شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لا وجوه غريبة في الضفة الغربية

لا وجوه غريبة في الضفة الغربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 6 أكتوبر 202205:09 م

المرة الأولى التي ركبت فيها التاكسي في رام الله/فلسطين، ذهبت إلى المقهى، أخبرت السائق اسم المنطقة وأغلقت الباب، مررت بتفاصيل قليلة، وبعض البنايات، وبعض السيارات، وبعض الوجوه التي من شدة تركيزي بها حفظتها، ثم وصلت. قال السائق: "تفضلي"، كانت هذه الرحلة القصيرة، والبطيئة جداً بسبب ضيق الشوارع واكتظاظ الناس فيها، مقدمة جيدة عن حجم المدينة التي تنتقل فيها من أ إلى ب بصعوبة، و"رجلك بتضلع البريك" بحسب تعبير السائق حينها.

يكتشف الزائر لمدينة جديدة شدة ملاحظته، تجاه الوجوه والأصوات والأماكن، وقد تأكدت بعد أيام قصيرة من وجودي في فلسطين وتنقّلي بين مدن الـ67 وأراضي الـ48 أنني أتفرّس في الوجوه وكأنني أرى ملامح الناس وأسمع أصواتهم للمرة الأولى في حياتي، أنتبه لكل ما حولي، وكان الشعور بالألفة يتملّكني، والقصد هنا ليس الألفة مع وطني الذي شرّد منه أجدادي قديماً، لا بل الألفة التي يشعر بها السائح في دولة ما، فيقرر العودة إليها كلما سمحت له الفرصة، والمفارقة أنني هنا لست سائحة بالمفهوم الذي عرفته عن السياحة، أنا هنا أجنبية أريد الإقامة في فلسطين، مهلاً، قلت أجنبية!

الأجنبي هو الذي ليس فلسطينياً وإن كان أجداده فلسطينيين، ويظل أجنبياً وإن كانت من دولة عربية أخرى، والأجانب في فلسطين التي لا تعرف السياحة، يحظون باحتفاء كبير ومستمر، ويأتي هذا الاحتفاء من قلة الزوار أولاً، ومن عدم قدرة الزائر على إخفاء حقيقة أنه من خارج البلد، ثمة شيء ما يكشف الغريب في هذه المدينة، ربما اللهجة، أو طريقة التمحيص في كل شيء، أو أن وجهه جديد، فالجميع يعرفون بعضهم بعضاً هنا.

القصد هنا ليس الألفة مع وطني الذي شرّد منه أجدادي قديماً، لا بل الألفة التي يشعر بها السائح في دولة ما، فيقرر العودة إليها كلما سمحت له الفرصة، والمفارقة أنني هنا لست سائحة بالمفهوم الذي عرفته عن السياحة، أنا هنا أجنبية أريد الإقامة في فلسطين، مهلاً، قلت أجنبية!

التغير الحقيقي الأول منذ أقمت في فلسطين كان في بعض المفاهيم التي عرفتها في الأردن بسبب كثافتها في السياق الطبيعي لحياة الناس، فقد لاقيت استهجاناً وبعض التهكّم عندما سألت عن عاملة منزلية أثيوبية أو فلبينية تساعدني في تنظيف البيت قبل أن أسكنه، وكان الجواب الذي حصلت عليه: "لا يوجد خادمات أجنبيات في فلسطين، هذا أمر ممنوع من إسرائيل، بحكيلك مع صبية تيجي تساعدك"، وقد جاءت الفتاة الفلسطينية لمساعدتي، ولم أجد لديها أي تشابه مع النمط الذي اعتدته من مساعدات المنازل سابقاً، فلم تكن خائفة، كما أنها أنيقة في مظهرها، ودقيقة في موعدها، ولم تنادني "ماما"، بل سألت عن اسمي ووجدت دلعاً له، هكذا يكون الإنسان في بلده.

ليس لدينا حارس عمارة، وليس لدينا فرن سوري، ولا يمكن لطرد الملابس الذي اشتريته عبر الإنترنت أن يصل إلى بيتك، لذا رتبي مع من يسكن في الداخل الفلسطيني ليوصله لك، ولا مطاعم يمنية هنا، وتقتصر خدمة "البدكير والمنكير" على اليدين فقط، هذه حقائق تلقيتها دفعة واحدة من المحيط بعد أسابيع قصيرة من الإقامة، كل موجود هنا فلسطيني، الناس، والخدمات، ونمط الحياة، في الحقيقة لا يوجد الآخر في فلسطين، هنا جنسية واحدة بتفاصيل حياتية خاصة، وبطريقة حياة مميزة عن كل ما يمكن أن تقدمه الدول الدامجة للجنسيات.

زرت أغلب مدن الضفة الغربية، التي تفصل بينها مسافات قصيرة لكنها تحتاج لساعات في السيارة أو المواصلات، وتتعثر أغلب الأحيان ويسوء مزاجك بسبب الحواجز والأزمة والتفتيش الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي كلما أراد، وقد حظيت بزيارة لحديقة حيوانات تشبه كل شيء سوى حديقة الحيوان، لكنها مليئة بالناس السعيدة، وزرت بعض الكنائس في بيت لحم، وتجولت في متاحف رام الله وحدائقها، وتعرفت إلى أسواق نابلس القديمة التي يشبهونها بالأسواق الشامية وهذا ليس حقيقياً من وجهة نظري، وأتفهمه من وجهة نظر فلسطينية، لكن سؤالاً ظل يطاردني في كل هذه الزيارات: كيف بغيّر الفلسطيني جو؟ أين يذهب!

الإجابة كانت خلال تجربة الإقامة في فلسطين، فبعد عام من المكوث هنا، صار واضحاً لي أن تغيير الجو في فلسطين هو أن تخرج من بيتك، لا حاجة لتذاكر طيران، ولا لزوم لأماكن مختلفة كل مرة كي تحقق المتعة المرجوة، الناس في هذا السياق يفكرون بطريقة بسيطة، الغني مثلاً بوسعه أن يتحمل تكلفة السفر العالية فيذهب إلى الأردن ويسافر من مطار الملكة عالية، أما ذوو الدخل المحدود، فتجدهم يجلسون في المقهى والحديقة ويتمشّون في السوق يغيرون أمزجتهم ويستمتعون بوقتهم بشكل شبه يومي، كأن الناس هنا تدربوا على آلية لقتل الشعور بالملل، وقد صرتُ مثلهم، لا أشعر في الملل؛ أذهب إلى المكان نفسه بصورة يومية ولا ينتابني شعور بالسخط بسبب قلة الخيارات.

لا تخلو البلدان المميزة من تناقضاتها التي تخلق هويتها الخاصة، وتجعل أثرها باقياً في كل من زارها أو عاش فيها، والتناقض في فلسطين يكمن في قلة الخيارات وكثرتها معاً، إن كافة أسماء ماركات الملابس العالمية متوفرة هنا، وعيادات التجميل تقدم آخر التقنيات التي توصل لها الاختصاص، وهناك حفلات لمطربين عالميين تقام بين فترة وأخرى، وأخيراً أقيم معرض الكتاب في منتصف أيلول/ سبتمبر الجاري، لكن شعوراً ما بأنني أعيش في قرية، أو في ريف ظل يسيطر علي.

فلسطين هي أم الطنافس الفوقا، لكن مع فارق أن أهلها يعرفون التكنولوجيا، ومنفتحون على العالم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن أي جديد يضاف بصورة فيزيائية إلى المكون الطبيعي لهذا الشعب يحظى باحتفال كبير، ففي معرض الكتاب ضحكت بعد ذهول لفترة قصيرة حين سمعت لهجة غير فلسطينية، وانتابتني رغبة في التعرّف إلى أناس جدد غير فلسطينيين، ورحبت بأًصدقائي العرب الذين استضافهم المعرض، فوجود "الأجنبي" هنا له نكهة خاصة، ويبعث البهجة لدرجة الهبل.

فلسطين هي أم الطنافس الفوقا، لكن مع فارق أن أهلها يعرفون التكنولوجيا، ومنفتحون على العالم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن أي جديد يضاف بصورة فيزيائية إلى المكون الطبيعي لهذا الشعب يحظى باحتفال كبير

أغنتني تجربة الحياة هنا، ووسعت رام الله الصغيرة تجربتي الإنسانية، ففي هذا المكان لا فرص كثيرة للضغينة والخصومة "الظاهرة"، ولا مفر من الناس إلا الجلوس في البيت، والجلوس مع الناس غالباً يكون من أجل النميمة، ولذتها هنا تفوق أي نميمة في العالم، لذا تطورت أدواتي في التعامل مع المحيط، وتمكنت بعد فترة قصيرة من الإقامة أن أتتبع الطريقة المثلى لإدارة حياتي ضمن المتاح والممكن، وأن أسترخي كما يفعل الناس؛ وربما هذه ميكانيكية دفاعية تمكننا من العيش في السجن الكبير هاهنا.

حتى اللحظة أستمتع في ميزة الأجنبي المقيم هنا، وربما بالنسبة للناس لا يختلف مظهري وتصرفي كثيراً عما يظهر في وجه آسيوي يتمشى في بيت لحم، رغم أنني أحاول بعض الأحيان أن لا يكتشف أمر أنني جئت من الخارج، لكن جملة واحدة في السوبر ماركت تكفي للكشف عن الأردنية المقيمة في فلسطين وتبحث عن "شنينة". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard