أسميتُ ابنتيّ: نيسان، ودهب أيلول. ودهب هكذا بالدال وليس بالذال. أسميتهما تيمّناً بأغاني معشوقتي الأولى فيروز، فهي التي غنّت: "طلّ وسألني إذا نيسان دق الباب"، وغنّت: "عروستنا الحلوة يا نيسانة حلوة"، وكذلك غنّت: "غالي الدهب غالي"، و"ورقو الأصفر شهر أيلول ذكرني بورقو دهب مشغول". وكنت وما زلت عازماً إذا رُزِقت بابنةٍ ثالثة أن أسمّيها: تلج كانون، بالتاء وليس بالثاء تيمّناً بأغنية فيروز أيضاً، "تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج".
ومن البديهي أن البنتين قد حفظتا الأغاني التي ورد فيها اسماهما، وحفظتا أيضاً بعضاً من الأغاني الأخرى حتى تشكّل في لا وعيهما، أنّ فيروز هي صديقة الأطفال وأغانيها هي مملكتهم المليئة بالألوان.
أسميتُ ابنتيّ: نيسان، ودهب أيلول. ودهب هكذا بالدال وليس بالذال. أسميتهما تيمّناً بأغاني معشوقتي الأولى فيروز
جلست ابنتي التي أكملت الرابعة على حجري، ومن دون سابق إنذار سألتني: "بابا... شو لون بيت فيروز؟". بُهِتُّ للسؤال لبرهة، لكنني تذكرت الأغنية التي تقول فيها: "حمرا سطيحاتك حمرا كلّا رفوف عصافير"، فأجبت ابنتي واثقاً: "لون بيت فيروز أحمر يا بابا"، وفي ذهني صور القرى اللبنانية الأصيلة ذات السقوف القرميدية الحمراء، وعصافير الدوريّ الواقفة عليها تملأ الأرجاء زقزقةً في الصباحات.
ثم عاجلتني بسؤال لا أظن أنها تعرف معناه: "بابا شو لون ضيعة فيروز؟"، فخطرت في بالي أغنية:
"لبنان يا أخضر حلو عَ تلال
يا حكاية القلب وحنين البال"...
قلت لها: ضيعة فيروز خضراء، فالأخضر لون لبنان بأرزه الجبلي وسهوله الخيرّة وطبيعته البكر، وهو لون الطمأنينة والسكينة التي تجتاح القلب ما أن يحط العابر رحاله في رحابه. أما سؤالها التالي فكان: "شو لون عقد فيروز؟"، فأجبتها: فيروز يا ابنتي تملك عقدين أحدهما بنفسجي أهداه إليها حبيبها، كهدية مميزة ونادرة تتباهى بها أمام بنات حيّها، رامزاً إلى تفوقها ونبلها وارستقراطيتها، فالبنفسجي لون بقي محصوراً بالعائلة المالكة في أوروبا فترةً طويلةً في عهد ما قبل الثورة. فتغنّت قائلةً:
"وعدني حبيبي لم بدو يجي
بأسوارة غريبة وعقد بنفسجي"...
وآخر أحمر اشترته بنفسها، فهي التي قالت:
"رتّبت المزهرية
هييت قلوب السكّر
حطّيت الشال عليي
ولبست العقد الأحمر"...
عقد أحمر على عنقها الذي ذبل كعنق زهرة في الانتظار، يضيف إلى هيئتها التي تستقبل وهم الحبيب الغائب بعض الفتنة، ويشرح شوقاً لا يطيقه جسدها الهزيل في الليالي الطويلة، في أغنية "أنا وسهرانة".
من البديهي أن البنتين قد حفظتا الأغاني التي ورد فيها اسماهما، وحفظتا أيضاً بعضاً من الأغاني الأخرى حتى تشكّل في لا وعيهما، أنّ فيروز هي صديقة الأطفال وأغانيها هي مملكتهم المليئة بالألوان
أمّا سؤالها التالي، فكان عن لون منديلها الذي تضعه على رأسها مثل جدتها، فتذكرت الأغنية:
"ولو عنّا قال وكتّر
قلّو خليه يتذكّر
عَ هالمنديل الأصفر
ببعتلو مكاتيبي"...
فهو هنا منديل أصفر شاحب ومتعب من عبارات العتب والشوق، لا تخلو خيوطه من الغيرة لمجرد احتمال وجود امرأة أخرى تصعّب على المرسل إليه تذكّر صاحبة الهدية. فقلت للصغيرة: لون منديل فيروز أصفر يا ابنتي.
"كهربتني" أسئلتها، وأدخلتني في دهاليز جديدة من دهاليز فيروز، أنا الذي كنت أظن بعد اثنين وعشرين عاماً من عشقها أنني سبرت أغوارها كلها، واكتشفت خباياها جميعها، وإذ بي اكتشف عالماً جديداً في أغانيها لم أكن أنتبه إليه أبداً.
إذا بحثتَ بقليلٍ من التمحيص في أرشيف أغاني فيروز، فإنك ستكتشف أن لا شيء يخطر في بالك تقريباً لن تجد له لوناً
إذا بحثتَ بقليلٍ من التمحيص في أرشيف أغاني فيروز، فإنك ستكتشف أن لا شيء يخطر في بالك تقريباً لن تجد له لوناً، فشعراء الأغنية الذين كتبوا لها، من الأخوين رحباني إلى سعيد عقل وطلال حيدر وجوزيف حرب وزكي ناصيف وصولاً إلى زياد رحباني، يبدو كأن كان بينهم اتفاق ضمني غير معلن على جعل أغاني فيروز منجم الألوان الذي لا ينضب، مدركين أن للّون بلاغةً لا تجيدها أي صفات أخرى، ففي أغانيها ستعرف أن للقرميد لوناً، وأن للسماء ألواناً متعددةً يُمكن استعارتها، وأنه يمكن للفلّ أن يصبح أسود إذا غاب الحبيب.
وسيعرف المستمع الضليع أن العيد ذو لون ليلكي بهيج وبرّاق، فهي التي قالت:
"يعود يعود إلى الخاطرِ
طريقٌ مدى القلب والناظرِ
عيدُ ليلَكِي... يَتَّكِي
على جبلٍ طائرِ"...
وسيعرف أيضاً أن اللون الأبلغ للزهرة المهداة في شرح مشاعر الحبيبة، هو الأحمر: "شي زهرا حمرا وبس".
وعصافير أغاني فيروز بيضاء بالمطلق، وهذا ربط خفي بين انطلاق اللون الأبيض وعمقه وبين الطيران والحرية اللذين يعنيهما، وبين صفاء نية العصفورة التي تتساءل عن الأحوال بفضول غير ذي خبث، لترد:
"أنا لحبيبي وحبيبي إلي
يا عصفورة بيضا لابقا تسألي"...
ولا يمكن أن نغفل عن ذكر أشهر أغانيها التي وردت فيها ألوانٌ متعددة تسم بها العيون، لتخبرنا بفم ملآن أن الأسماء وهم من صنائع اللغة، والعيون هي علاماتنا الفارقة في أغنية من تأليف العبقري جوزيف حرب "أسامينا"، إذ قالت:
"لا خضر الأسامي ولا لوزيات
لا كحلي بحري ولا شتويات
ولا لونُن أزرق قديم ما بيعتق
ولا سود وساع ولا عسليات
ولا فيهُن دار... دار الخمّار
علينا وبلّش يسقينا"...
فهذه الأغنية تحوي من العبقرية في إحياء الألوان وجعلها شخوصاً ماثلةً أمامنا، الكثير جدّاً. على كل حال إن أردنا التحدث عن كل القيم الجمالية التي كرّستها فيروز في أغانيها، فإن مقالنا سيطول ويطول، لكنه من البديهي أن نؤمن بأن وجود فيروز بيننا نحن البشر بصوتها وحالتها المتفردة، هو أحد أكثر الأسباب أهميّةً في إضفاء ألوان مشرقة على أجسادنا الرمادية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع