بعد رفض مجلس الإفراج المشروط في سجن الرملة الإسرائيلي، للإفراج العاجل عن الأسير الفلسطيني أحمد مناصرة، البالغ من العمر 20 عاماً، والذي يمرّ بظروف صحّية صعبة للغاية، إذ اعتُقل منذ سبع سنوات بتهمة "الإرهاب"، أُعيد مناصرة إلى زنزانته الضيّقة وسط دعوات فلسطينيّة وعالميّة للدفاع عن حقوق الأطفال الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة. وعلى الرغم من أنّ القانون الإسرائيلي "ينصّ" على "عدم توجيه تهم جنائيّة للأطفال" دون سنّ الرابعة عشرة، إلّا أنّ مناصرة اعتُقل طفلاً وهو ابن ثلاثة عشرة عاماً، في مطلع 2015، ودون أي سند قانوني.
حواس خاصة
يجلس مناصرة في زنزانته لمدة سبع سنوات، وبدلًا من أن يكتشف العالم، صار عليه أن يكتشف معان أخرى، من خلال التجربة الطويلة والقاسية مع الوحدة والسجن. والوحدة هنا، لها هيكل آخر يختلف تمامًا عن هيكلها في حياة البالغ. أحمد الذي - ربما - لم يكن يعي معنى الوحدة كمصطلح، إلّا أنّه كان عليه تجريب هذا المعنى واكتشافه، كمن وجد نفسه ملقىً في غابة كثيفة متشابكة، وفي كلّ حين، يطل عليه حيوان مفترس. ولأحمد حواسه الخاصة، التي تمرّنت على العبء الثقيل مع الخوف والوحدة والعتمة والطفولة التي تجمّدت في مكانها. ذلك الإيقاع البطيء، الذي تمضي فيه حياة طفل منذ كان في الثالثة عشرة من عمره، خرّب أشياء كثيرة، فالسجون أيضاً تفقدنا ملامحنا.
ربّما نسي مناصرة بدايات طفولته، ربّما، وربّما فقد مرونة ملامحه، لتتحوّل إلى ملامح ثابتة ومشدودة في مواجهة جدران إسرائيل… وربّما نسي كيف يضحك. من يعرف…
أحياناً، أتخيّل نفسي مكان أحمد مناصرة، أشعر كيف تسقط هذه العتمة تدريجياً على الصدر مثل قوالب أسمنت، وكيف يمكن أن يتكثّف هذا القلق ليصبح كلّ شيء بلا قيمة، وكيف يمكن أن تتحرّك الجدران وتركض!
أعقاب البنادق
تفيد هيئة شؤون الأسرى الفلسطينية،أن أطفال فلسطين يتعرضون خلال اعتقالهم لتنكيل مستمر، بما يشمل الاعتداءات الجسدية واللفظية، والركل بالأرجل والضرب بأعقاب البنادق، وكذلك "الشبح"، وهو الجلوس على كرسي لساعات طويلة، بالإضافة إلى الحرمان من النوم وقضاء الحاجة، وحسب وكالة الأنباء والمعلومات الرسمية الفلسطينية "وفا" فإن أكثر من خمسين ألف حالة اعتقال سُجّلت في صفوف الأطفال الفلسطينيين ممن هم دون الثامنة عشرة، منذ بدء الاحتلال لفلسطين عام 1948، إذ بلغ عدد الأطفال الفلسطينيين المعتقلين لدى الاحتلال الإسرائيلي حتى حزيران 2020 160 طفلاً، وعدد كبير منهم يتعرضون للتعذيب والمساءلة، في معتقلات "مجدو" و"عوفر" و"الدامون"، بالإضافة لعدة أطفال تحتجزهم مؤسسات اجتماعية إسرائيلية تقل أعمارهم عن 14 عامًا.
أيّ ظروف تلك التي يمكن تخيّلها من أجل وضع الأطفال في في السجون، ونزع فتيل الحياة من أجسادهم الضعيفة؟
أحياناً، أتخيّل نفسي مكان أحمد مناصرة، أشعر كيف تسقط هذه العتمة تدريجياً على الصدر مثل قوالب أسمنت، وكيف يمكن أن يتكثّف هذا القلق ليصبح كلّ شيء بلا قيمة، وكيف يمكن أن تتحرّك الجدران وتركض
تنص المادّة 16 من اتفاقية الطفل للأمم المتحدة على أنه "لا يجوز أن يجرى أي تعرض تعسفي أو غير قانوني للطفل في حياته الخاصة أو أسرته أو منزله أو مراسلاته". كما تؤكّد المادّة نفسها، على أنّ "للطفل الحقّ في أن يحميه القانون من مثل هذا التعرّض أو المساس"، وبعيداً عن هذه النصوص، فمن الممكن أن يوضع الطفل الفلسطيني بين أربعة جدران، ضاربين بعرض الحائط كلّ اتّفاقيات حماية الطفل في العالم، ويمكن أن يُعذّب ويُقتل وتُسلب منه أبسط حقوقه... بدون أيّ روادع حقيقيّة
فيديوهات مسربة
بداية، حُكم على مناصرة بالسجن لمدة 12عامًا، ومن ثم تم تخفيض الحكم لاحقًا إلى تسع سنوات، بتهمة "محاولة قتل" في مستوطنة إسرائيلية في القدس المحتلة، و"حيازة سكين". إذ كشفت الفيديوهات المصوّرة لحظة اعتقال مناصرة، عن تفاصيل كارثيّة، حيث تعرّض الطفل للضرب والتنكيل وهو ملقى في الشارع غارقاً في دمه لوقت طويل. ضُرب على رأسه وجسده بأقدام المستوطنين والمارّة، مما أدّى أن تغييبه عن الوعي، وبعد نقله للمستشفى الإسرائيلي، تبيّن إصابته بكسور في الجمجمة وانهيار حالته الصحيّة بالكامل.
وفي فيديو آخر تمّ تسريبه من داخل غرف الاعتقال، أظهر كم التعنيف والإرهاب الذي يتعرض له مناصرة، والضغوطات التي تُمارس عليه خلال التحقيق، من قبل المحقّق الذي لا يتوقّف عن الصراخ والتوعّد له. هذه الفيديوهات التي تُبيّن الحالة الصحية المتردية التي وصل إليها مناصرة، بعيونه المرهقة وملامحه الشاحبة، بالإضافة إلى افتقاره الكامل للتركيز وعدم درايته بالواقع، وكانت إجاباته في معظمها تفيد بعدم تذكر كل ما حدث يوم اعتقاله.
قبل كلّ شيء. لنفكّر كم هو مرعب أن تواجه هذا العالم كطفل من الأساس! فماذا لو خضع هذا الطفل لمختبرات العنف والتعذيب الإسرائيليّة المجهّزة؟ وكيف يمكننا أن نفكّر بطفل يجلس على كرسي الاعتراف، لمدّة يمكنها تفوق طفولته؟
بقي مناصرة خلال أوقات اعتقاله الأولى، رهن الاحتجاز في مؤسسة إسرائيليّة تضمّ "الأطفال الأحداث مرتكبي الجنايات"، وقد استمرّت فترات اعتقاله هناك حتّى بلغ الرابعة عشرة من عمره، ثمّ نُقل إلى سجن مجدو، لتبدأ رحلة شديدة القسوة، من خلال ممارسات التعذيب والتهديد والتنكيل الجسدي والنفسي، والعزل الانفرادي معظم الأوقات، بالإضافة إلى تكبيل يديه بسلاسل حديدية تربطه بالسرير، وفي حين لا يمكننا حتّى تخيّل وجود طفل في حبس انفرادي، فإنّ مناصرة يُحرم منذ سنوات طويلة من زيارة أهله وعائلته، الذين هم كتلته العاطفيّة المتبقّية خارج القضبان.
زقاق
أتذكّر في الانتفاضة الأولى، كنت حينها في التاسعة من عمري، عندما اختبأت في زقاق بين بنايتين مع توغّل جيش الاحتلال للحيّ الذي نسكن فيه. حينها، كان الخوف يتمشّى في جسدي، بينما أرى الجنود المكدّسين وراء كلّ جدار. تلك اللحظات، ظلّت فجوة بيني وبين فكرة الأمان حتّى وقت طويل، على الرغم من أنّ الجنود لم يروني، ولا أعرف كيف حدث ذلك، لكن، مشاعر الموت… عرفتها في تلك اللحظة، وعلى الرغم من معايشة هذه اللحظات لاحقاً أكثر من مرّة، في الحروب المتكررة على غزة، إلّا أنّني لم أقترب من الموت إلى هذه الدرجة، مثلما حدث خلال اختبائي في هذا الزقاق الضيّق، والفارق بين الحالتين بسيط، فلحظات الاقتراب من الموت التي كنت قد عشتها بالقرب من عائلتي، كان يمكنني التعامل معها، أحتضنهم، يحتضونني، الأنس لم ينعدم طوال الخطر، كنت أعرفه حقّاً، وهُنا، أشعر حقّاً بمعنى المثل الشعبي "الموت مع الجماعة رحمة". هكذا ربّما أستطيع التقاطع مع هذا الطفل، الذي تجمّد الزمن عند طفولته، وما زلت أتساءل حتّى الآن، كيف يبدد أحمد كلّ ذلك الفراغ الذي يحياه.
لنفكّر كم هو مرعب أن تواجه هذا العالم كطفل من الأساس! فماذا لو خضع هذا الطفل لمختبرات العنف والتعذيب الإسرائيليّة المجهّزة؟
يُمنع أحمد من تلقّي الرسائل من أهله، واللغة في هذا الحيز، كان بإمكانها استعادة جسد ربّما يشتاق لاحتضانه، والتي يمكنها أن تحميه من هذا الخوف الممتدّ بلا نهاية، كقطار لا يتوقّف ولا نهاية لعرباته، حتّى ولو بشكل بسيط. إلّا أنّ إسرائيل، قرّرت حرمانه من هذا الحقّ أيضاً لسنوات طويلة.
على الرغم من بلوغ مناصرة سن العشرين، إلا أنّه لا يزال طفلاً. ذكرياته توقّفت هُناك، في الزنزانة التي دخلها، ولم تعد له تجارب يمكن إطلاق عليها لقب "حياة"، فكلّ ما يراه أحمد هو وجوه المحقّقين والسجّانين والزنازين المعتمة، بالإضافة إلى أصوات السلاسل والأبواب ورائحة الرطوبة المتراكمة. إنّه ببساطة، خارج دورة الحياة بعد أن تمّ اختطافه وزجّه في عالم ليس له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...