في مطلع سبعينات القرن المنصرم، افتتنت مجموعة من الشعراء السودانيين الشبان، بحياة الغجر المنعزلة والغامضة، فأطلقوا على أنفسهم "جماعة الغجر" تمثلاً بهم ونشداناً للحرية والتفلت من كلّ قيد فني ومجتمعي.
وتصيد المبدعون السودانيون حيواتِ الغجر الأسطورية في الشعر والرواية، وتتبعهم المخرج محمد فاضل في فيلمه التسجيلي "غجر السودان... ذاكرة الشتات".
ليست الأرض للسكنى
يفهم الغجري أنه ليست الأرض للسكنى، فهي درب وعرٌ لأرض بعيدة أخرى. وتعرفهم رواية "مرافئ السراب" للروائي السوداني عباس عبود، بأنهم سادة النزوح والحنين، اختصروا الجغرافيا لصالح التاريخ، تنضح أغنياتهم بالأشجان، استوطنوا ذاكرتهم. وفي أتون الهجرات العنيدة احتفظوا بمعنى الوطن كهوية وثقافة، فالرحيل التام عن الوطن مستحيل.
ويقسم السينمائي طلال عفيفي، الغجر أو "الحلب" كما يُطلق عليهم في السودان، إلى نَوَر أصليين "من فائض النسيج الغجري الذي يلف العالم، دون أن يفصص غموضه أصلٌ ولا فصل، ومن ترمي نساؤهم الودع البحري على الرمل ليرفعنه مُحملاً بالمستقبل المقروء".
يقول في مقال له: "نَوَر السودان لا يميز نساءهم ذلك الوشمُ الأخضر تحت الشفاه، ولا تلك الخلاخيل، ولا الفضة المخبوءة تحت الفساتين السود". ويضيف: "فقط هو ذلك الكُحل الثقيل حول العينين ووفرة من العيال. يسكنون أطراف مدينة بحري عند مفاتيح النيل، قرب المقابر وحولها، تميز أجسادهم تلك الصُفرة النحاسية على البشرة وتفاصيل الفقر، وهنالك آخرون فاتحو البشرة، تعود أنسابهم الى ذلك النزق المهاجر الذي حمل أجدادهم إلى جنوب العالم الأوسط".
يظل الغجر ضمن آخر مجموعتين خارج التاريخ والحياة السياسية في السودان، لكن يتضمنهم قلب الأسطورة، رفقة "الأمبررو"، وهم مجموعة إفريقية جائلة خلف أبقارها
ويظل الغجر ضمن آخر مجموعتين خارج التاريخ والحياة السياسية في السودان، لكن يتضمنهم قلب الأسطورة، رفقة "الأمبررو"، وهم مجموعة إفريقية جائلة خلف أبقارها، الغريبة هي الأخرى، من الغرب في الكاميرون وصوب الشرق حتى إثيوبيا، مروراً بالسودان. ولا تعترف، مثل الغجر، بالحدود الرسمية ولا الحداثة.
ويتجول الغجر الذين عبروا مصر وتركيا وألبانيا والمجر، بين البلدات والمدن السودانية على ظهور الخيل أو الأرجل، سيان. وتحملهم أسطحُ عرباتٍ تجرّها الدواب مع متاع متقشف وعيال كُثر، تحصنهم العزلة والأساطير من حولهم.
ويقول عفيفي: "ما زال النوَر الى يومنا هذا يطوفون الأحياء على دراجاتهم السوداء مطلقين نداءاتهم العالية (أصلح سراير... أصلح حديد يا...)، وما زالت نساؤهم يطفن المنازل وشوارع العاصمة حاملات مولوداً ابن شهرين يسألن به القرش والمليم".
ويصفهم الناقد عامر محمد أحمد، أنهم يمتهنون أعمالاً ذات علاقة مع الحديد وصناعة أدوات طبخ شعبية، وأواني صناعة القهوة، وإصلاح أسرة الحديد، "معزولون ويعيشون في أماكن بعيدة عن القرى وفي أطراف المدن". يقول لنا: "للناس عليهم ملاحظات في السلوك وقفت كأنها توصية جماعية للتعامل معهم، فهم يتحدثون لغة ماكرة، وتلعب الإيماءات الدورَ الكبير في تواصلهم مع الآخر". ويضيف: "قرَّ في الذاكرة أنهم ممثلون يسارعون إلى الفعل غير المألوف وأن اللصوصية متجذرة في نفوسهم، ولا علاقة لهم بالدين أو القيم، متلونون على وقاحة"، كما يرى.
الأمبرورو، غجر أفريقيا
— اللهجة السودانية Sudanese Dialect (@SUDAN000000) February 15, 2020
⚘ قبائل رعوية (أبقار)، دخلت السودان قديماً من نيجيريا والكاميرون (فلاّتة/فولاني)،
⚘ تعيش في دارفور والنيل الأزرق وعلى الحدود مع إثيوبيا.
⚘لهم عادات وتقاليد فريدة، فلا يتزوجون من خارج القبيلة، ويتزين الرجال للنساء، وللمرأة الحق في اختيار أو تغيير الزوج. pic.twitter.com/6u8F2ofvTR
الغجري وحده من يعرف الحب
في قصته "الحمريطي"، وتعني شديد الحُمرة، المنشورة في مجموعة "وين يا حبايب"، يمسك زهاء الطاهر بتلابيب السرد جيداً، وبلغة سودانية رصينة يغوص في عوالم أسرة غجرية مهمشة وغريبة: "اوعى من أولاد الناس يا عزت، إحنا ناس أغراب وعلى باب الله، وما عندنا حد في الدنيا، خد بالك يا عزت".
يستأجر سليم وشقيقته زكية حجرةً مهشرمة من أمامها مظلة من القش، يتخذها سليم ورشةً لتبييض أواني النساء وسنّ السكاكين والفؤوس وكلّ حديد داؤود، وكان لسان أخته أحدّ من كل ما يسنه سليم -المنهك والمترب والسكير- وهي تكافح بين البيوت لتعليم فلذة كبدها، ففي كل صباح تسلمه لناظر المدرسة: "بالله يا الأفندي، خليك حنين عليه، دا إحنا ناس أغراب، والولد يتيم يا الأفندي، وما عندنا حد". ويتدرج الطفل في التعليم إلى أن يجد بعثة فيطير من دون وداع من أحد ويقرر، كعادة كل غجري، أن لا يعود: "انسى يا أخي، ملعون الجوز، وملعون أبو اللي يرجع".
"ما زال النوَر الى يومنا هذا يطوفون الأحياء على دراجاتهم السوداء مطلقين نداءاتهم العالية (أصلح سراير... أصلح حديد يا...)، وما زالت نساؤهم يطفن المنازل وشوارع العاصمة حاملات مولوداً ابن شهرين يسألن به القرش والمليم"
ويعود محمد أحمد بالقول إن قليلين من تنبهوا إلى حضور الغجر في سردية قصصية رغم حضورهم اللافت في المدن، والقرى السودانية. يقف الراحل زهاء الطاهر، وحده في قصته الحمريطي إلى جانب عادل سعد يوسف في رواية "أتبرة خاصرة النهار. ويعزي غيابهم في السرد السوداني إلى طابع الهواية في الكتابة السردية السودانية وليس الإحتراف. يضيف: "أغلقت الهواية باب الخروج من الواقعية الضحلة والمستهلكة، إلى الواقعية السحرية، أو فانتازيا سردية قصصية جديدة، تبحث عن المختلف والمُبعد عن العين والقلب والعقل".
ويرى أحمد أن مجتمع الغجر يعيش في "غيتو" ويتعامل على ضوء واقعه مع الآخر، وهو واقع غني ومبهر وحيوي، وفي الدخول إلى عوالمه تجديد لعناصرَ سرديةٍ مذهلة. "تستطيع أن ترسم صورة وقريبة من موقع متابعة لهذه المجموعة المغيبة والمجهولة الهوية والتي لا تعرف الهوية الشخصية ولا الوطن ولايوجد انعكاس لهذا العصر وتعقيداته يتمّ تمثيله أكثر من هؤلاء". ويضيف: "يعشقون الظلام والحرية ولا يوجد تضاد وفلسفة حياة أعمق من ذلك".
ويعكف الروائي الحسن البكري على تدوين رواية جديدة بطلها غجري في مطلع خمسينياته، وسيم جداً ويحذق حرفة صناعة العطر، إلى جانب مهنته التقليدية في الحدادة وصيانة وصناعة الأواني، إضافة إلى دق الشامات على خدود الفتيات. تقع نساء عديدات في غرامه، وتتخذه فتاة متعلمة تعليماً راقياً شخصيةً رئيسية في كتباتِها على طريقة الرواية داخل الرواية.
قلب من؟... الغجري
شعرياً، وبمونتاج رقيق وناعم وعبر صور سينمائية وملحمية فارهة، يقدم الشاعر محمد الحسن سالم حميد (1956-2012) سيرة بطله الغجري "حمتة"، الطفل الذي ترهقه أسئلة الهوية والمصير الشائك، والتنقل شرقاً وغرباً في فحيح الشمس والحديد اللاهب. عاش ومات وحيداً ومضطهداً في شمال السودان من دون أن يستقرّ في أرض للإقامة، في واحدة من أبرز ملاحم الشعر السوداني، بما تحمل من مضامين إنسانية وانحياز للأقليات والمهمشين.
"إمعانا في التخفي والعزلة يطلق الغجر أسماءً ثلاثة على إبنهم الوليد: الأول تهمسه الأم في أذن الطفل أول الولادة، ولا تنطق به ثانية ولا يعرفه أحد غيرها، ولا حتى المسمى نفسه. والثاني تناديه به العشيرة، والاسم الثالث هو الاسم الشائع بين الناس كافة"
وأصدرت "جماعة الغجر" بياناً في مناسبة مرور 50 عاماً على تأسيسها، أكدت أن التسمية جاءت كموقفٍ اجتماعيٍّ مُلتزمٍ بقضايا المُهمَّشين، ممثلاً في الإثنية التي بدت أسطورية ورومانتيكية تماماً بالنسبة لوعي الشبان المؤسسين، وملائمة للترميز تجسيداً لقيم الحرية، و(نشدان) العدالة والجمال، كما كانت تخليداً وإعجاباً بالشاعر الإسباني ذي الأصول الغجرية، لوركا، الذي يجسد تلك الأشواق والرؤى على صعيد الفن والأدب. "كان المانيفستو غير المكتوب لجماعة الغجر هو الانحياز للفقراء والمُهمَّشين كعقيدةٍ سياسيةٍ واجتماعية، ولكن على أساس الحرية المطلقة لكافة المبدعين في الخروج عن كل القيود النظرية التي تكبل تجاربهم الإنسانية والإبداعية والفكرية".
يقول الشاعر النثري محجوب كبلو، أحد مؤسسي الجماعة: "في السبعينيات كانت ظهيرة شموليَّة نميري رغم علمانيتها، واجتمعنا ونحن عصبة على أصابع اليدَيْن، كأننا على موعد مع نشدان الحرية، فتكونت على نسق بري تماماً جماعة الغجر، وهي متزامنة مع حركات الشباب العالمية. محمد عثمان عبد النبي، سامي يوسف، سعد الدين إبراهيم، بلة النفيدي. وكان لسامي تأثير كبير على الجماعة، فهو من عرَّفنا ببعضنا". ويضيف: "أعتقد أن وفاته خسارة كبيرة للشعر والقصة، ولو كان موجوداً لما انتهت هذه القصة الجميلة، التي كنا نتحرّر فيها بحسب قدراتنا".
حيرة الانتماء
أنفق المخرج محمد فاضل نحو 10 أعوام بحثاً خلف حياة الغجر، يتعقبهم في مدن وبلدات السودان المختلفة، "حكايتهم بالنسبة لي رحلة خاصة". في فيلمه "سيرة الغجر" وهو عبارة عن متتالية فيلمية، تنطوي تحت مشروع إبداعي أكبر عنوانه "ذاكرة الشتات"، يقدم فاضل سيرة تامر الغجري (الدومري) الذي أرهقته الحياة، وتدلت سحنته عبر جدارات التشتت، والذي ظل يكابد نزيفه الذهني الذي يسائله دوماً عن طبيعة الأشياء، فالأشياء لا تبدو كما نراها، بل كما نود أن نراها، لتعاندَه لحظة أن يقف لبرهةٍ بنواصي الروح و يسأل: من أنا، وأين البقية؟
ويوثق لأسرة حاج أحمد التي خيمت قريباً من منزله وسمحوا له أن يصور حياتهم، ووثقوا في أن يتعرف على تاريخهم. ويسرج حاج أحمد في كُل صباح راحلته، ويتجه صوب المجهول، في رحلة بلا نهاية، لا يعرف فيها الراحة، وليس له مكان ليعود له، حاملاً أدوات حدادته ليرمم الأواني، وحالماً بتحقيق أساطير أجداده، حنيناً للفردوس المفقود.
يقول لنا فاضل المقيم بالولايات المتحدة: "وجدت مقاربات بين الغجر هنا وغجر السودان". ويضيف: "إمعانا في التخفي والعزلة يطلق الغجر أسماءً ثلاثة على إبنهم الوليد: الأول تهمسه الأم في أذن الطفل أول الولادة، ولا تنطق به ثانية ولا يعرفه أحد غيرها، ولا حتى المسمى نفسه. والثاني تناديه به العشيرة، والاسم الثالث هو الاسم الشائع بين الناس كافة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com