"لا داعي للزراعة والصناعة. افتحوا المطاعم والمرافق السياحية"؛ هذه عبارة تُنسب إلى رئيس حكومة لبناني عايش مرحلة ما بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف عام 1989، يوم كان الاقتصاد اللبناني معتمداً، ولا يزال، على السياحة بشكل أساسي، ويوم كان لبنان محط رحال السيّاح الخليجيين بالتحديد، ويوم لم تكن تركيا ولا غيرها من الدول قد بدأت بإعطاء القطاع السياحي الأهمية اللازمة لأجل تطويره.
تطورت السياحة في كل الدول المحيطة بلبنان، وتراجعت في البلد الذي يتنفس من هذا القطاع، إلى جانب وقوعه في مشكلات سياسية كبيرة تلت "خروج" الجيش السوري من لبنان، لكن الضربة الكبرى للقطاع كانت عام 2011، تاريخ بدء الاحتجاجات في سوريا والتي تحوّلت لاحقاً إلى حرب لا تزال مستمرةً إلى اليوم بأشكال مختلفة.
ولعب القطاع السياحي في لبنان دوراً رئيسيّاً في تنمية الاقتصاد، فكانت الذروة في العام 2010، عندما شكّلت أعداد الوافدين إلى لبنان من الدول العربيّة وأوروبا أرقاماً قياسيّةً، فأصبحت السياحة وحدها تشكّل ربع الدخل القومي في لبنان.
أرقام السيّاح
في العام 2011، بدأت الكارثة السياحية على لبنان، بعد المقاطعة الخليجية، إذ تُشير أرقام وزارة السياحة، والتي اطّلع عليها رصيف22، إلى أن تراجع السياح العرب بدا لافتاً منذ العام 2011، إذ بلغت نسبته 40 في المئة، فسُجّل وصول 230 ألف خليجيّ من أصل مليون و650 ألف وافد إلى لبنان، بعد أن كان العدد عام 2010، 386 ألف خليجي. وبعدها استمرت الأعداد في النزول بشكل كبير، فوصل إلى بيروت عام 2012، 146 ألف خليجي، ثم 86 ألفاً عام 2013، ثم ارتفع قليلاً عامَي 2014 و2015 إلى 97 ألفاً ثم 104 آلاف.
في العام 2010، حققت أعداد الوافدين أرقاماً قياسيّةً، فأصبحت السياحة وحدها تشكّل ربع الدخل القومي في لبنان
في العام 2016، ازداد عدد السياح الأجانب في لبنان مقارنةً بالسنوات التي سبقت، لكن بسبب الأوروبيين لا الخليجيين، فوصل العدد إلى نحو 140 ألف سائح، إلا أن اللافت كان انخفاض الانفاق السياحي لأن الأوروبي لا يُنفق كما العربي.
بحسب الأرقام، عام 2017 زار لبنان نحو 10 آلاف سائح خليجي، أنعشوه خلال فترة عيد الفطر، إلى جانب ارتفاع أعداد السياح العراقيين، فبلغ العدد الإجمالي للسياح نحو 300 ألف، لكن في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2017، وعلى خلفية استقالة حكومة سعد الحريري، واشتداد الأزمة السياسية بين لبنان والخليج، عادت السعودية وطالبت مواطنيها بمغادرة لبنان في أقرب فرصة ممكنة، وكذلك دعت الكويت مواطنيها إلى مغادرة لبنان فوراً، وكررت الإمارات دعوتها لمواطنيها لمغادرة لبنان وعدم السفر إليه إطلاقاً.
واستمر الحال كذلك حتى العام 2019، لتكون جائحة كورونا بعدها سبباً رئيسياً في توقّف الحركة السياحية في لبنان والعالم أجمع، بينما استمرت المقاطعة الخليجية للبنان حتى يومنا هذا.
أسباب التراجع
عام 2011، انطلق الصراع المسلح في سوريا، ودخل لبنان إلى صلب هذا الصراع من خلال دخول أطراف لبنانية على خط الحرب، إلى جانب بدء توافد النازحين السوريين إلى لبنان، الأمر الذي ترافق مع معارك سياسية حادة بين اللبنانيين، وبين أطراف لبنانية كحزب الله، والدول الخليجية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
هذا الصراع، الذي تصاعد على وقع بدء التفجيرات الإرهابية في لبنان، جعل الدول الخليجية تتخذ قراراً بمنع السفر إلى بيروت، وهذه كانت الضربة الأولى للقطاع السياحي، الذي يعتمد بشكل أساسي على السياح الخليجيين، ومن ثم توالت رسائل التحذير الدولية من السفر إلى لبنان.
تزايدت أعداد النازحين في لبنان، واشتدّ الصراع السياسي، قبل الفراغ الرئاسي عام 2014، وبعده، حتى مع انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016، إذ لم يشفع هذا الانتخاب في عودة العلاقات العربية-اللبنانية إلى الطريق السليم، خاصةً أن تسوية انتخاب عون لم تلحظ الموقف السعودي والعربي، فاشتدتّ الأزمة بين حزب الله والخليجيين، وارتفعت حدة الاتهامات، من سوريا إلى العراق واليمن، فاستمرّ قرار منع السفر العربي إلى بيروت.
ما بين عامي 2008 و2010، كانت نسبة تشغيل الفنادق في كل لبنان تصل إلى حدود 78٪، على مدار العام، أما النسب في بيروت الكبرى فكانت تصل إلى 100٪، تعالوا نتعرّف كيف تراجعت ولماذا؟
عام 2019، بدأ حراك الشارع في لبنان للمطالبة بإسقاط الحكومة والنظام والقوى السياسية الممسكة بزمام السلطة، فتعرّض البلد لخضّة، أفقدته توازنه النقدي فسقطت الليرة، وطار الدولار مقابلها، فأصبح لبنان بلداً رخيصاً لحاملي الدولار، لكن ذلك لم يحسّن الوضع السياحي، بسبب؛ أولاً تقطع أوصال المناطق بسبب التظاهرات والإضرابات، وثانياً بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن لبنان بشكل شبه كامل، وبعدها كانت الضربة الكبرى بوصول وباء كورونا إلى بيروت في شباط/ فبراير عام 2020، لكن بعد انتهاء الكورونا أو تراجع انتشارها، عادت الحركة السياحية إلى بيروت لكن من باب المغتربين اللبنانيين الذين باتوا يجدون لبنان بلداً رخيصاً يمكنهم زيارته مراراً خلال العام، إلى جانب عدد لا بأس به من العراقيين والمصريين والأردنيين.
2010... ما قبلها وما بعدها
تحسّن الوضع السياحي بعد انتهاء جائحة الكورونا، لكن من باب تزايد أعداد المغتربين الذين قدموا إلى لبنان لتمضية الصيف أو فترات الأعياد، كما هو الحال اليوم، فالمغترب الذي كان يزور لبنان كل سنة مرةً، قبل العام 2019، يجد اليوم الفرصة مناسبةً لزيارته أكثر بسبب فارق السعر بين الليرة والدولار، حتى وإن كان القطاع السياحي قد بدأ بالتسعير بالعملة الأجنبية ليتمكن من الصمود، إلا أن الأسعار اليوم بالدولار تختلف اختلافاً جذرياً عن السابق.
يُشير نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر، إلى أن السياحة اليوم أفضل بكثير عمّا كانت عليه زمن كورونا، إنما المقارنة هذه لا تجوز مع زمن ما قبل العام 2011.
ويضيف في حديث إلى رصيف22: "ما بين الأعوام 2008 و2010، كانت نسبة تشغيل الفنادق في كل لبنان تصل إلى حدود 78 في المئة، على مدار العام، أما النسب في بيروت الكبرى فكانت تصل إلى 100 في المئة، وكان مدخول السياحة يصل إلى حدود 9 مليارات دولار سنوياً، لكن كل هذا تغيّر بعد العام 2011".
في هذه الأيام، تبلغ نسبة إشغال الفنادق في بيروت أقل من 50 في المئة لنحو 8 أشهر في العام، أما في المناطق البعيدة عن بيروت فهي شبه معدومة وتصل إلى ما بين 10 و15 في المئة، وهناك الكثير من المؤسسات التي أقفلت أبوابها، من دون الإعلان عن ذلك، أملاً بإعادة فتحها قريباً.
حتى الأسعار اليوم انخفضت عن السابق، بالرغم من أن الكلفة التشغيلية ارتفعت، فبحسب الأشقر، كانت أسعار الفنادق تصل إلى 250 دولاراً لليلة الواحدة، بينما كانت كلفة الطاقة لا تتعدى الـ10 في المئة، بينما الأسعار اليوم أصبحت بحدود 150 دولاراً لليلة، وكلفة الطاقة 35 في المئة، وهذه كلها تُسجَّل كخسائر للقطاع السياحي.
تحسّن الوضع السياحي بعد انتهاء جائحة الكورونا، لكن من باب تزايد أعداد المغتربين الذين قدموا إلى لبنان لتمضية الصيف
"عيدها هالشتوية"
بعد حملة وزارة السياحة الصيفية "أهلاً بهالطلة"، والحديث المبالغ فيه عن ستة مليارات دخلت إلى لبنان كمردود للموسم السياحي، قدّر وزير السياحة وليد نصار، عدد الداخلين إلى لبنان في أشهر الصيف بحدود المليون و720 ألف زائر، متوقعاً أن يستقطب لبنان خلال شهري تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر، ضمن الحملة السياحية "عيدها عالشتوية"، نحو نصف مليون وافد، بإيرادات تتراوح بين مليار وملياري دولار.
وتشير الأرقام التي جمعتها وزارة السياحة إلى أن "عدد السائحين الوافدين إلى لبنان بلغ 1.12 مليون سائح في الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، أي بارتفاع بنسبة 70 في المئة عن الأشهر التسعة الأولى من العام 2021، وبنسبة 288 في المئة من الأشهر التسعة الأولى من العام 2020.
وبحسب الوزارة، بلغ عدد السائحين الوافدين إلى لبنان 62،340 سائح في كانون الثاني/ يناير عام 2022، و67،800 سائح في شباط/ فبراير، و82،810 سيّاح في آذار/ مارس، و87،579 سائحاً في نيسان/ أبريل، و115،469 سائحاً في أيار/ مايو، و154،740 سائحاً في حزيران/يونيو، و238،506 سياح في تموز/ يوليو، و172،962 سائحاً في آب/ أغسطس، و138،721 سائحاً في أيلول/ سبتمبر 2022، مقارنةً بـ23،560 سائحاً في كانون الثاني/ يناير، و22،747 في شباط/ فبراير، و36،953 في آذار/ مارس، و39،661 في نيسان/ أبريل، و63،699 في أيار/ مايو، و104،950 في حزيران/ يونيو، و179،096 في تموز/ يوليو، و108،413 في آب/ أغسطس، و79،951 في أيلول/ سبتمبر، من العام 2021.
لا يهتمّ نقيب أصحاب الفنادق كثيراً بأرقام الوافدين، فأغلبهم كما يقول هم من المغتربين اللبنانيين لا السياح الأجانب، وهؤلاء ينزلون في منازلهم بشكل أساسي، لكنهم يُضيفون الكثير إلى المقاهي والمطاعم والملاهي.
ويقول: "عادةً، ينزل السياح في هذا الوقت من العام في الفنادق الموجودة في مناطق الثلوج، في كفرذبيان وفقرا واللقلوق وفاريا، وعادةً ما يقضي القادمون إلى لبنان أيام العيد الأولى مع عائلاتهم في منازلهم، لذلك فإن العطلة المفيدة للقطاع لا تتعدى 4 أيام، لذلك نحن بعيدون جداً عن عودة لبنان إلى كونه وجهةً سياحيةً بامتياز، وذلك لن يحصل طالما هناك حظر عربي وخليجي وتنبيهات أوروبية من القدوم إلى بيروت، فهل يكفي هذا السبب لاستسلام المسؤولين عن تحسين ظروف البلد السياحية؟".
كيف يعود لبنان؟
لا يكفي القول إن الحظر الخليجي يعني انتهاء السياحة في لبنان، كما لا يكفي عدّ ما يوجد في لبنان كافياً ليستعيد دوره السياحي في المنطقة، فحتى لو انتهى الحظر العربي، هناك نقاط عدة تنبغي إثارتها لتحسين جودة السياحة في لبنان أبرزها بحسب وزير السياحة السابق في لبنان فادي عبود، "أسعار تذاكر السفر إلى بيروت".
تراجع لبنان كثيراً علّى سلّم منافسة الدول السياحية التي يقصدها السائحون وخاصة العرب منهم، فماذا يحتاج البلد لكي يعود إلى سابق عهده؟
يرى عبّود في حديث إلى رصيف22، أن "اللبناني يصنَّف بأنه ذكي ويمكنه خلق ما يسترعي انتباه السياح، على صعيد المطاعم، وكل الخدمات كالتزلج أيضاً وغيره، أي يمكننا الوقوف من جديد وبسرعة، وذلك لأنه لدينا السهر والخدمات، وخصوصاً من ناحية الأسعار، إذ إن أسعار الفنادق في لبنان يمكنها أن تصنّفه دولةً تنافسيةً، عكس موضوع الطيران"، الذي ينتقده الوزير السابق بشدة.
ويضيف: "من هنا يجب التفكير في إعادة خلق أفكار ونشاطات جديدة لجذب السياح، وفي ما يخص الأعياد، أرى أن عدد الزوار، وليس بالضرورة الأجانب، كان سيفوق الـ200 والـ300 ألف سائح، ولكن أسعار الرحلات مرتفعة جداً وأيضاً لا أماكن متاحةً، لذلك يجب فتح الأبواب لكل شركات الطيران للقدوم إلى لبنان، من دون أي مشكلات أو عراقيل، وهذا يُعدّ الموضوع الأساس، لأن اليوم المعدل العام للرحلة من أوروبا ذهاباً وإياباً هو 1،000 دولار، أما من إفريقيا فـ1،200 دولار، وهذا يستدعي تأسيس شركة خاصة للبنان لتعتمد مبدأ الطيران المنخفض الثمن، فنحن في حاجة إلى طيران من أوروبا بنحو الـ100 دولار فقط".
كذلك، ولكي يكون لبنان تنافسياً، عليه بحسب عبود، أن "يهتم بإعادة فتح بعض الفنادق وإيجاد الحلول لمشكلة الكهرباء، واستثمار موضوع الأملاك البحرية، بعد دفع البدل العادل لها، وفي ما يتعلق بالخدمات المقدّمة من مطار بيروت فيجب تغييرها، إذ لا توجد أي خدمة صحيحة من نقليات ومواصلات، كما أن هناك خدمة التنظيف، وكلها خدمات يجب أن تتحسن قدر الإمكان، فعملية ترتيبها بسرعة أصبحت واجبةً، وأخيراً هناك موضوع الفواتير التابعة للمطاعم، إذ يجب على وزارة السياحة أن تتشدد في مراقبتها، وخصوصاً بعد موضوع صرف الدولار والليرة اللبنانية، وكل هذه الحلول يمكن تنفيذها في المدى القصير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 18 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت