يوم مفصليّ يأتي مباشرةً بعد مغادرة رئيس الجمهورية المنتهي عهده، ميشال عون، وقبل اليوم الموعود أو المشؤوم الذي سيصبح فيه قرار رفع الدولار الجمركي إلى 15،000 ليرة لبنانية، بدلاً من 1،500 ليرة، الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني ضمن موازنة العام 2022، ساري المفعول. تتخبّط مختلف القطاعات ومعها الناس في لبنان بلا رؤية واضحة لما سيصبح عليه الحال. "رايحين عالخراب"؛ جواب موحّد يُجمع عليه الكثير من اللبنانيين عندما يتم سؤالهم: كيف ستكون الأسعار بعد رفع الدولار الجمركي؟ لكن هل يدركون حقاً مدى فتك هذا الأمر بالقطاعات المختلفة في حياتهم اليومية؟
الدولار الجمركي، هو عبارة عن الرسوم المفروضة على السلع والبضائع المستوردة، التي تُحتسب وفقاً لقيمة المستوردات والعملة المعتمدة في فاتورة استيرادها، وقد ظلّت تسعيرة الدولار الجمركي على 1،500 طوال السنوات الثلاث الماضية التي تخبّط فيها سعر صرف الدولار حد ملامسته الأربعين ألف ليرة لبنانية في السوق السوداء خصوصاً في الفترات الأخيرة.
السلطة اللبنانية لجأت إلى رفع الرسوم الجمركية كـ"حلّ" للأزمة الاقتصادية المتراكمة وفق رأيها، فمن خلالها يمكنها رفع إيراداتها والحصول على موارد إضافية مقابل التخفيف من طبع النقد المتزايد بنسبة كبيرة في المرحلة الأخيرة، ضاربةً بعرض الحائط حياة الناس المنهكة أساساً من ثقل الأعباء المالية التي يعيشونها.
اليوم يدخل المواطن اللبناني مرغماً، حقبةً جديدةً، دولاره فيها بين ثلاثين وأربعين ألف ليرة (منصة مصرف لبنان والسوق السوداء)، من دون أي اتجاه حقيقي نحو تثبيت سعر صرف العملة، والدولار الجمركي 15،000، ليصبح محاصراً في لقمة عيشه من كل حدب وصوب بالرغم من التطمينات الكثيرة من بعض الاقتصاديين والسياسيين بأن حاجات الناس الأساسية لن تتأثر بنسبة كبيرة لأنها ستكون معفاةً من الدولار الجمركي. إلا أنها ولو أعفيت من ذلك، فلا مفرّ من الضرائب التي ستضاف إليها.
لجأت السلطة إلى رفع الرسوم الجمركية كـ"حلّ" للأزمة الاقتصادية المتراكمة، لرفع إيراداتها والحصول على موارد إضافية
عودة زمن غلاء السيارات
قطاع السيارات الذي يتردد في أوساطه خبر رفع الدولار الجمركي منذ أشهر، كان الأكثر حركةً في هذا الإطار، فقد شهد صيف 2022، تهافتاً على شراء السيارات أو تسجيلها وإنجاز معاملاتها للاستفادة من الأسعار قبل تغييرها، كون كافة السيارات في لبنان مستوردةً من الخارج.
فضل بدر الدين، أحد تجار السيارات بالجملة، يشرح لرصيف22، حسبة "تكييش" السيارة جمركياً على سعر صرف الدولار: "مثلاً، سيارة ‘تويوتا ياريس’ كان يبلغ سعرها 13،000 دولار أمريكي وجمركها 9 ملايين، أي 7،000 دولار، أيام الـ1،500، بقي الجمرك نفسه في السنوات الثلاث الماضية، وصار لا يتجاوز الـ300 دولار حسب سعر صرف السوق السوداء (300 X 35)، بينما انخفض سعر السيارة نفسها في السوق إلى 8،500 دولار كون التجار استفادوا من الجمرك المنخفض وصاروا يستوردون عدداً أكبر من السيارات".
أما مع الدولار الجمركي الجديد، فستعود جمركة السيارات وأسعارها إلى الارتفاع بشكل كبير. يضيف فضل: "السيارة التي كان جمركها 9 و10 ملايين ليرة، أي 300 دولار وفق السعر الحالي، سيُصبح 3،000 دولار، والتي كان ثمنها قبل 2019، 35 ألف دولار أمريكي وبيعت في السنوات الأخيرة بـ25،000 دولار، ستعود إلى سابق عهدها وسعرها، وسيشهد سوق السيارات تراجعاً في حركة استقدامها وبيعها لعدم قدرة الناس على تحمل تكاليفها"، كما يشير بدر الدين إلى أن هناك أعداداً كبيرةً من السيارات لا تزال في البحر، الناس اشتروها ولكن لم يستلموها بعد ربما لرغبة بعض التجار في التلاعب بدولارها الجمركي والاستفادة من القرار الجديد.
هل المواد الغذائية مُعفاة؟
التلاعب بالأسعار والاحتكار، وعبارة "مشتريها عدولار 40"، ليست جديدةً أبداً على اللبنانيين ولا تتوقف على قطاع واحد فقط، بل إنّ الأزمة الاقتصادية-الأخلاقية ظهرت بأسوأ أشكالها منذ عام 2019، وحتى يومنا هذا، عندما احتُكرت أدوية السرطان وحليب الأطفال والخبز والمواد الغذائية الأساسية.
حتى الساعة، لم تتسلم وزارة الاقتصاد لوائح الأسعار الجديدة من الوزارات المختصة: الزراعة، والصناعة والمالية، ولم يتم تعميم هذه الجداول بعد على المواطنين بشكل يسمح لهم بمعرفة المتغيرات الجديدة على حياتهم اليومية، علماً أن الاتجاه سيكون نحو استمرار إعفاء سلّة من المواد الغذائية من تبعات الدولار الجمركي، لكنها لن تسلم من ارتفاع الضرائب، وفق مصدر مطلع في الوزارة رفض ذكر اسمه.
أدهم شومان، هو أحد موزعي المواد الغذائية لصالح شركة غاردينيا، يشير إلى أن الظرف الواحد من البهارات يبلغ سعره اليوم دولاراً واحداً وضريبته ضئيلة تبلغ 0.01%، أما في حال ارتفاع الضرائب بشكل تصاعدي 14 أو 15% على كل سلعة، فسيصبح ثمنه دولاراً واحداً وفقاً لسعره في السوق السوداء زائداً قيمة الضريبة التي قد تصل إلى 1،500 ليرة وكذلك الأمر بالنسبة إلى كيلوغرام البرغل (دولار واحد) أو كيلوغرام العدس (دولارين).
الحديث عن أن 80% من المواد الغذائية لن ترتفع أسعارها، هو محض كذب، فرفع الدولار الجمركي صفقة لإفقار الفقير أكثر وفتح أبواب إضافية للتجار الكبار للتلاعب بالأسعار واحتكار الأسواق
وأوقفت الشركة عرض المعلّبات في السوق قبل أشهر، بعد أن ارتفعت أسعارها بشكل كبير، ولم تعد ضمن قدرة المستهلكين كونها جميعها مستوردةً من الخارج وفق شومان، الذي يؤكد أنه في المرحلة المقبلة لن يتوقف الناس عن شراء المواد الغذائية الأساسية التي تضمن استمراريتهم وقوت يومهم، لكن قدرتهم الشرائية ستتقلص بالطبع أكثر فأكثر. في الأمس استغنت شريحة كبيرة من الناس عن اللحم والدجاج والمعلبات على موائدها، وغداً ربما تستغني عن المزيد من الأطعمة لغلاء أسعارها.
في هذا السياق، يرى رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، أن الحديث عن أن 80% من المواد الغذائية لن ترتفع أسعارها، وأن رفع الدولار الجمركي لن يطال قطاع الغذاء، هو "محض كذب، فرفع الدولار الجمركي صفقة لإفقار الفقير أكثر وفتح أبواب إضافية للتجار الكبار للتلاعب بالأسعار واحتكار الأسواق، ولجأت الحكومة إلى هذا الإجراء بحجة أنه حلّ ومصدر إضافي لخزينة الدولة المتداعية، لكنه ليس سوى زيادة في مفاقمة الأزمة والمتضرر الأكبر هو الشعب".
يصف برو، سياسة الحكومة في حل المشكلات بقرارات من قبيل رفع الدولار الجمركي، بـ"اعتماد مبدأ الحل في اللا حل. وفي ظل انعدام الاستقرار الأمني والاقتصادي في البلد اليوم، سيلجأ التجار إلى الاستفادة ومراكمة الثروات من خلال رفع أسعار المواد والسلع التي باتت أساساً الأكثر غلاءً في العالم بحسب البنك الدولي".
الملابس لمن استطاع إليها سبيلاً
إذاً، صار الهواء في لبنان ملوّثاً بحكم النفايات والانفجار الكبير والحرائق وسواها، والماء يسبب الكوليرا حيناً والسرطان حيناً آخر، والأطعمة طارت أسعارها وتغيّرت نوعيتها وصارت سفرة الفقير نباتيةً في الغالب، فماذا عن الملبس؟
قبل تفشّي الأزمة الاقتصادية الحالية، كان أول الشهر فرصةً لأبناء الطبقة الوسطى للذهاب إلى المولات التجارية وتمنية النفس بقطعة ملابس من أحد محال الماركات العالمية. لفظت هذه المحال هؤلاء فصار شراء الملابس بالنسبة إليهم ترفاً لا يملكون ثمنه واندثرت الطبقة الوسطى تدريجياً، التي هي في الأساس محدودة أو كانت لا تنطبق عليها صفة الطبقة الوسطى بتعريفها الواضح.
لم تتسلم وزارة الاقتصاد لوائح الأسعار الجديدة من الوزارات المختصة: الزراعة، والصناعة والمالية، ولم يتم تعميم هذه الجداول
يقول حمزة فياض، وهو موظف مبيعات في محل البراند العالمي الشهير "تومي هيلفيغر"، إن سعر "التي-شيرت يبلغ 2،239000 ليرة لبنانية، بينما سعر الجينز 4،448000 ليرة، وفي حال تم تثبيت سعر صرف الدولار ترافقاً مع الدولار الجمركي 15،000 ليرة، ستنخفض هذه الأسعار، لكن في حال استمر التخبط في سعر الدولار سترتفع الأسعار حتماً وبطريقة خيالية. اليوم وفق دولار جمركي قيمته 1،500 ليرة، يبلغ سعر الكنزة هذا المبلغ، فكيف إذا صار الدولار الجمركي أعلى والبضاعة كلها من الخارج؟".
يحكي فياض عن "تراجع مستوى الشراء لدى الناس عبر السنوات، حتى صارت المحال في المولات تجلب من كل قطعة مقاساً واحداً فقط، إن تم بيعه تكون العملية تمّت، وإن لم يُبَع فالخسارة تبقى ضمن المعقول"، ويقول: "إذا ارتفع الجمرك ومعه الأسعار حكماً، حتى القطعة الواحدة قد لا تباع".
يُذكر أن قطاع الملابس على اختلاف أسعارها وتوجهها، بطبيعة الحال يشغّل مئات الشباب والشابات اللبنانيين واللبنانيات الذين يعملون لتحصيل تكاليف دراستهم عادةً، أو سنوات عملهم الأولى إلى أن يجدوا وظائف بأجور أفضل.
"الأونلاين" أيضاً سيتأثر
وعلى صعيد "البيع أونلاين" الذي انتشر بقوة في لبنان منذ 2020، في ظل جائحة كورونا، بحيث ازدادت الصفحات التي تبيع الملابس والأحذية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد ارتفاع أسعار الوطني نظراً إلى ارتفاع كلفة إنتاجه، سيكون التأثر مباشراً وكبيراً بحيث عمدت بعض الصفحات التي تستورد البضائع من موقع She-in العالمي إلى الإعلان مؤخراً عن أنها سترفع أسعارها نظراً إلى ارتفاع الجمرك عند استلامه.
سابقاً مثلاً، كانت بعض الصفحات لا تأخذ أي كلفة إضافية على الشحن من الموقع أو من مواقع أخرى مثل modanisa التركي وغيره، وبعضها الآخر يضيف دولاراً واحداً على الكيلوغرام الواحد من الملابس أو الأغراض، بينما ستجد كل هذه الصفحات نفسها مجبرةً على رفع أسعارها لتغطية التكاليف الجمركية والمحافظة على أرباحها، فيما سيكون المستهدف الأول والأخير هو المشتري.
تعويم الدولار وزيادة الأعباء
يعتقد الخبير الاقتصادي البروفسور بيار الخوري، أن "الدولة تعوّم فكرة أن رفع الدولار الجمركي هو الحل لبعض الأزمات، فيما الواقع أنه قد يكون حلاً لمشكلة لديها في الخزينة والميزانية ولخدمة أجهزتها وليس لخدمة اقتصاد البلد وناسه على الإطلاق، فأي ارتفاع في الرسوم الجمركية سيؤثر سلباً على قاعدة الإنتاج اللبنانية بعكس الاعتقاد السائد بأن ذلك سيساعد الصناعة الوطنية، إذ إن معظم الصناعات في لبنان تحويلية وتحتاج إلى المواد الأساسية المستوردة من الخارج لإتمامها وأبسط مثال قطاع الجلد مثلاً".
صارت محال الألبسة في المولات تجلب من كل قطعة مقاساً واحداً فقط، إن تم بيعه تكون العملية تمّت، وإن لم يُبَع فالخسارة تبقى ضمن المعقول، فإذا ارتفع الجمرك ومعه الأسعار حكماً، حتى القطعة الواحدة قد لا تباع
مشكلة إضافية يلفت إليها الخوري، وهي أن "الوكلاء والمستوردين معوّمون بالبضائع قبل ارتفاع الدولار الجمركي، وسيفرجون عنها بأسعار جديدة متذرعين بأنها تأثرت برفع الجمرك"، كما يشير الخوري إلى أن رفع الدولار الجمركي يشكّل أزمةً، لكن الأزمة الأكثر ضراوةً ستكون في زيادة الضرائب على السلع إذ تطال العائلة اللبنانية مباشرةً في حياتها اليومية، فإعادة تسعير الدولار الرسمي ترفع القيمة المضافة على السلع بناءً على 15،000 ليرة بدلاً من 1،500 ليرة. "البلد لا يحتمل. كان من الحريّ بهم وضع خطة اقتصادية يترافق فيها النمو الاقتصادي مع رفع الضرائب، بينما ما فعلوه هو فقط زيادة أعباء إضافية على كاهل المواطن بدلاً من تخفيضها".
التكتّم والانتظار
فيما بدا أن قطاع السيارات سيكون الأكثر تأثراً بفارق الأسعار، التزمت بعض الشركات الوكيلة لماركات السيارات العالمية الصمت تاركةً القرار بين يدي جمعية مستوردي السيارات في لبنان، ظهر قطاع المفروشات والأدوات المنزلية الأكثر تخبطاً وتحفظاً في هذا المجال. رصيف22، حاول التواصل مع العديد من محال المفروشات المعروفة والأدوات المنزلية المعروفة على امتداد لبنان وكانت المفاجأة بالحيرة والتخبّط الملازمين لهم جميعاً، إذ جاءت الإجابات على الشكل التالي: "لم تتضح بعد الإجراءات التي سنعتمدها. لا نعرف. القرار لم يُطبّق بعد"، مع تحفّظٍ شديد عن الحديث عن الأسعار وكيف ستتغير، وطريقة الإنتاج والمواد المستخدمة صناعياً.
تمعن الدولة اللبنانية منذ سنوات العجز العجاف، في مراكمة مشكلات حياة مواطنيها، بدلاً من اعتماد الحلول المجدية اقتصادياً ومعيشياً وآخر قراراتها كان رفع الدولار الجمركي إلى 15،000 ليرة لبنانية، في حين أن المداخيل والأجور لا تزال على قيمة الـ1،500 وحتى لو تم رفعها في القطاع العام وفق إقرار الموازنة، يبقى القطاع الخاص رهينة أزماته ومزاجية حكّامه ويبقى جنون أسعار المحروقات والمأكولات والاتصالات وكل ما يستخدمه الإنسان في يومه مستعراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.