شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كريم يونس ... هل أضحك لصورتي القديمة أم الجديدة؟

كريم يونس ... هل أضحك لصورتي القديمة أم الجديدة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 7 يناير 202303:29 م

بعد أربعين عاماً من الأسر، يغادر كريم يونس زنزانته المظلمة، وها هو لون الجدران يتغير، مثل دهان، إلى الألوان المكثفة بالحنين إلى أحبابه وأقربائه في الخارج. نشأ الأسير المحرر، 67 عاماً، في بلدة عارة في الداخل الفلسطيني، ودرس المرحلة الابتدائية والإعدادية هناك، فيما تلقى تعليم المرحلة الثانوية بمدرسة الساليزيان في الناصرة، وخلال دراسته البكالوريوس بجامعة بن غوريون في النقب اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في السادس من كانون الثاني/يناير 1983.

وكتب يونس في رسالته للعالم قبل الإفراج: "ها أنا أوشك أن أغادر زنزانتي المظلمة، التي تعلمتُ فيها ألا أخشى الظلام، وفيها تعلمتُ ألا أشعرَ بالغربة أو بالوحدة، لأنني بين إخوتي إخوة القيد والمعاناة".

وليس غريباً أن يعلن كريم يونس عن عدم رغبته في مغادرة السجن، فهنالك في السجن الموحش، جمعته مشاعر مختلفة مع رفاق امتدت مشاركته لهم البوح والألم والحزن والخيبة، والضحكات لأربعين عاماً.

إنها خيبة جديدة زرعها الاحتلال الإسرائيلي في نفس كريم ورفاقه، وهي أزمة ازدواجية المشاعر، والاغتراب، حيث تم اجتثاث كل واحد منهم، من مجتمعه الذي اعتاده في الحياة، قبل الأسر، وتم إجبارهم على مجتمع جديد، لكن هذا المجتمع بمعايير مختلفة يقوم على شراكة الألم والمواقف القائمة على المعاناة، ومن الطبيعي أن تتشكل أصول جديدة لمشاعر ارتباط واعتياد بينهم داخل السجن، وهنا كريم كما غيره، يعز عليه مفارقة هؤلاء الشركاء، الذين هونوا عليه وحشة السجن لسنوات طويلة، فقد دخل السجن مأزوماً بمشاعر، وخرج منه مأزوماً بمشاعر أخريات، وها هو بعد عمر طويل من الظلم والإلغاء والقمع، يبدو حائراً مع المكان.

انزلاق العمر

ويتحدث كريم يونس في رسالته عن رفاقه في السجن، فهم يرقدون في صراع مع السجان وسطوته، وقبضة يده، وصراع من جانب آخر مع الزمن البطيء، والعمر الذي يمضي بهم غائبين عن المشهد عنوة، وكأن يداً امتدت لتخفي أجسادهم من الصورة الجماعية للعام. يكتب: "سأترك زنزانتي، وأغادر لكن روحي باقية مع القابضينَ على الجمرِ المحافظين على جذوةِ النضال الفلسطيني برمته، مع الذين لم ولن ينكسروا، لكن سنواتِ أعمارهم تنزلق من تحتهم، ومن فوقهم، ومن أمامهم، ومن خلفهم، وهم لا يزالون يطمحون أن يروا شمس الحرّيّة لما تبقى من أعمارهم، وقبل أن تصاب رغبتهم بالحياة بالتكلف والانحدار".

كتب يونس في رسالته للعالم قبل الإفراج: "ها أنا أوشك أن أغادر زنزانتي المظلمة، التي تعلمتُ فيها ألا أخشى الظلام، وفيها تعلمتُ ألا أشعرَ بالغربة أو بالوحدة، لأنني بين إخوتي إخوة القيد والمعاناة"

فهنالك في السجن، عتمة وشحوب، وضياع للأعمار، لكن الرفاق هناك، يضيئون مثل مصابيح، توشك على الانكسار، فالحجارة كثيرة في السجن، تلك التي تتراشق أمام وعيهم، وداخله، في مجتمع السجان الذي يمتلئ بالضربات والصراخ، وفوق هذا كله، تتحجم الحرية ما بين المكعبات الإسمنتية الضيقة، التي أسسها الاحتلال، ليهدر حياة الآخرين.

سؤال ساذج لا يحمل إلا الاستغراب، والصوت المختنق الخافت، لماذا يكتب كريم يونس رسالته للعالم، وقد أوشك على نيل حريته؟ ولا أعرف من باستطاعته أن يجيب، حتى يونس ذاته، لكن ما يهم هنا، هو الصورة التي تبدو عليها مشاعر الأسير، والأفكار المتزاحمة في وعيه، لحظة مغادرته للسجن، ففي داخله ذاكرة لخطى خطاها خارج السجن مع الألفة والضحك مع الأهل والأصحاب، حتى صار يعرف صمت الحجر، وقسوة وحدته.

لكنه في السجن عرف صوت الجثة، التي يحملها الأسير على ظهره، وعرف صوت خطى الموت، يرافق الأسرى في كل مكان داخل السجن، شاهد بعينه، كيف تتقدم الحجارة داخل الجدران، لتضيق على أجساد الأسرى، وتزيد من وحدتهم، وضيق أنفاسهم.

وعرف يونس في السجن سواد اليد، كما لم يعرفه من قبل، فاليد في العالم قد تكون في لحظة ما غصن شجرة يقدم ثمرة، لكن يد السجان مثل فأس حادة تضرب الرأس، والزمن، والعمر، والذكريات، وتحيل الجسد والوعي، إلى بالون متطاير، يدور في تيهه.

يكتب يونس: "سأترك زنزانتي، والأفكار فجأة تتزاحم، وتتراقص على عتبة ذهني وتشوشُ عقلي فأتساءل محتارًا على غير عادتي إلى متى يستطيعُ الأسير أن يحمل جثته على ظهره، ويتابع حياته والموت يمشي معه، وكيف لهذه المعاناة، والموت البطيء أن يبقيا قدرهُ إلى أمدٍ لا ينتهي، في ظل مستقبلٍ مجهول، وأفق مسدود، وأمل مفقود وقلقٌ يزداد مما نشاهدُ، ونرى من تخاذلٍ، وعدم اكتراث أمام استكلاب عصاباتٍ تملك دولة، بعدما توحشت، واستقوت بخذلان العالم، على شعب أعزل، حياته تُنهش كل يوم دون أن يشعر أنّ جروحه قد لا تندمل وأن لا أمل له بحياةٍ هادئة ومستقرة، ومع ذلك بقي ندًا، وقادرًا على الاستمرار".

حجم المرآة داخل السجن

ولست أدري ما هو حجم المرآة في السجن، لكنها مهما كبرت، فلن تكون بحجم مرآة الحياة، فالأزمة في السجن أزمة صورة، فلا يخرج السجين بعد العمر الطويل بنفس الملامح، ولا التفاصيل.

دخل كريم يونس قبل أربعين عاماً بصورة، والآن يعود للمرآة الكبيرة للحياة، المرآة المضيئة، لكن بملامح أخرى، لربما هو ذاته نسيها مع تراكم أشكال المعاناة داخل زنزانته.

إنه العالم في الخارج، عالم غريب عما اعتاده الأسير، لسنوات طويلة، وعليه أن يبدأ للمرة الثالثة، التعايش مع العالم، فمعايير الحياة قبل أربعين عاماً اختلفت، وتسارعت بشكل لا يمكن لوعي مغيب أن يتقبلها، ولنا أن نتخيل كيف لرجل اقترب من السبعين من عمره أن يبدأ في التعرف على العالم!

دخل كريم يونس قبل أربعين عاماً بصورة، والآن يعود للمرآة الكبيرة للحياة، المرآة المضيئة، لكن بملامح أخرى، لربما هو ذاته نسيها مع تراكم أشكال المعاناة داخل زنزانته

فكيف يكون على كريم يونس أن يقف صباحاً أمام مرآته الجديدة ويبتسم؟ هل يبتسم لصورته القديمة قبل السجن، أم بعد خروجه منه؟ على أي صورة يركن، إنها حياة واحدة، وجدها كريم يونس مخترقة، مثقوبة من المنتصف، يبدو حائراً فيها بين صورته القديمة وصورته الجديدة، إنها عتمة استمرت أربعين عاماً، وحين زالت، لم يعد الشخص يعرف ذاته.

هذا العالم لا يوجد له انعكاسات داخل الرجل الخارج من السجن، لا يوجد له مرايا تستطيع أن تعكسه بسهولة، هكذا، لطالما يسهم الاحتلال بإيجاد أشخاص غرباء عن الحياة.

يكتب يونس: "سأتركُ زنزانتي، بعد أيام قليلة، والرهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظةٍ لا بد لي فيها أن أمر على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو بالخذلان، ودون أن أضطر لأن أبرهنَ البديهيّ الذي عشتهُ، وعايشته على مدار أربعين عامًا، علني أستطيع أن أتأقلمَ مع مرآتي الجديدة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard