شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
صناعة العرق البلدي خطوة بخطوة... من القطاف إلى الموّال

صناعة العرق البلدي خطوة بخطوة... من القطاف إلى الموّال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 24 ديسمبر 202209:23 ص


"حليب السباع"، كما يحلو لشاربيه وصفه. و"المُنكر" كما يسميه بعض الساخرين من فكرة تحريمه. أما في اللغة فهو "الشُّربِ" أي ماء العنب، إنه العرق البلدي.. المشروب الكحولي المعروف شعبياً في سوريا ولبنان، والأكثر شُهرة لدى سكان منطقة الساحل السوري. وهو أيضاً " الماحيا" أو ماء الحياة في بلاد المغرب،  أما تسميته الفرنسية فهي الكونياك.   

يتم تصنيعه في سوريا منذ القدم لدى كثير من العائلات ضمن المؤونة. إما لاستهلاكه في ليال الشتاء الباردة أو كنوع من الضيافة وإكرام الضيف. وأحياناً لبيعه ضمن دائرة المعارف والأصدقاء الضيقة ممن لا يستسيغون طعم العرق التجاري.

يجري استجلاب العنب الأبيض، بعد الانتهاء من جني محصوله في مناطق ريف حمص الشرقي وبعض مناطق السويداء حيث تتم زراعته بعلاً وعلى شكل أجمات في أرضية غير متعرشة أو متسلقة.

تُعرف تلك المناطق بتربتها الحمراء وتسمى "تيراروزا" أي تربة البحر المتوسط الحمراء، وهي الأفضل لزراعة العنب، يساعدها في هذا المناخ الملائم الذي يعطي ثمار العنب الطعم الشهي، ودرجة الحلاوة المرتفعة المناسبة لاستخراج العرق، والذي يُعرّف كيميائياً بأنه "مشروب كحولي مقطر يحلّى باليانسون".

الكبيس أو "المعصور"

في حديثه لرصيف22، يروي أبو محمد (55 عاماً) والذي يعمل مزارعاً عن طريقة إعداد وتحضير العنب في مراحله الأولى قبل أن يغدو عرقاً. ففي شهر آب/أغسطس من كل عام، وبعد جني محصول العنب واكتسابه الطعم والحلاوة المناسبة يتم تجهيزه للعصر عبر وضعه في أوعية مسطحة تُسمى بـ"الطشت". ليُصار إلى هرسه بالأرجل بعد ارتداء أحذية نظيفة من الكاوتشوك أو أكياس جديدة. خلال عملية الهرس يجب عدم كسر بذور العنب كي لا يكتسب طعم العرق فيما بعد مرارة غير مرغوبة.

يتم تصنيع العرق البلدي في سوريا منذ القدم لدى كثير من العائلات ضمن المؤونة، إما لاستهلاكه في الشتاء، أو لتقديمه للضيوف. وأحياناً لبيعه ضمن دائرة المعارف والأصدقاء ممن لا يستسيغون طعم العرق التجاري

العنب المهروس الذي غدا "كبيساً" أو "معصوراً" كما يقول أبو محمد، يتم وضعه في براميل خاصة، قد تكون من البلاستيك أو الستانلستيل، وهي مخصصة لحفظ المواد الغذائية.

ويوضح أنه لا يجوز استخدام براميل حديدية لأن الحديد يتفاعل مع الكبيس المخزن ما يعطي العرق طعماً غير مستساغ فيما بعد. ثم تغطى البراميل تماماً بالنايلون المقوى لئلا يدخلها الهواء. ويجب عدم ملئ البراميل بالكامل والاكتفاء بنسبة 80% من استيعابها للسماح بتفاعل الكبيس مع الغازات وبالتالي دخوله مرحلة التخمر. تحفظ البراميل في مكان دافئ بعيداً عن عوامل الرطوبة وأشعة الشمس، ويتم عزلها سواء بالقش أو الألواح الخشبية لمدة تتراوح من 40 إلى 90 يوماً؛ لتدخل بعدها في مرحلة تُعرف بـ"الكلكة التقليدية" أو "التكليك".

خطوة بخطوة حتى يعلو الموال

يتألف جهاز الكلكة النحاسي، المُصنع محلياً، من طنجرة أو قدرٍ كبير يُسمى شعبياً بـ"الدست". وهو متصل بغطاء قُمعي الشكل، وهذا الأخير متصل بدورة بأنبوب نحاسي قطره من الأعلى 10 سم، وارتفاعه 70سم. ينتهي هذا الغطاء بخزان محدب القاع مهمته حبس البخار المتصاعد الذي يساعد في عملية التقطير.

تبدأ هذه العملية كما يتحدث أبو محمد دائماً، بملئ الدست بنسبة 75% من حجم استيعابه، بـ 20 كغم من الكبيس المخمر مع إضافة 10 ليترات من الماء، و15 كغم من اليانسون الشامي، وهو المُفضل لدى صُناع العرق البلدي لنقائه وخلوه من الشوائب، وبالطبع لإضفاء الحلاوة على طعم العرق.

اليانسون الشامي هو المفضل لدى صُناع العرق البلدي، بسبب نقائه، وخلوه من الشوائب، وبالطبع لإضفاء الحلاوة على طعم العرق

في الخطوة التالية يُركّب فوقه القمع النحاسي ثم يغلق بإحكام باستخدام عجينة الرماد منعاً لنفاذ البخار. ومع بدء عملية الغليان يتقطر العرق بصورة أوتوماتيكية عبر أنبوب يصل بين "الكلكة" وعبوة مخصصة لتعبئة العرق. تستمر هذه العملية لمدة أربع ساعات ينتج خلالها 6 ليترات من العرق الصافي.

خلال هذه العملية يتم استبدال النار بشكل دائم وتبريد السائل بشكل مستمر.. وهكذا دواليك حتى الانتهاء من تقطير كل الكمية الموجودة في الدست الموضوع على النار، حيث يتم إفراغه ثم القيام بالعملية مجدداً.   

بالنسبة لمازن (23عاماً)، والذي يدرس حالياً في الجامعة، تعتبر الكلكة طقساً احتفالياً كما يقول لرصيف22، إذ يجتمع خلال هذه العملية الأصدقاء و أفراد العائلات، في ليالي الشتاء، حيث يتحلقون حول النار طلباً لدفئها، مصطحبين مأكولاتهم المنزلية من وجبات خفيفة كالبطاطا المشوية أو البصل المشوي، وطبعاً بعض المازات على شرف تذوق أول إنتاج من عرق الموسم. ويتجاذبون خلال تلك السهرات التي تبدأ عند المساء وتنتهي في ساعات الفجر أطراف الحديث والضحك والأغنيات والرقص.

تتم تعبئة العرق في أواني زجاجية خاصة، لها تسميات شعبية متعارف عليها. تختلف بحسب الكمية المعبئة، فـ"النصّية" تحوي ما مقداره نصف ليتر، و"البطحة" تحوي ربع ليتر فقط، أما "الألفية" فيرتفع استيعابها إلى خمسة لتيرات تقريباً. وأسعارها تتراوح من 18 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 4 دولارات لليتر الواحد من العرق المسحوب مرة واحدة بواسطة الكلكة إلى 24 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 5 دولارات ونصف، من ليتر العرق "المثلّث"، أي المسحوب لثلاث مرات، ويتمتع بجودته العالية وطعمه الفريد.

"صبّت كاس، قالتلي تعا سكار"  

يرتبط شرب العرق غالباَ، بالمناسبات الاحتفالية كالأعراس، والجلسات العائلية الخاصة. أو لقاءات الأصدقاء للترفيه وتعديل المزاج، فالندماء هم من يملؤون الكؤوس لتخفيف هم الرؤوس المثقلة بمنغصات العيش، وهم من يتبادلون الأنخاب في لمتهم حول صوبة الحطب التي تعمر ليالي الشتاء.

ترافق تلك الجلسات، المازات التي تختلف بحسب المستوى المادي لأصحابها. لكن سواء أكانت مائدة فقراء أم أغنياء لا يغيب الشنكليش البلدي، وشرحات البندورة والخيار و"ربي يسر" كما يقول أهل القرى.

"النصّية" تحوي ما مقداره نصف ليتر من العرق، و"البطحة" تحوي ربع ليتر فقط، أما "الألفية" فيرتفع استيعابها إلى خمسة لتيرات تقريباً.

يقول غانم (35 عاماً) لرصيف22 إن سهرات العرق لا تكتمل إلا بحضور الغناء الشعبي وآلة العود، إذ يتناوب الجميع على غناء العتابا والمواويل -وبغض النظر عن نشاز بعض الأصوات-، وتختلف مواضيع الأغنيات بين الحب والهجر وفراق الأحبة والأهل، والتي يحفظها الكبار والصغار على حدٍ سواء. ومنها ما يتصل بموضوع العرق ذاته، مثل:

"جابتلي عرق... قالتلي تعا سكار"

أو  

كاس العرق وا كاسي
فيك بينبض إحساسي
أن بعتك عالمعدة
شو اللي جابك على راسي

أو

طلبت العرق جابتلي عرق تين
وصرنا منرقص يا غالي ع رقتين
بنات السمر داخل ع رقتين
وبنات الشقر داخل ع التياب

وغالباً، بعد كل موال عتابا تطرق أقداح العرق المكسور بالماء بعضها ببعض، حيث يردد الحاضرون عبارات كـ" كاسك يا حبيب"، وإذا ما بلغت النشوة ذروتها قد يصيح أحدهم لأحد ندمائه قائلاً:" كاس ربك ع الصافي".

العرق "المثلّث"، أي المسحوب لثلاث مرات هو الأغلى والأنقى، ويمتاز بجودته العالية وطعمه الفريد.

رغم أن الأغلبية من سكان الساحل لا يجدون حرجاً في شرب العرق، إلا أن النظرة الرافضة لمظاهر السّكر و فقدان الاتزان موجودة بقوة، فالـ"شريب" المتمرس يعرف كيف يستمتع بطقس الشرب لمعرفته بمقدار شربه أو "رأسه"، أي كم قدحاً يحتاج وصولاً إلى النشوة دونما سُكر. حيث يصف الجميع الشخص الذي سرعان ما يفقد توازنه بـ"الطشي" أي الشخص غير الجدير بالشرب، وغالباً، ما يكون هؤلاء ممن يشربون "عن قهر" أي نتيجة ظروف نفسية صعبة يعيشونها ويهربون من الوعي إلى لا وعي العرق بغرض نسيانها وتجاوزها ولو مؤقتاً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image