يحقق الشاب الجزائري فاتح، وهو في العقد الثالث من عمره ومن بلدة درقانة (تقع شرق الجزائر العاصمة)، دخلاً معتبَراً يمكّنه من سد كل حاجياته الشهرية، من جمع النفايات البلاستيكية وبيعها إلى الورش والمصانع المختصة بهذا المجال.
يتجول فاتح، كل مساء، بشاحنته المسماة "هربيل" في الأحياء الراقية الأكثر إنتاجاً للنفايات البلاستيكية مقارنةً بالمناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، فالمدن في الجزائر تجد نفسها كل مساء مغمورةً بالنفايات والمواد التي يلقيها البشر، ومعظمها لا يصدأ ولا يتحلل بيولوجياً، وتبقى في البيئة عالقةً لفترات طويلة على غرار المنتجات البلاستيكية.
مصدر للعيش
يقول فاتح لرصيف22: "لم أكن أتخيل يوماً أنني سأخوض هذا المجال، لأسباب عدة أبرزها نظرة المجتمع الدونية إلى الأشخاص الذين يجمعون النفايات القابلة لإعادة التدوير من الحاويات والشوارع والمفارغ الكبرى، سواء العمومية أو العشوائية، بالرغم من الدور الكبير الذي نلعبه في تنظيف البيئة، وهناك منا من يساهمون في توفير فرص للشباب للاستثمار في هذا المجال، بالأخص أولئك الذين نجحوا في استحداث مشاريع خاصة بجمع النفايات البلاستيكية القابلة لإعادة التدوير".
"ناهيك عن هذا، فالأشخاص الذين يعيشون من جمع النفايات البلاستيكية، هم الأكثر عرضةً لخطر التقاط الأمراض، بالأخص الأمراض الجلدية والحساسية في الجهاز التنفسي والعينين، لأننا نتحمل روائح تزكم الأنوف ومناظر مقززةً وقبيحةً، ومعظمنا لا نلتزم بمعايير السلامة المهنية كارتداء الكمامات ووضع القفازات المطاطية".
ومن الأسباب التي دفعته إلى خوض هذه المهنة، يرد فاتح: "الراتب الذي أتقاضاه بشكل شهري، يمثّل دخلاً محدوداً، وثمن كل شيء يرتفع بشكل جنوني، لذلك قررت البحث عن وظيفة ثانية لكسب أموال إضافية".
"اخترقت المجال بمساعدة أصدقاء لي يقطنون في الحي الذي أقطن فيه، ويشتغلون منذ زمن في المجال ذاته، إذ عرّفوني على المؤسسات التي تعتمد على تدوير البلاستيك".
سراج شاب يقف على مشارف عقده الثالث، من محافظة المدية (إحدى أقدم مدن الجزائر إذ يقدَّر عمرها بألف عام أو ما يزيد عن ذلك، وهي عاصمة بايلك التيطري، وتقع على بعد 88 كلم جنوب الجزائر العاصمة)، وهو كغيره من الشباب الذين اختاروا مزاولة هذه المهنة للخروج من عالم البطالة، لأنهم وجدوا فيها فرصةً لتغطية تكاليف الطعام والمصاريف الشخصية ورسوم الجيب.
تجارب ناجحة... لكن!
قبل 6 سنوات من هذا التاريخ، بدأ الشاب سراج مهنته بجمع النفايات البلاستيكية القابلة لإعادة التدوير، كالقارورات البلاستيكية للمشروبات الغازية والمياه المعدنية ثم راح يبيعها إلى الورش والمصانع المختصة بهذا المجال.
لم يكن الخيار بين وظيفتين أيهما أفضل، بل كان بين البطالة والعمل
في البداية، كان سراج يجمع كل النفايات القابلة للتدوير، لكن مع مرور الوقت، وبعد خضوعه لدورات تدريبية في رسكلة البلاستيك، أصبح يصنّف النفايات التي يجمعها حتى يوفر الجهد والوقت، ويعتمد على وضع ثلاث حاويات للنفايات التي يجمعها، الأولى تخص النفايات البلاستيكية من نوع "بيوتي"، وتشمل جميع أنواع القارورات البلاستيكية، أما المجموعة الثانية فيطلق عليها "بياشدي"، وتشمل المفروزات الصلبة البلاستيكية بالكامل والتي تُحوَّل إلى مواد أولية بلاستيكية مكررة تُستخدم في إعادة التصنيع، ويطلق على المجموعة الثالثة "غرنيلي"، وتضم كل مخلفات البلاستيك.
ويكشف أن العشرات من الشباب أصبحوا يجنون رزقاً وفيراً في اليوم، من جمع النفايات البلاستيكية، يضاهي سقف 4،000 دينار جزائري شهرياً، أي ما يعادل 30 دولاراً أمريكياً، وقد يصل هذا المبلغ إلى حدود 550 دولاراً أمريكياً في الشهر الواحد، وهو ما يعادل الراتب الذي يتقاضاه الموظف شهرياً.
لكن سراج يقول إنه "لا يوجد امتياز من دون صعوبة، لأن هذا المجال يمر حالياً بمراحل حساسة وصعبة للغاية، بسبب الفوضى والاحتكار الممارَس من طرف المؤسسات الكبرى".
بعد نحو 15 سنةً من عمله في المهنة، أنشأ الشاب الجزائري مصطفى، مؤسسةً صغيرةً خاصةً بجمع النفايات البلاستيكية القابلة للتدوير بتمويل من الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، المعروفة بـ"أونساج"، فاشترى شاحنات النقل الصغيرة ووظف مجموعةً من الشباب الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على فرصة عمل، ليجوبوا مختلف الأحياء ويجمعوا الأطنان من النفايات البلاستيكية، ليتم فرزها وإعادة تدويرها على مستوى المؤسسة باستخدام آلات محلية الصنع.
"في البداية واجهت صعوبات واضطرابات عديدةً، إذ كنا نجمع كميات كبيرةً من البلاستيك من دون أن نجد من يقتنيها لقلة المصانع التي تذوّب البلاستيك وتعيد تصنيعه على شكل أوانٍ وتجهيزات منزلية بلاستيكية".
النفايات المجمعة غير خاضعة لنظام جبائي مما لا يسمح بإدخالها في دائرة الاقتصاد الرسمي.
عراقيل
ويقول إن "الجزائر تعاني من تأخر كبير في مجال استعمال التقنيات التكنولوجية الحديثة في إعادة تدوير النفايات البلاستيكية بالرغم من مساهمتها الكبيرة في دعم الاقتصاد الوطني".
"ولا تقتصر العراقيل التي تعترض مسار أولئك الشباب على استخدام الأساليب التكنولوجية فقط، بل تفتقر هذه الشعبة إلى قانون خاص على غرار الدول المجاورة من شأنه أن يسهّل على المستثمرين وحاملي المشاريع العمل في هذا المجال خاصةً من ناحية الإعفاء من الضرائب لكل مؤسسة تشتغل فيه".
هكذا يستهل الدكتور شناقر هشام، وهو أستاذ وباحث في البيئة في المدرسة العليا للغابات في محافظة خنشلة ورئيس جمعية الأرز لحماية البيئة، ويقول إن "كل مؤسسة تعمل في هذا المجال تساهم بشكل كبير في تخفيض فاتورة استيراد هذه المواد التي حسب آخر الإحصائيات تُرصد لها مبالغ ضخمة إذ تستورد الجزائر كل عام ما قيمته 2 إلى 3.5 مليارات دولار من البلاستك الخام، وهو ما يمثّل 95 في المئة من الحاجيات الوطنية، ومن المرتقب أن تصل الواردات إلى مليوني طن بحلول سنة 2030، ولذلك فهي تُعدّ ثاني أكبر مستورد لهذه المواد في إفريقيا والشرق الأوسط.
ويؤكد هشام أن المجتمع الجزائري يُعدّ من أكبر المجتمعات المستعملة للبلاستيك على الصعيد الدولي إذ أُدرجت الجزائر ضمن خمسة بلدان هي الأكثر استهلاكاً للأكياس البلاستيكية في العالم، وحسب الإحصائيات الرسمية والمؤشرات فإن 50 في المئة من النفايات المنزلية هي من البلاستيك، وأكثر من 70 في المئة منها تُرمى في الطبيعة وفي مياه البحر والوديان وتُحدث تلوثاً بيئياً كبيراً".
ويقدّر الأستاذ الباحث في البيئة في المدرسة العليا للغابات، القيمة الاقتصادية للنفايات البلاستيكية المخلّفة يومياً، بـ6 ملايين دينار، واسترجاعها وتثمينها يسمح بخلق 7،600 منصب شغل مباشر، وكذا توفير 3،700 طن من المواد الأولية الخام وهي في الحقيقة أرقام تدقّ ناقوس الخطر وتستوجب التحرك الآني من أجل حماية البيئة من جهة والاستثمار في هذا المورد المهم من جهة أخرى، ومسايرة العالم في هذا المجال.
نقص في مخابر التحليل
بدورها، تقول بسمة بلبجاوي، صاحبة مؤسسة ناشئة في مجال الاقتصاد الأخضر (تجمع المواد البلاستيكية بكميات كبيرة وتغسلها ثم تفتتها على شكل كريات صغيرة لبيعها إلى المؤسسات المحلية التي تستخدمها لصناعة منتجات مختلفة)، إن "مجال تدوير النفايات مجال اقتصادي اجتماعي وبيئي بامتياز، يمكنه توفير مناصب شغل وتحسين المستوى المعيشي والمحافظة على الأنظمة البيئية كما أنه مجال لدعم الاقتصاد الأخضر والدائري.
لكن ولتطوير هذا المجال، تؤكد بسمة، لرصيف22، على ضرورة التوقف عند النقاط التي من شأنها تعطيل وعرقلة المسار الاقتصادي لمجال التدوير والرسكلة، وأهمها أن النفايات المجمعة غير خاضعة لنظام جبائي مما لا يسمح بإدخالها في دائرة الاقتصاد الرسمي.
وتضيف: "والمطلوب اليوم إخضاع النفايات للجباية الجزافية، مما يسمح بفوترتها بعد فرزها ومعالجتها وهي الطريقة نفسها المطبَّقة على صناعة الجلود في البلاد".
وتختم قائلةً: "كما يفتقر هذا المجال إلى مخابر تحليل المواد المرسكلة التي تسمح للمتعاملين الاقتصاديين بتصديرها كمادة ثانوية ذات قيمة مضافة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...