تشكّل عدة مواد قانونية، من ضمنها المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني، نموذجاً تقف وراءه السلطة لمحاولة قمع الاختلاف في لبنان، ما يشكل خطراً حقيقيّاً على الصحة النفسية والجسدية لأفراد مجتمع الميم-عين الذين يتعرضون لمضايقات وانتهاكات متواصلة، وتتدخل القوى الأمنية اللبنانية باستمرار لقمع بعض الأنشطة الحقوقية المتعلقة بالجندر والجنسانية.
ضغوطات نفسية كبيرة
تشارك مريم سمير (اسم مستعار) قصتها، وهي في طور العبور الجندري: "بسبب إني ما عملت ولا عملية تجميلية، بيتنمّروا على شكلي"، وتضيف لرصيف22: "أتعرض للتنمر والنبذ رغم أنني لا أجاهر بذلك على الملأ، وهذا يجعلني أتحفظ أكثر وأكثر على عرض ميولي أو الإعلان عنها، كما أنني أعيش في خوف دائم من التعرّض لأكثر من مجرّد السخرية التي تطالني دائماً في المجتمع، أي إمكانية أن أُلاحق قانونيّاً أيضاً أو أن يتم سجني".
هذا الضغط النفسي جعل مريم (26 عاماً) التي كانت تعمل نادلة في أحد المطاعم في بيروت، تشعر بالتهديد الدائم.
تشكّل عدة مواد قانونية، من ضمنها المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني، نموذجاً تقف وراءه السلطة لمحاولة قمع الاختلاف في لبنان، ما يشكل خطراً حقيقيّاً على الصحة النفسية والجسدية لأفراد مجتمع الميم-عين الذين يتعرضون لمضايقات وانتهاكات متواصلة
وتشير سمير إلى أنه عندما تشتدّ الأزمات في البلاد، تتجنّب أن تطرح رأيها وأن تظهر نفسها وتعبر بحرية عما تعتنقه من أفكار، وذلك ليقينها وإدراكها بأنها معرّضة للخطر، ويسهل استهدافها والاعتداء عليها، نتيجة التمييز والتهميش الذي يتعرّض له العابرون والعابرات جنسيّاً وغيرهم من أفراد المجتمع الكويري، ما يجعلها في عذاب نفسي متواصل.
ضوميط القزي دريبي هو أيضاً واحد من الذين تعرّضوا للأذى المعنوي.
يروي دريبي لرصيف22، تعرّضه للكثير من حملات التنمّر ورهاب المثلية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي وصلت إلى حدّ التهديد بالضرب والقتل، وذلك بعد الدعوة لمظاهرة ضد قرار وزير الداخلية منع تجمعات أفراد مجتمع الميم-عين.
ممارسات مجحفة
تستمرّ الممارسات المجحفة بحق أفراد مجتمع الميم-عين في لبنان، رغم أن الجمعية اللبنانية للطب النفسي أوضحت في حزيران 2022 في بيان لها أن المثلية لا يمكن اعتبارها مرضاً يتطلب العلاج، وهذا يتماشى مع الإجماع الدولي داخل مجتمع الطب والرعاية الصحية لعقود عدة، كما أنه يتفق مع بيان موقف الجمعية اللبنانية للطب النفسي المنشور عام 2013 حول الموضوع نفسه.
ودعت الجمعية "الخبراء في مجال الصحة في لبنان إلى الاعتماد حصراً على العلم عندما يعبّرون عن آرائهم أو يصفون العلاج لهذه الحالة".
وفي دراسة مفصلة عن منع التعذيب ورصده في لبنان أعدتها منظمة "ALEF من أجل حقوق الإنسان" ALEF - Act for human rights، يظهر التعذيب كأداة سلطوية تقلّل من حماية القانون وحقوق الإنسان، وترجّح كفّة السلطة وفرض السيطرة ونشر الخوف، ويطال ذلك تحديداً الفئات المهمشة في المجتمع، كأفراد مجتمع الميم-عين، حيث برزت هذه الانتهاكات بحقهم بشدّة في الفترة الأخيرة.
وتشير الدراسة إلى أن المواقف المتساهلة تجاه العنف وخطاب الكراهية والتحريض والتجريد من الإنسانية، تساعد على التشجيع على اللجوء إلى هذه الممارسات وإفلات مرتكبي التعذيب من العقاب وتبرير أفعالهم.
وفي حديث مع المحامي والباحث في المفكرة القانونية في لبنان كريم نمور، أكد لرصيف22، إن المادة 534 من قانون العقوبات تهدد سلامة المثليين/ات الجسدية والنفسية وتعرضهم/نّ لشتى أنواع الانتهاكات.
في الواقع، إن المادة 534 تجرم "المجامعة خلافاً للطبيعة"، وتم استخدامها تاريخيّاً لملاحقة ومعاقبة المثليين/ات، ويعاقب الشخص المخالف بالسجن لمدة سنة.
أما من الناحية العملية، فأشار نمور إلى أن تطبيق القانون متباين، وغالباً ما يحدث خلال اعتقالات الشرطة، وتقوم النيابات العامة بتوقيف أفراد من العابرين جنسيّاً، علماً أنهم، حسب القانون، غير مخالفين، لكن النظرة العامة إليهم من قبل المجتمع تجعلهم أكثر عرضة لمصادرة حرياتهم.
ولفت كريم إلى أن "بعض القضاة طبّق بشكل موسع ومحافظ جدّاً، القانون الذي وضعته أيام الانتداب الفرنسي حكومة فيشي المقرّبة من النازيين"، معتبراً أن عبارة (المجامعة على خلاف الطبيعة) ليست سوى جملة مبهمة، ولا يمكن لنصّ في قانون العقوبات أن يكون مبهماً، وإن كان كذلك، فيفسّر لصالح المتهم/ة. لذا، وبالحد الأدنى، يجب أن يتوفّر فعل المجامعة، "لكن القضاة عاقبوا أشخاصاً لمجرد اتهامهم بهويتهم من دون قيامهم بالمجامعة".
آلية حماية أفراد مجتمع الميم-عين
مقابل التفسيرات المحافظة، أصدر بعض القضاة قرارات رفضت ملاحقة المثليين والمثليات، ورغم ذلك، قد يشكل القانون عائقاً أساسيّاً أمام انخراطهم/نّ "بالمعنى التقليدي" في الحياة السياسية، لذا، شدّد المحامي نمور على أهمية إبطال المادة 534 أو تفسيرها بالاجتهاد على نحو يحول دون ملاحقة ومعاقبة المثليين/ات، احتراماً للمبادئ المنصوص عليها في الدستور وفي المعاهدات الدولية الموقعة من لبنان.
وفيما يخص الآلية التي يمكن أن تحمي أفراد مجتمع الميم-عين، أضاف نمور أنها تكمن بضرورة تصحيح القوانين وتشكيل إطار حمائي للأشخاص، يتحول إلى أداة لجعله سلاحاً بيدهم، لكن الأهم من ذلك هو تنفيذ هذه القوانين لكي يصبح لها الأثر الأكبر على المدى البعيد، لتستطيع من خلال ذلك تشكيل مجتمع أكثر أماناً.
وقد اتفق كل من ضوميط القزي دريبي ومريم سمير على ضرورة العمل لضمان حقوقهم/نّ وسلامتهم/نّ عبر تصحيح القوانين التي تضمن ذلك، لأنه بالنسبة للعديد من أفراد مجتمع الميم-عين، يُشكّل خطر الأذى الجسدي والاعتداء اللفظي تهديداً دائماً يرافقهم خلال معظم أنشطتهم اليومية العادية، ويشعرون بضرورة إخفاء هويتهم الجندرية وميولهم الجنسية لمواصلة حياتهم اليومية.
وفي السياق نفسه، أوضحت المسؤولة في قسم التواصل في جمعية العناية الصحية (SIDC) نسام دغيم، في حديثها مع رصيف22، أن العمل الأساسي يكمن في وضع سياسات حمائية لوقاية مجتمع الميم-عين في أماكن العمل ومراكز الرعاية الصحية والاجتماعية، مشيرة إلى أنه يجب أن يتم ذلك بالتشبيك مع منظمات من المجتمع المدني، ورجال دين، وصانعي القرار، ورجال الشرطة، من أجل تطوير مهارات التعامل مع أفراد مجتمع الميم-عين، وهذا ما يعملون عليه كجمعية لمنع كل ما يعرض السلامة الجسدية والنفسية للأذى.
إن مجتمع الميم-عين، قد بدأ في المطالبة بحقوقه، وتحتل الحاجة لمكافحة التعذيب وإساءة معاملة أفراد مجتمع الميم-عين في لبنان موقعاً أساسيّاً في عدد من الاتفاقيات والمعاهدات والإعلانات الدولية، ولبنان ملزم باحترامها بموجب القانون الدولي، ومقيَّد بها بموجب مقدمة دستوره.
يظهر التعذيب كأداة سلطوية تقلّل من حماية القانون وحقوق الإنسان، وترجّح كفّة السلطة وفرض السيطرة ونشر الخوف، ويطال ذلك تحديداً الفئات المهمشة في المجتمع، كأفراد مجتمع الميم-عين
ويرى ناشطون/ات حقوقيون/ات، واجتماعيون، وأفراد من مجتمع الميم-عين، أن ذلك ممكن إذا تخلت القوى الأمنية اللبنانية عن سياسة توقيف واحتجاز أفراد مجتمع الميم-عين، كحادثة اعتقال امرأة مثلية في منطقة الروشة في العام 2017، حيث تعرّضت للابتزاز والاعتداء الجنسي داخل مركز الاحتجاز، بالإضافة إلى حوادث اعتقال أضيفت إلى السجلّ العدلي حسب التقرير الأول لـ"مرصد انتهاكات حقوق الإنسان" (SOGIE Monitor) الذي أطلق في 20 نيسان 2017، كما اقتحمت قوات الأمن الداخلي في 14 مايو/ أيار 2018 أمسية شعرية، واستدعت منسق بيروت برايد، هادي داميان إلى مخفر حبيش، حيث أمضى ليلته، حسب تقرير لهيومان رايتس ووتش.
الأمر نفسه ينطبق على الدولة اللبنانية، حيث عليها وضع وتنفيذ تشريعات تحمي من التمييز على أساس التوجه الجنسي والهوية الجندرية، مروراً بضبط قوانين العمل وعدم التمييز الوظيفي، وغيرها من الأمور التي ما زالت عالقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...