في العام 1919، وبينما تفتح أم درمان أفقاً جديداً صوب الحداثة والمدنية، أقدم الملحن والمغنّي الحاج سرور والشاعر إبراهيم العبادي، مؤسسا الأغنية الحديثة في السودان، أقدما على فعل سيكون له الأثر الفارق في تغيير خريطة الأغنية السودانية ومستقبلها، مرةً وإلى الأبد. طرد المؤسسان مجموعة "الطنابرة" الوافدة من الأرياف والبوادي، والتي كانت تسيطر على المشهد الغنائي التقليدي، ونَفَوها إلى خارج مدينة أم درمان، بعد إضرابهم الشهير، وربما تهيئةً للمسرح، من قبل المؤسسيين، تمهيداً لتفجير ثورة 1924 السودانية المغدورة، زمن الاستعمار.
الآن، وبعد مضي قرن كامل على حادثة الطرد الشهيرة، وفي الوقت الذي ينتظر فيه السودانيون، بعد ثورة كانون الأول/ ديسمبر، عودة الحياة المدنية، بكل أشكالها الحضارية والثقافية وعودة مباهج الأمسيات في المسرح والسينما ومهرجانات الشعر وليالي الغناء، عاد "الطنابرة"، في توقيت مربك، إلى العاصمة بشكل جديد، وغزوها من جنباتها الأربع، بأزياء تقليدية بدوية: عمامة شامية حول الرأس، وصديري فوق جلباب ملوّن، ويحملون هذه المرة "ربابةً" بسيطة التنغيم، بأسلاك وترية خمسة وإيقاع محدود يابس، وتحمل أغنياتهم مضامين البداوة، في الفروسية ولواعج الغرام الدارس والحرمان والحنين، ويفضح كل ذلك نص شعري ببعد وحيد مبكٍ، منغلق العوالم ولا يتيح قراءات تأويليةً أخرى، مثلما فعلت الأغنية السودانية التي قطعت أشواطاً بعيدةً في تغذية الوجدان، من الثورة إلى الواقعية الجديدة والفترة الرومانسية وحتى مرحلة الترميز.
وبات هؤلاء الطنابرة هم المطلوبون في المسرح الغنائي العاصمي، وحفلات الفرح ومناسبات تخرج الطلاب وتنبعث أغنياتهم من المواصلات العامة والهواتف الشخصية، لكن يتزامن ذلك مع عودة التحشيد القبلي بعد انقلاب الجيش في السودان، ومع غياب لافت لبروز فنانيين حداثويين وإنتاج موسيقى وأغنية جديَّة تردم الهوة التي خلّفها رحيل الكبار من فناني السودان.
نوستالجيا
يعزو الموسيقي وليد يوسف، الظاهرة إلى اختلال العلاقة بين بنيتي الحضر المستهلكة والبادية المُنتجة، والنقص الحاد في البنى التحتية والخدمات الضرورية، ولنزوح أعداد كبيرة من البادية إلى الحضر، ما يصيب الحضر بالتضخم والتورم، بانتشار أحياء الصفيح وأحزمة الفقر والبناء العشوائي في هوامش المدن وربما في وسطها الداخلي، مقابل ضمور وتلاشٍ لقرى الريف المهجورة. ويضيف يوسف لرصيف22: "الهجرة القروية أدت إلى ضُعف عمليات اندماج المهاجرين القرويين في محيطهم الحضري الجديد، واحتفاظهم بتقاليدهم الريفية الأصيلة وبروز مظاهر وسلوكيات اجتماعية شائنة، وانتشار مظاهر الاحتفالات الريفية التراثية وسط المدينة". ويسوّق يوسف مثلاً لمظهر "البطان" الذي كاد أن يندثر، ولكنه عاد بقوة مع عودة غناء الربابة، وهو موروث تقليدي يتبادل فيه الشبان الضرب بالكرباج عراةً في الحفلات وسط زغاريد النساء، استعراضاً لقيم البداوة في الرجولة والصبر وقوة التحمل والشجاعة.
ويقول لنا الناقد الفني سراج الدين مصطفى: "ما حدث أقرب إلى النوستالجيا، بعودة نمط الغناء الحقيبي إلى الواجهة مرةً أخرى متبوعاً بظاهرة غناء الربابة". ويضيف: "هذه العودة للنمط التقليدي القديم يمكن تفسيرها من أوجه عدة، يأتي في أولها أن الموسيقى الحديثة أو الأغنية السودانية أو ما يُعرف بغناء الوسط والبعض يسمّيها أغنية ‘أم درمان’، هذا النمط فشل في تقديم خطاب غنائي يداعب كل الأمزجة ويلبي جميع الأذواق، وانحصر فقط في أهل المدينة وأهمل الهامش والأطراف".
ويذهب مصطفى إلى أن انتشار التكنولوجيا أحدث ما هو أشبه بالثورة على الموسيقى الحديثة، وأن ما يحدث حالياً من انتشار لأغنية الربابة يمكن توصيفه بأنه صراع بين الهامش والمركز. ويضيف: "هو صراع قديم متجدد، يتمظهر في عدم اهتمام جميع أنظمة الحكم بالهامش من حيث الخدمات الحياتية أو حتى على مستوى الأجهزة الإعلامية التي تتحرك في جغرافيا محدودة". ويرى أنه مع تغيّر هندسة المفاهيم وإحداثيات التطور في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، التي لها القدرة على الاختراق وتكسير المفاهيم القديمة، وجدت أغنية الربابة منبراً واسعاً وغير محدود استطاعت عبره أن تعبر إلى الجميع وأن تثبت وجودها كنمط غنائي يستحق الانتباه والالتفات.
ويستبعد مصطفى توظيف غناء الطنبارة في التحشيد القبلي الماثل في السودان، فـ"هؤلاء الشباب، فقط يغنّون لمحبوباتهم".
لكن الكاتب محمد دهب تبلو، يقطع بأن صعود موجة غناء الربابة هي ظاهرة سياسية مصنوعة مع سبق الإصرار والترصد لدفع منتجي الموسيقى نحو هذا النوع الذي لا تجد غالبية متذوقيه البسطاء أي غبن سياسي تجاه ما يفعله الانقلابيون في الخرطوم، الذين يبحثون عن حاضنة سياسية بعد الردة التي ارتكبوها.
ويضيف تبلو: " السلطة في الخرطوم أخرجت هؤلاء البسطاء من دائرة الوعي الجمعي بالتهميش الممنهج لما يزيد عن خمسة عقود، لذا هم أول ضحاياها". ويضيف: "مهندسو الانقلاب يعملون جاهدين على صناعة رأي موازٍ ومؤيد للتسلط العسكري بمناداة روابط العرق (القبيلة)، ودغدغة عاطفة المجتمعات الريفية بالانفاق السخي على إنتاج غناء الربابة ليظهر بهذا السفور في طرقات المدينة". ويذهب إلى أن هذا الانفاق لو تم تحت مظلة دولة مواطنة مدنية سيكون بارقة أمل لازدهار الثقافات المحلية التي تشكل وطناً متعدد الثقافات تحت مظلة المواطنة المتساوية.
أدت الهجرة القروية إلى ضُعف عمليات اندماج المهاجرين القرويين في محيطهم الحضري الجديد، واحتفاظهم بتقاليدهم الريفية
حيوات كامنة
"أنا مسرور لغزو الأغاني الريفية الخرطوم"؛ بهذه العبارة المفاجئة يؤكد الشاعر الحداثوي عبد الطيف حسن، انحيازه إلى أغنية الطنبارة. ويقول لرصيف22: "السودان بلد كبير، وهناك ثقافات وفنون عظيمة وحيوات كاملة وأصيلة كانت تولد وتموت في صمت من دون أن يلتفت إليها أحد". ويتابع محاججاً: "هنالك مواهب كبيرة لم تُسلَّط عليها الأضواء ولم تُفرَد لها المساحة الكافية للتعبير عن فنها أو حتى القبول بفنها الذي لا يتوافق مع معايير أهل المدن وتعريفاتهم وتفضيلاتهم للفن والفنانين ومن يستحق أو لا يستحق". ويرى أنه لعقود طويلة ظل أهل الريف والبادية يعيشون حياتهم وفق تصورات ونماذج معينة فُرضت عليهم بقوة السلطة، ولا يملكون القدرة على دفعها ورفضها وتجاوزها. ويقول: "هذا الغناء والشعر الجميل الذي كان يولد في المراعي تتداوله قلة، في نطاق ضيق، وتستدفئ به ويتبادلونه بينهم، معبّراً عن حياتهم وأشواقهم إلى الحياة، حاملاً لواعج قلوبهم المغرمة وهجر حبيباتهم، وينتهي به المطاف غالباً بينهم من دون أن يعرفه أحد. بات يسمعه الجميع، ويزعج قلةً لا تحب أن يُسحب من تحت أقدامها البساط، ولا أن تخرب معاييرها الضيقة والمتعسفة لفهمها وتذوقها للفن".
هجرة وفقر وجدب
تتعرض المدن السودانية لتغيير ديموغرافي كبير بسبب من الهجرة والهجرة المضادة وانتكاسة اجتماعية وفقر مدقع على جميع المستويات. ويشرح الناقد والصحافي الفني الزبير سعيد، لرصيف22، أن الساحة الفنية السودانية تعرضت لحالة من الجدب وضعف الخيال الإبداعي، بسبب من عدم الرغبة في التجديد وابتكار أفكار إبداعية غنائية جديدة. يقول لنا: "هذا الوضع أصاب المتلقي، الذي ضعفت مناعته، بحالة من الملل والإحساس بالرتابة، ما منحه القابلية للتعاطي مع مختلف أنماط الغناء، مهما بدت".
ويرى سعيد أن انتشار أغنية الربابة جاء في أعقاب انتشار شعراء الدوبيت أو الرباعيات. ويضيف: "هو شعر شعبي طرق أبواباً لا يتطرق إليها شعراء المدينة، يركز على قيم كالشجاعة والشهامة والمروءة، ولكن معظمه وقع في فخ التفاخر القبلي والذي لا يُعدّ عيباً أو نقيصةً لو أنه لم يوظَّف سياسياً وأيديولوجياً، والانتباه للسياق والبيئة التي نشأ فيها الشاعر واكتسب فيها أدواته ومفرداته وصوره الشعرية".
ويذهب سعيد إلى أن غناء الربابة من الأشكال الغنائية ذات الطبيعة التعبيرية المرتبطة بمفاهيم اجتماعية معينة وقد مارس بعض الأحكام التعسفية من منظور قبلي وجهوي، واتجه في مضمونه إلى الإعلاء من شأن بعض القوميات والقبائل على حساب قوميات وقبائل أخرى، "الأمر الذي أدى إلى حالة من التباعد الوجداني بين أبناء الوطن الواحد".
تمثل الربابة لهؤلاء المغنّين دفاعاً عن الوجود الذاتي وعن وعيهم القبائلي، لكنه تشبث هزلي من دون جدوى، فالجميع في حالة تعثر وجودي وحضاري
ويحذّر الزبير سعيد، من أن وضع السودان الحالي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، يجعل من طرح أي شكل من الغناء الأحادي غير لائق بالسودان المتنوع في إيقاعاته وأنماطه الثقافية وتعدده الإثني والثقافي.
بينما يقرأ الناقد الدرامي الأنور محمد صالح، ظاهرة الطنبارة في سياق اجترار التاريخ السوداني الذي يتعرض الآن لأزمة وجودية كبيرة، تضعه في نقطة الصفر تماماً، بينما لا تمثل العودة نكوصاً بل تموضعاً آمناً يعبّر عن تطور طبيعي. "التاريخ ليس لعبةً أو أحجيةً" يقول لرصيف22. ويتابع: "العودة إلى زمن سابق سيبدو كأنه ارتداد، ولكنه في الحقيقة، إذا لم ينسف الربط العضوي للحقل، فسرعان ما يعيد مسار النمو الطبيعي ويسرع في هضم المكونات الطبيعية ليعود إلى الزمن المعاصر".
ويرى محمد صالح، أن الربابة تمثل تشبثاً أخيراً لهؤلاء المغنّين دفاعاً عن الوجود الذاتي وعن وعيهم القبائلي، لكنه تشبث هزلي من دون جدوى. ويضيف: "ليسوا وحدهم، الجميع في حالة تعثر وجودي وحضاري".
وبكلمة واحدة يقول لنا الموسيقار الدكتور كمال يوسف: "هي مجرد ظاهرة، وشيء جديد على الناس وستتلاشى سريعاً، لا أكثر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...