريخ الاجتماعي للمصريين والتحولات والمنعطفات التاريخية التي مر بها الشعب المصري، فعلى مدار صفحات الكتاب، يتحدث نعيم بلسان أجنبي أو مستعمِر، وعندما تتعالى هذه النبرة الاستعلائية، كان على الفور يُدخِل نفسه وسط هؤلاء الفلاحين المصريين، فيقول مثلاً أنه على يقين من أن جده الخامس كان يبيت من غير عشاء، ثم يعود ليقول:"أجد نفسي ملتزماً بنحو أخلاقي وعقائدي بتبيان هذه الملاحظات والتناقضات، ولا أجد أي غضاضة في التعريض بها وإدانتها والسخرية منها، بل و (التحفيل) عليها، والاستمتاع بذلك أيَّما استمتاع".
وهكذا يتضح لنا أن غرض نعيم من هذه التحليلات النقدية للمجتمع المصري هو التحفيل، والاستمتاع، بل والانتشاء بالوضع المزري الذي وصل إليه المصريون.
وحتى لا نقع في نفس الفخ الذي وقع فيه نعيم وهو فخ "الاستسهال"، علينا أن نتتبع سرديته من البداية- هذا إن جاز أن نسميها سردية-؛ يقول نعيم في مقدمة كتابه، التي كتبها بالعامية المصرية، أن الدافع وراء كتابته لـ"تاريخ العصامية والجربعة" هو الاعتداء المستمر على ما تبقى من قيم جمهورية في مصر، والحط من شأن هذه القيم واحتقارها، خاصة مع محاولة التأسيس الأخيرة في فترة الثورة المصرية في 25 يناير. وهو يستخدم كلمة "التأسيس" لأنه يرى أن "الجمهورية" في مصر "مُبتَسَرَة ومؤجلة من لحظة تأسيسها عام 1953 ، وحتى محاولة التأسيس في يناير 2011.
ويُقدم نعيم في مؤلفه عدداً من الملاحظات الطويلة الخاصة بمسائل تخص التاريخ الاجتماعي في مصر وتاريخ الصعود الطبقي وتطور حياة المصريين آخر 200 سنة، وكيف أعاد الشعب تشكيل ملامحه على فترات زمنية سريعة ومتعاقبة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. كما أنه يتأمل ويرصد توابع الهزة المجتمعية الكبيرة، التي أحدثتها ثورة 25 يناير، هذه الهزة التي "دفعت الناس إما إلى مراجعة كل شيء في الماضي ولو برعونة، وإما التمسك بأي شيء من الماضي ولو بغباء".
ويُشير نعيم أنه ينتمي إلى المعسكر الأول الذي يسعى إلى مراجعة الماضي وتفكيكه، لرصد وتحليل الأوضاع التي ألقت بنا إلى هذه اللحظة الساخنة، حيث التغيرات والتحولات المتلاحقة السريعة، والثوابت التي باتت تتهدم بسهولة على مستوى الممارسة والفعل، والعوالم الجديدة التي تشكلت، كل ذلك، أفضى في النهاية –من وجهة نظره- إلى أن اجتماعنا المشترك كمصريين، يُشكل ما يُسمى بالأمة المصرية، بات ملتهباً وشائكاً على مستوى العلاقات بين: الدولة والمجتمع، وفئات المجتمع بعضها ببعض، وكذلك العلاقة بين الرجل والمرأة، أو علاقات العمل بين رجال أعمال وعُمال، وعلاقة المناطق والأحياء والأقاليم ببعضها ببعض.
رحلة العصامية المصرية
قبل النهضة التحديثية في القرن التاسع عشر، عاش أغلب سكان مصر، في فقر مدقع، ربما حتى الثلث الأول من هذا القرن، لم يمتلكوا شيئاً ولم يعرفوا ماهية الملكية، بل لم يعرفوا شيئاً عن النقود أو العملات المعدنية. سكنوا البيوت الطينية، شوتهم الشمس الحارقة وهم محنيو الظهر يعملون في الإقطاعيات والأبعديات الزراعية، ولا يتحصلون من جراء هذا العمل الشاق سوى ما يسد رمقهم، هذا إن وجد، وكانت الكرابيج تنزل على أجسادهم النحيلة إن رفع أحدهم قامته، مخلفة آثاراً دامية على الجسد، وكذلك صانعة لذاكرة سوداء من الاستعباد والقهر والظلم.
"لا يوجد في مصر أبناء حَسَبٍ ونَسَب بالمعنى الذي يدعيه البعض، وتاريخ المصريين بالمعنى الواسع، هو تاريخ التخلص من الفقر ووصمته"
ومع بداية تكوين الدولة الحديثة في عهد محمد علي انتفض هؤلاء الفلاحون، وخاضوا كفاحات مريرة من أجل تحسين أوضاعهم، متسلحين بمعان شريفة. وجدوا في التعليم (المدارس الأميرية)، منقذاً لهم من الوضع التعيس الذي يعيشون فيه، وراحوا يُلحقون أبناءهم بالمدارس، بل وربما يجوعون، ويقتطعون من قوتهم حتى يوفرون مصاريف أبنائهم، وخاصة بعدما رأوا بأعينهم ما يُحققه المتعلمون من نقلة إجتماعية.
هذه الرحلة العصامية التي خاضها الفلاحون المصريون، يراها نعيم قد طُمست وأبيدت بفعل ما يُسميهم "الجرابيع"، يقول:"لقد بَخَسَت تدهورات تاريخنا المعاصر حق وقدر رحلة المصريين العصامية نحو التطور والتحضر. حدث نكران لما صنعه بسطاء الفلاحين آخر مائتي عام من أجل تحسين حياتهم. طُمس تاريخ هذه الرحلة العظيمة في غمرة الادعاءات الطبقية الجربوعة الكذوبة لأبناء اللحظة الراهنة، الذين يريدون إعادة كتابة تاريخهم الشخصي كما لو كانوا ولدوا وفي خياشيمهم ملاعق مذهبة. صار الحاضر جربوعاً لدرجة نالت من كل معنى عصامي تأسس عليه تاريخنا، لنُترك وحدنا مع آبار لا تنضب من جربعة تحتاج إلى أن تُمزق بفؤوس ومناجل وربما جراكن كيروسين وكرات من لهب".
يعتمد "الباحث" هنا مبدأ التعميم البعيد كل البعد عن أي منهجية علمية، فهو يرى أن كل المصريين يُنكرون رحلة آبائهم وأجدادهم العصامية، وهذا بالطبع ليس أمراً مطلقاً ولا يصح تعميمه، فهناك الكثيرون الذين يفتخرون بالرحلة العصامية للأجداد ويتباهون بها، فثمة رواج الآن لهذه الحكايات التي تتمحور حول الصعود من الحضيض، لكن نعيم يرمي إلى ترسيخ شيء آخر، قالها بوضوح في فقرة سابقة الذكر وهي: "لا يوجد في مصر أبناء حَسَبٍ ونَسَب بالمعنى الذي يدعيه البعض، وتاريخ المصريين بالمعنى الواسع، هو تاريخ التخلص من الفقر ووصمته". فهو يريد لذاكرة الفقر هذه أن تظل حية ومشتعلة في نفوس وأذهان المصريين، وبالمعنى الشعبي يريدهم "ألا ينسوا أنفسهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...