تحركت بنا الحافلة السوداء المكتوب على زجاجها VIP وليتها لم تكن كذلك، فقد كانت شبابيكها مغطاة بستائر حالت كثيرًا بيننا وبين تفاصيل الأرض التي نمشي عليها. كنا عطاشاً جدًا لكل شيء يمر من أمامنا بسرعة، حيث الزملاء في الحافلة يتحدثون بلهفة المشتاق: هنا قريتي، من هنا هذا اسمها العبري أما اسمها القديم هربيا، أسدود، نعليا، المجدل...
كنا نمر باليافطات المعلقة على نهايات الشوارع فنقرأ الأسماء العبرية الجديدة ونضحك باستهزاء وقهر، إنها أسماء لا تشبه الأرض التي تصفها أسماء غريبة عنها، مثل وجوههم التي كانت تحاصرنا في الحاجز. لقد لفتني ذلك بصورة كبيرة، كنت أنظر في وجوهنا وأعيد النظر في وجوههم أثناء عملية التفتيش في الحاجز، كنا نشبه بعضنا بعضاً بصورة كبيرة في تفاصيل الوجوه واللون والطول، واللغة واللهجات، هم عكسنا تمامًا، لا أحد يشبه الآخر، هناك من كانوا من أفريقيا لهم بشرة سوداء، ووجوه من اليابان والصين مسحوبة العين، وأخرى شقراء من روسيا وتلك المناطق الباردة، لا يوجد أي تشابه بينهم إلا في الزي العسكري والبنادق، حتى إنهم لا يتكلمون لغة واحدة، كل شخص فيهم جاء من دولة معينة وما زال يحمل جنسيتها وله فيها الذكريات والأهل والعائلة الممتدة، لكنهم فضلوا السطو على أحلامنا بقوة السلاح، مثلما يفعل المرتزقة.
أذكر في انتظاري في صالة التفتيش أنني شممت رائحة بندورة مقلية، فسألت أحد الأصدقاء هل يشم مثلي تلك الرائحة؟ فقال: نعم، لكنه كذّب نفسه، فمن أين سوف تأتي رائحة قلي بندورة في هذا المكان؟ وبعد وقت قصير جدًا جاء ناحيتي رجل في الخمسين من العمر يستفسر مني إن كان هناك أمر يشغلني فقلت له: لا، فقال لي إنني أتلفت بشكلٍ مُريب وعلى هذا الأساس جاء نحوي. سمعت الرجل يتحدث العربية بطلاقة فعرفت أنه فلسطيني يعمل في التفتيش الخاص فأخبرته أنني شممت رائحة بندورة مقلية وسألت صديقي الذي أكد الرائحة ونفى الفكرة. فضحك الرجل وقال إنه بالفعل يعد البندورة المقلية في المطبخ المجاور، وقبل أن ينتهي حديثنا جاء الجندي المدجج بالسلاح ناحيتنا وسأل الرجال بالعبرية إن كان هناك مشكلة ما، فرد عليه الرجل أن الأمور على ما يرام، فسأل الجندي الرجل مرة أخرى عن مكان سكناي، فسألني الرجل بطريقة أظن أنها مقصودة، قال لي: من أي بلد إنتا؟! فقلت له من "أسدود"، فسمعها الجندي الذي حوّلت دولته اسدود إلى "اشدود" فامتقع وجهه وقال بلهجة صارمة أن عليّ أن ألتزم التعليمات ثم ذهب ليثير الرعب في مكان آخر. في ذلك الوقت أخبرني الرجل صاحب مقلاة البندورة أن الجندي يسكن في مدينة "أشدود".
كنا نمر باليافطات المعلقة على نهايات الشوارع فنقرأ الأسماء العبرية الجديدة ونضحك باستهزاء وقهر، إنها أسماء لا تشبه الأرض التي تصفها أسماء غريبة عنها، مثل وجوههم التي كانت تحاصرنا في الحاجز
جاءت هذه القصة بينما كانت الحافلة تمر بمدينة أسدود، فشاهدتها من بعيد. أراضٍ خضراء ممتدة وبقايا بيوت قديمة كالتي ماتت فيها جدتي وهي تشتهى زيارة واحد منها، والكثير من أشجار الجميز التي كنا نسمع عنها في حكايات الأجداد، وعلى الجانب الآخر عمارات فخمة مليئة بالتفاصيل الحديثة، وشقق سكنية ملونة، أظن أن ذلك الجندي يسكن إحداها وينظر كل صباح إلى السهل والشاطئ وبيوتنا المهجورة، ولا يسأل نفسه، أو ربما يهرب من السؤال، لكن الحقيقة تبقى تطارده، الحقيقة التي تقول إنه غريب عن هذه الديار، بأمارة ما يشاهده من بيوت ما زالت شاهدة على الذكريات.
ظلت الحافة تسير وعيون الجميع متسمرة ناحية الشبابيك التي حاولنا إزاحة الستائر عنها كي نملأ الفؤاد برائحة الزمان، فالشوق كان أعلى وأقوى من كل الستائر والحواجز، هذه هي البلاد إذن، هذه المروج والأشجار والأحراج الخالية. وقتها تذكرت أمي، هذه السيدة الشقراء التي قاربت على السبعين عامًا، عندما رأيتها والحزن ينز من أصابعها التي كانت تدفن بها شتلات الرياحين التي جلبتها من السوق للمرة العاشرة في غضون شهرين.
كنت أراقبها وهي تضع بكفيها الصغيرتين مقادير الرمل في دلو صغير بعد أن طلبت مني تخريمه، وأنا أفكر كيف أجعل شتلات الرياحين تنمو وتكبر كي تفرح أمي وأشاهد ضحكتها، أمي التي تنمو رائحتها في قلبي حتى أصبحت الظل الذي يساعد الروح على البقاء.
جاءت هذه القصة بينما كانت الحافلة تمر بمدينة أسدود، فشاهدتها من بعيد. أراضٍ خضراء ممتدة وبقايا بيوت قديمة كالتي ماتت فيها جدتي وهي تشتهى زيارة واحد منها، والكثير من أشجار الجميز التي كنا نسمع عنها في حكايات الأجداد
كانت أمي تزرع شتلات الريحان بمشاعر وردة الجزائرية وهي تقول: "شيلاك في نن عيني واللي بينك وبيني أشواق كل الأحبة وحنين المحرومين". فكثيرًا ما زرعت أمي النعناع والريحان في قوارير صغيرة، فكانت تنمو لأيام ومن ثم تنشف، وإن نجت لبضعة أيام يُقطِّع أوراقها قط هارب، أو طفل يتلمَّس أشياء الأرض فيخلعها. حاولت أمي كثيرًا أن تحمي شجيراتها لكنها في النهاية تموت قبل أن تشتم روائحها التي أصبحت أمنية الأماني لديها.
أمي الوحيدة لوالديها، والتي تملك عشرات الدونمات الزراعية في مدينة أسدود المحتلة، تتلمس مساحة بحجم كف اليد كي تزرع فيها شتلة ريحان لتضع أوراقها على طبيخ البامية الذي تحبه ونحبه من يدها ولا تجد لذلك سبيلًا!
لولا دولة "إسرائيل" المزعومة لكانت أمي الآن تمرح في بساتينها الوارفة، وتزرع الريحان والنعناع وتوزعه مخلوطًا بالبسمات على العابرين في طيفها الجنّة، وجه أمي الحزين وهي تغرس الشتلات في الأرض المصطنعة، قسماته التي كانت تحكي قصة لجوء طويلة وحرمان من متعة تحبها يكفي أن ألعن "إسرائيل" في اليوم ألف مرة، وأن ينمو عداؤها في قلبي بمقدار حزن أمي على سنوات عمرها التي لم تزرع فيها ريحانها في أرضها المسلوبة التي أمر بها الآن بتصريح لمدة عشرة أيام دون أن أملك حق التسكع فيها أو قطف ثمرة من البستان الذي أملكه.
وبحق قداسة الحزن الشخصي، وعيون أمهاتنا المثقلة بالحزن الدفين، لن نغفر ولن نُسامح، ولو بعد ألف جيل سنعود للطين الأول، وحنين الأمهات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين