شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عنف هيكلي وليس مشكلة طارئة"... كيف تحدّ معايير "الحشمة" من حريّة النساء وأمانهن؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

جسد نحن والنساء

الخميس 22 ديسمبر 202210:57 ص

"عندما قررت أن أتحجب في عمر الثامنة عشرة. بالنسبة لعائلتي كان قراري هذا مبكّراً جداً. فوالدتي تحجّبت في سن الثلاثين، وخالتي في الأربعين. ولأن عائلتي ليست لديها ثقافة الحجاب، اعترض والدي، فيما كان المجتمع الأوسع داعماً ومشجعاً لي على هذه الخطوة. 
عندما تزوّجت، كانت لدى عائلة زوجي ثقافة مختلفة عن تلك التي نشأت عليها. رأت عائلة زوجي أنّ الحجاب الذي ألبسه غير كافٍ. وعندما غيّرت لفة حجابي إلى ‘التربان‘، واجهت الكثير من ردود الأفعال السلبية. عشت تحديات ما بين ضغوط مختلفة واتجاهات مختلفة. فريق يضغط باتجاه أن ألبس الحجاب بطريقة معيّنة، وفريق يضغط عليّ لخلعه. أما أنا، فألبس الحجاب لأني أعبر عن نفسي بهذه الطريقة. وأعتبر أنّ من العنف أن يضغط عليّ أحد كي أخلعه، وعنفٌ حين يقال لي إن حجابي غير كافٍ.
عندما قرّرت أختي الارتباط برجل تحبّه من مجتمع مختلف ثقافياً، تحجّبت أيضاً. ذلك لأنّ مجتمع زوجها لم يكن يتقبّل امرأة دون حجاب".
هذا هو الواقع الذي عاشته وتعيشه صبا (33 عاماً، عاملة صحية) في ما يتعلق بملابسها التي تقول إنها تؤثر على جميع جوانب حياتها. وهو أيضاً ما تعانيه غالبية النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل شبه يومي تقريباً.
نُشرت قصة صبا والعديد من الفتيات والنساء الشرق أوسطيات الأخريات ضمن تقرير جديد لمنظمة أوكسفام التي تسعى لإيجاد حلول دائمة لظلم الفقر والحروب والنزاعات والكوارث ومساعدة الفئات المتضررة، تحت عنوان "أخلاقهن بملابسهن… حكايا نساء عن يوميات عنف ومقاومة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
وجد التقرير أن المجتمعات في المنطقة "تحكم على مدى استحقاق النساء للأمان والسلامة بالنظر إلى مدى التزامهنّ بالمعايير الاجتماعية السائدة حول ملابسهنّ". ويعد التحكم في ملابس النساء وفرض نمط معين عليهن من أشكال العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، وهو في عداد أخطر القضايا التي يعمل الحراك النسوي بالمنطقة على مواجهتها.
وعادةً ما يجد الأفراد الذين يلتزمون بالمعايير الاجتماعية السائدة قبولاً وتشجيعاً من مجتمعاتهم، فيما يقابَل الأفراد غير الملتزمين بها بالوصم والنبذ والعنف، وبخاصة النساء.

"النساء اللواتي لا يلتزمن بما يعتبر ‘محتشماً‘ من الملابس، يفقدن ‘الحماية الأبوية‘ وينظر إليهنّ غالباً على أنهنّ ‘يستحققنّ‘ العقاب والتأديب"... دراسة حديثة لـ #أوكسفام تُسلط الضوء على التحكم في ملابس ومظهر النساء كأحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي

عن دراسة أوكسفام

يتضمن التقرير دراسة لواقع التحكم في ملابس النساء بالمنطقة تستند إلى مقابلات مع 60 امرأة، من ستة بلدان في المنطقة: العراق، والأردن، ولبنان، وفلسطين، ومصر، وتونس. وهي تهدف إلى "تسليط الضوء على الطريقة التي تطبّع فيها المعايير الاجتماعية الذكورية السائدة العنف كوسيلة لتأديب النساء والفتيات، وتقصي مصادر هذا العنف وأسبابه". كما تناقش "كيف تقاوم النساء القيود التي تتحكّم بقدرتهنّ على الاختيار".
بوجه عام، تهدف أوكسفام من نشر أبحاثها ومشاركة نتائجها علناً إلى "المساهمة في النقاش العام ودعوة التعلیقات حول التنمية والسياسات والممارسات الإنسانية".
خلُصت دراسة أوكسفام إلى نتيجة رئيسية مفادها أن "النساء اللواتي لا يلتزمن بما يعتبر ‘محتشماً‘ من الملابس، يفقدن ‘الحماية الأبوية‘ وينظر إليهنّ غالباً على أنهنّ ‘يستحققنّ‘ العقاب والتأديب".
مع اختلاف الدرجة، أكدت المشاركات في الدراسة، على اختلاف دولهن وبيئاتهن ومجتمعاتهن وخلفياتهن الفكرية والاقتصادية والعلمية وغيرها، تعرضهن للقيود التي تفرضها المعايير الاجتماعية على اللباس، واختبارهنّ للعنف على هذا الأساس.
تعرضت المشاركات الستون لواحد أو أكثر من أشكال العنف بسبب عدم تقيّدهنّ بالمعايير الاجتماعية السائدة حول اللباس في حين تُمارس المؤسسات التي يتوقع أن تلجأ إليها النساء للاحتماء، العنف عليهن بشكل مباشر، أو التسامح مع العنف الممارس ضدهن وتبريره، ما يكشف أن "هذا العنف هيكلي وليس مشكلة طارئة أو استثنائية".
أشكال مختلفة من العنف "الميكرواي (الخفي)" والصريح تختبرها النساء بسبب ملابسهن. علماً أن خطورة الآثار التراكمية للاعتداءات الميكراوية المرتبطة باللباس تكمن في "وضع النساء في حالة شبه دائمة من المراقبة الذاتية، والتحفّز، والحدّ من مشاركتهنّ الكاملة في الحياة العامة".
ولفتت المشاركات إلى لعب عائلاتهنّ دوراً محورياً في "بَوْلسة" (أي فرض قواعد صارمة على) مظهرهنّ ولباسهنّ وصولاً إلى تأديبهنّ في حال كسرهنّ قواعد "الاحتشام" في الملبس. وأشارت غالبيتهن إلى عدم ثقتهنّ في البنى المؤسسية والقانونية، وتردّدهنّ لناحية جدوى لجوئهنّ للتبليغ حال تعرّضن للعنف.
عموماً، تحدّ معايير "الحشمة" و"الاحترام" في المظهر من قدرة النساء على المشاركة الفعّالة في الفضاء العام والتنقل خلاله بحرية وأمان. ويعزز الخطاب الديني السائد إنتاج وإعادة إنتاج المعايير الاجتماعية الذكورية المتعلقة بلباس المرأة ويبرّر العنف الممارس ضدها.
ولاحظت دراسة أوكسفام أن النساء الأصغر سنّاً واللواتي لا يملكن موارد اقتصادية مستقلة أو كافية كن الأكثر تعرّضاً للعنف الصريح. ولعبت عدة عوامل أخرى، بينها الطبقية والعمر والهوية الجندرية، دوراً في اختلاف تجارب النساء مع العنف بسبب اللباس.وتُظهر شهادات المشاركات "الكلفة الباهظة على الصعيدين النفسي والاقتصادي"، للعنف الممارس ضد النساء المتصل بالمعايير السائدة حول الملبس. على سبيل المثال، تؤدي القيود على أساس الملبس والعنف ببعض النساء إلى تجنّب الأماكن العامة قدر الإمكان، والتفكير مرتين في ملابسهنّ.
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "النساء اللواتي لا يلتزمن بما يعتبر ‘محتشماً‘ من الملابس، يفقدن ‘الحماية الأبوية‘ وينظر إليهنّ غالباً على أنهنّ ‘يستحققنّ‘ العقاب والتأديب"

ومن التبعات الاقتصادية المكلفة للرقابة على ملبس النساء والعنف ضدهنّ، تأثيرها على شكل مشاركة النساء وتجاربهنّ في سوق العمل. بعض المشاركات قلن إنهن تعرضن للتمييز في سوق العمل بناء على الحكم عليهنّ من خلال ملابسهنّ ومظهرهنّ، أخريات أشرن إلى أن ضريبة عدم انصياعهنّ لمعايير اللباس السائدة كانت حرمانهنّ/ التهديد بحرمانهنّ من التعليم.

"مسايرة" و"تخفٍ"

أما أشكال المقاومة اليومية لهذه القيود التي اتخذتها النساء، فتنوعت بين ارتداء ما يحلو لهنّ خفية بعيداً عن أعين العائلة، ومحاولة تفادي الأقارب المتطفّلين، والكتابة بأسماء مستعارة عن تجاربهنّ هذه. وتضطر فتيات ونساء إلى سياسة "مسايرة" المعايير الاجتماعية في ملابسهنّ، ضمن إستراتيجية أوسع لـ"التفاوض مع الأبويّة". كان لافتاً كذلك في نتائج الدراسة "كيف تقاوم النساء العابرات بأجسادهنّ التي تشكّل بذاتها تمرّداً مستمراً على الحدود والقيود التي يضعها النظام الأبوي".
الجدير بالذكر أن المشاركات في الدراسة تنوعت خلفياتهن الوطنية والاجتماعية والثقافية والدينية والطبقية والإثنية والسياسية. فكانت بينهن طالبات وحديثات تخرج، وباحثات وناشطات في مجالات مختلفة. علماً أن بعضهن كن معيلات رئيسيات لأسرهنّ، وأخريات عاطلات من العمل، وبينهن من تعيش مع عائلتها، ومن استقلّت عن ذويها، ومن تسكن الريف ومن تعيش في المدن.
في الوقت نفسه، تنوعت البيئات التي تنحدر منها المشاركات. بعضهن يأتي من مجتمعات وعائلات محافظة للغاية، وأخريات من بيئات أكثر انفتاحاً واختلاطاً. وكانت غالبية المشاركات متوافقات النوع الاجتماعي، والبقية كويريات وعابرات جنسياً - حسب تعريفهن لأنفسهن.

ما أهمية مثل هذه الدراسات؟

في رأي فرح قبيسي، الناشطة النسوية والباحثة المستقلة التي أجرت دراسة أوكسفام، يُعد "السرد الشخصي إحدى منهجيات التغيير. فهو نقيض لتوصيف النساء ككائنات ضعيفة ومستلبة، ونقيض لتاريخ ممتد من محاولة نزع الشرعية عن خطاباتنا. إذ من خلال السرد، تُقلب الأدوار الجندرية، و‘تعلن النساء أنفسهنّ ‘ذاتاً‘ بعدما كنّ ‘موضوعاً‘".
تعتبر قبيسي أيضاً "أن تنوّع السرديات، وطرح القصص لأنماط وتجارب مختلفة للنساء مع العنف، يتوجه بشكل معاكس للأفكار والنظم والمعايير الأبوية التي تحاول اختزال صورة نمطية لـ‘ضحية مثالية‘ وتكريسها. وهو ما يخلق انقساماً بين ضحية ‘تستحق التعاطف‘، وأخرى ‘لا تستحقه‘، وهذا ما يبرز بشكلٍ واضح من خلال حكم المجتمع على مدى استحقاق النساء للأمان والسلامة بالنظر إلى مدى إلتزامهنّ بالمعايير الاجتماعية السائدة حول ملابسهنّ".

"ألبس الحجاب لأنني أعبر عن نفسي بهذه الطريقة. وأعتبر أنّ من العنف أن يضغط عليّ أحد كي أخلعه، وعنفٌ حين يقال لي إن حجابي غير كافٍ"... نساء شرق أوسطيات يواجهن عنفاً من مجتمعاتهن بسبب ملابسهن

"وظيفة هذا الانقسام تغذية تصوّرات السلطة الأبوية عن النساء. من هنا، ضرورة أن تُروى قصص النساء مع العنف ومقاومته، بتنوّع بطلاتها وبطريقة لا تساهم بإعادة إنتاج النظم القمعية، ولا تساهم في إخفاء وإسكات ومصادرة ما تود النساء روايته، إرضاءً أو خوفاً من مشاعر المجتمع الأبوي. بل لتؤكد على وكالة النساء الذاتية وإن في ظل ظروف قاهرة ليست من صنعهنّ"، تضيف قبيسي. 
مشاركة تجارب النساء وقصصهن، لا سيّما أولئك اللواتي يتعرضن للعنف بعزلة وفي صمت، يظل الهمّ الأساسي للسرد والتوثيق القصصي لحيوات النساء اليومية برأي الباحثة والناشطة النسوية.
أما الباحثة زينا الزعتري، فترى أن "المقاومة تتشكل من خلال تَمَكّن النساء من الاستفادة من السرد القصصي كوسيلة لعكس مواقع السلطة، وتقويض الهياكل والممارسات الأبوية السائدة، عبر تعطيل الخيال والمنطق"، مشددةً "سرد القصص هو فعل متوارث بين النساء. فهنّ القاصّات الأساسيات".
وتجيب عن تساؤل: "أي القصص يجب أن نروي؟" بقولها إن "القصص المضادة" أي القصص التي تتعارض مع قصص الغالبية المهيمنة التي تمكّن وتبرّر لأفعال متحيّزة سواء عنصرية، أو ضد النساء هي التي ينبغي أن نرويها كـ"أداة لفضح السردية المهيمنة وتحليلها وتحدّيها".

"أجسادنا محل نزاع سياسي. بعد الفشل السياسي  والاقتصادي للأنظمة الحالية، لم تجد غير النزاع على أجسادنا نحن لتلهي الناس بها".

وتختم شارحةً: "لا ينبغي للقصص المضادة أن تُجيب عن القصص الطاغية فقط، لأن ذلك ما يزال يساهم في هيمنتها. بل عليها أن تذهب أبعد من ذلك، بالتحدث عن احتمالات تجاوزية للعيش في أماكن قمعية مثل الفضاءات المتحيزة ضد النساء، والفضاء العام الذي تستبعد منه النساء والأشخاص غير النمطيين جندرياً".

شهادات:

"أجسادنا محل نزاع سياسي. بعد الفشل السياسي  والاقتصادي للأنظمة الحالية، لم تجد غير النزاع على أجسادنا نحن لتلهي الناس بها"، (ميرال، ناشطة وكاتبة، عابرة جندرياً، 22 عاماً).


"المعايير السائدة حول اللباس والعنف المتأتي منها هما القربان الذي على النساء تقديمه من أجل أن يتم قبولهنّ بهذه الكثافة في الفضاء العام"، (حنين، باحثة مصرية، 35 عاماً).


"لكلّ مكان قواعد لباس. إن كان مكان العمل مليئاً بالرجال، فالأفضّل أن يكون لبسي فضفاضاً وألا يكون ملتصقاً بالجسم. في الجامعة ألبس كما أريد، ولكن بحدود. في الأماكن الرسمية، من المهم أن يكون زيي رسمياً. أما في السوق فمن المهم أن يكون اللباس واسعاً. وكلّ ذلك لكي أتفادى اللوم ولكي لا يقال، إن حصلت مشكلة: "أنت كنت تلبسين كذا وكذا"، (فداء، مدرّسة عراقية، 35 عاماً).


"لو قمتُ بتشجيع أي بنت على أن تتخذ قرار لباسها بنفسها، قد تتعرّض للضرب من عائلتها. وقد يصل الأمر أحياناً إلى حرمانها من أنشطة كانت تقوم بها مثل الخروج والتنقّل. وقد يصل العنف لدرجة قتلها على يد عائلتها. فلا يمكنك التوقع مسبقاً النتيجة الكارثية لما يمكن أن يحصل"، (لينا، أردنية عاملة في منظمة غير حكومية، 31 عاماً).


"أهلي يعتقدون أن البنت غير المحجبة هي بنت سيئة. البنت التي تلبس ثوباً واسعاً يبيّن جسدها هي بنت سيئة. البنت التي تلبس لباساً ضيقاً من أجل أن تبيّن جسمها هي بنت سيئة. البنت يجب أن يكون لها شكل معيّن ووظيفة معيّنة وأي شيء غير نمطي، غير مقبول"، (بيرنا، حقوقية، عابرة جندريّاً، 33 عاماً).


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image