يبدو أن الطبيب الفرنسي أنطوان بارثلمي كلوت، المعروف اختصاراً باسم "كلوت بك" مسه سحر الشرق، فقرر أن يترك بصمته كمستشرق وعين وافدة على المجتمع المصري، في مذكراته التي تتضمنت العديد من المشاهد والظواهر والأحداث والحكايات والأوصاف الدقيقة - التي لا تخلو من طرافة - للحياة في مصر خلال العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر.
في كتابه "لمحة عامة إلى مصر" الذي صدر بالعربية في عدة طبعات عن دار الكتب والوثائق القومية من ترجمة محمد مسعود، لا يحكي عن نفسه، ونادراً يستخدم ضمير المتكلم.
جاء كلوت بك إلى مصر بناء على عرض من صديق فرنسي يعمل بالتجارة بين مصر وفرنسا، طلب منه أن يأتي لشغل وظيفة "جراح باشي".
لم يدر بخلد الطبيب الفرنسي أن تدفع به الظروف ليكون مؤسس مدرسة الطب الحديث في مصر بعد أن لمع صيته كمعالج، ليصبح الطبيب الشخصي للحاكم "محمد علي" وأسرته. وقد سلّم إليه الوالي باشا المشرط الذهبي لتشريح المجتمع المصري من أجل صحة أفضل للجيش الذي حلم محمد علي أن يحقق من خلاله طموحاته.
يستطرد كلوت بك في وصف المصريات بأزيائهن وعاداتهن وطريقتهن في الكلام: "أعضاؤهن الصغيرة مستديرة منتظمة. أعينهن واسعة سوداء سواداً فاحماً. ينقدح منها شرر الحياة. تحيط بها أهداب طويلةـ تزيد وجوههن حسناً، وتبث فيها من الحلاوة ما يستهوي الأفئدة"
في وصف "الباشا" وعصره
ينطلق كلوت بك الذي تولى منصب الطبيب الخاص للوالي محمد علي باشا، حتى وفاة الأخير في 1848، من التاريخ القديم وغرائب الأمور لينقل لنا صورة شبه أسطورية عن مصر القديمة تتفق مع الشائع عنها حتى ذلك الوقت (بدايات ومنتصف القرن الـ19). وهو يعتمد على كتابات قديمة، معظمها يونانية، إذ لم تكن منجزات فك رموز اللغة المصرية القديمة قد ترسخت واتسعت بعد.
يتتبع كلوت بك في كتابه العصور المختلفة التي مرت على مصر، مصنفة حسب جنسية قوى الاحتلال التي سيطرت على كل حقبة، حتى يصل إلى عصر محمد علي الذي يعيش فيه، ويعدد ميزاته وحسناته ومدى إفادته من الاحتكاك بالحضارة الغربية.
يصف كلوت بك محمد علي بأنه "رَبِع القامة، لا يتجاوز ارتفاع قامته خمس أقدام وبوصتين، بدين الجسم، دموي المزاج، عصبيه إلى الدرجة القصوى، مكشوف الجبهة بارزها وفي حاجبيه نتوء ظاهر. أما عيناه فكستنائيتا اللون في صفاء ووضوح وغائرتان في الحاجبين. متوسط حجم الأنف. صغير الفم. ملتوي الشاربين في طرفيهما أبيض شعر اللحية في كثافة... له عينان نفاذتان شيمتهما البحث والتنقيب، وفي منظره العام ما يدل على دقة الفكر ورقة الشعور وشرف الميول".
الوصف الذي اتفقت معه كثير من رسوم الفنانين المستشرقين الذين قدموا إلى بلاط الباشا، لا يزال هو المسيطر على صورة محمد على إلى الآن.
يتتبع الكاتب حركة التاريخ بوتيرة سريعة. يتوقف الزمن فجأة حين يصل للعصر الذي عاش فيه. يرصد كيفية تولي محمد علي الحكم، والبطولات والحملات التي قام بها إبراهيم باشا لردع الوهابيين في الحجاز، والزحف على الشام والاقتراب من الوصول إلى الأستانة. انتصارات عظيمة أرعبت القوى الأوربية ومكنت مصر من الاستقلال النسبي عن الدولة العثمانية .
ينطلق كلوت بك من التاريخ القديم وغرائب الأمور لينقل لنا صورة شبه أسطورية عن مصر القديمة تتفق مع الشائع عنها حتى ذلك الوقت (بدايات ومنتصف القرن الـ19). وهو يعتمد على كتابات قديمة، معظمها يونانية، إذ لم تكن منجزات فك رموز اللغة المصرية القديمة قد ترسخت واتسعت بعد
يهتم الكاتب بالعادات الاجتماعية والسلوكيات الحياتية وقراءة تفاصيل المجتمع من نواحٍ إنسانية وفقاً لثقافته ونظرته الخاصة، من ثم كانت القوانين أول ما جذب انتباهه.
مهتماً برصد عقوبة "سب الدين" وهي القتل، وهي أيضاً عقوبة قاطع الطريق وعقوبة الردة عن الإسلام إذا لم يحلف المرتد ثلاث مرات أنه عاد إلى حظيرة دينه.
لا مفر من الاستشراق
الخلفية التاريخية التي حرص عليها كلوت بك في تمهيد كتابه يبدو أنها متأثرة بالآثار والكتابات التي تركتها الحملة الفرنسية والمجمع العلمي المصري وكتّاب زاروا مصر. من ثم كانت رؤيته عابرة ومعتمدة على مصادر استشراقية، محاولاً أن يقرأ من خلالها أدق تفاصيل البلد وعادات أهلها للقارئ الأوروبي.
مثلاً، في معرض وصفه لدخول العرب مصر ينسب إليهم حريق مكتبة الإسكندرية، فيذكر أنهم أحرقوا مئات الآلاف من المؤلفات التي كانت موجودة في مكتبتها الزاخرة. ويذيل المترجم هذه الصفحة بتصحيح المعلومة. وهي أن مكتبة الإسكندرية أحرقت للمرة الثانية عام 389 بأيدي المسيحيين المتشددين، أي قبل نحو 400 عام من مقدم العرب.
عن النساء
من اللقطات الذكية التي أوردها كلوت بك وركز عليها انتشار العبيد والجواري والخصيان، وتعدد الزوجات المسموح به بين المسلمين في مصر وفقاً للشريعة. يؤكد أن هذه الظاهرة ليست منتشرة إلا في أوساط "اليُسَّار"، أي الموسرين فقط . ولكن من جهة أخرى يستطرد في وصف المصريات بأزيائهن وعاداتهن وطريقتهن في الكلام: "أعضاؤهن الصغيرة مستديرة منتظمة. أعينهن واسعة سوداء سواداً فاحماً. ينقدح منها شرر الحياة. تحيط بها أهداب طويلةـ تزيد وجوههن حسناً، وتبث فيها من الحلاوة ما يستهوي الأفئدة. وأثداؤهن جيدة التكون حسنة الوضع، وافية الصلابة، تحلي صدوراً عريضة، لا قبل لها بالحيل الضارة التي يلجأ إليها السيدات الأوربيات لتحسينها".
الجواري والمحظيات والعاهرات ذكرهن كلوت بك باعتبارهن ظاهرة شاذة، وغالباً ما تلجأ النساء للعمل في الدعارة بعد الطلاق لكسب العيش ليس أكثر. ورغم ذلك أثنى على الجهود التي قام بها محمد علي لإلغاء الدعارة المرخصة في ذلك الوقت، والتي كان يتم تحصيل الضرائب السنوية منها، لكنه أكد أنه رغم إلغائها، ما زالت موجودة سراً.
من المفارقات الغريبة أن شارع "وش البركة" الواقع في وسط القاهرة، ويربط حالياً بين ميدانين كبيرين هما رمسيس والعتبة، وكان مشهوراً ببيوت الدعارة المرخصة حتى أربعينيات القرن العشرين، بات يحمل الآن اسم كلوت بك نفسه.
يورد الطبيب الذي أنشأ مدرسة التمريض في مصر أن المصريات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كن يبلغن الحلم في العاشرة أو الحادية عشرة. ويصبحن أمهات في الثانية عشرة وجدات في الرابعة والعشرين. ووالدات لجدات في السادسة والثلاثين. وجدات لجدات في الثامنة والأربعين.
تشريح الحشيش
يرصد المستشرق كلوت بك كل التفاصيل الصغيرة في المجتمع المصري من الأزياء لطريقة بناء المنازل ودق الوشوم والاحتفالات الدينية، وهي مظاهر لفتت جميعها نظر المستشرقين وإن كان أكثرهم كفاءة في رصدها وتوثيقها، هو إدوارد وليم لين، صاحب "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" والعديد من المؤلفات الأنثروبولوجية الأخرى.
بالطبع، احتل الحشيش الذي كان واسع الانتشار وقتها، بشكل شرعي، جانباً لا يستهان به في رصد كلوت بك، الذي يصف بالتفصيل طرق تناوله العديدة، بدءاً من عجن خامته الأولى "زهرة القنب" مع العسل والفلفل وجوزة الطيب وخلاصات الروائح العطرية، ثم تناوله كأقراص تؤكل، مروراً بتحويله إلى مشروب سائل، وانتهاء بتدخينه على الجوزة. ويقول إن هذا المخدر يحدث لدى من يستعمله غيبوبة غريبة لا تلبث أن تتحول إلى أقوال وأفعال شاذة.
يصف كلوت بك هنا بالتفصيل "رقصة النحلة" التي مُنعت مع توسع سيطرة الدولة على "الآداب العامة" وتنظيم قلم خاص في البوليس لذلك. فالراقصة خلال بحثها عن تلك النحلة الافتراضية، تؤدي حركات راقصة قصدها الإغراء، وتتجرد من ثيابها تدريجياً حتى لا يبقى عليها سوى غلالة شفيفة، تفتحها وتغلقها حسب الإيقاع
رقص شرقي أم مصري؟
ويتناول الكتاب الرقص الشرقي باعتباره من الظواهر اللافتة للانتباه، ويرى أن له غرضاً واحداً هو استثارة الغرائز الشهوانية.
ويعدد أنواع الرقص بين المصري الصرف الذي يفيض بحركات الدلال والجرأة، والرقص الخليط بين المصري واليوناني الذي يتخلله التنقل بالحركات، والنوع الثالث المعروف برقص النحلة: أن تقلد العالمة أو الراقصة حركات من تلسعه النحلة وتبحث عن النحلة في ملابسها قائلة "النحل أهوه... النحل أهوه".
يصف كلوت بك هنا بالتفصيل "رقصة النحلة" التي مُنعت مع توسع سيطرة الدولة على "الآداب العامة" وتنظيم قلم خاص في البوليس لذلك. فالراقصة خلال بحثها عن تلك النحلة الافتراضية، تؤدي حركات راقصة قصدها الإغراء، وتتجرد من ثيابها تدريجياً حتى لا يبقى عليها سوى غلالة شفيفة، تفتحها وتغلقها حسب الإيقاع. ويعتبر كلوت بك هذا المشهد محركاً لكوامن الشهوات حتى لدى ذوي العواطف الجامدة.
تظهر هنا مقابلة لافتة بين المجتمع المصري "الشرقي" المتحرر نسبياً خاصة في فنونه، والطبيب الأوروبي المحافظ الذي يرى في مظاهر من الحياة الاجتماعية في مصر خلاعة وفسوقاً غير مقبولين
تظهر هنا مقابلة لافتة بين المجتمع المصري "الشرقي" المتحرر نسبياً خاصة في فنونه، والطبيب الأوروبي المحافظ الذي يرى في مظاهر من الحياة الاجتماعية في مصر خلاعة وفسوقاً غير مقبولين، إذ يركز كلوت بك على رقص الرجال، مشيراً إلى وجود طائفة من الرجال في مصر تحترف الرقص وتعرف باسم "الخولات" وهو لفظ باق في القاموس الشعبي إلى الآن وإن كان قد تحول إلى لفظة بذيئة يقصد بها إهانة الرجال أو الإشارة إلى كونهم مثليين جنسياً.
يشير كلوت بك إلى أن المنتمين إلى تلك الطائفة ومحترفي هذا النوع من الرقص يرتدون عادة زي النساء، ويؤكد أن من يرى رقص هذه الطائفة يشعر بالتقزز والاستنكار، ويناشد الحكومة المصرية أن تعجل باقتلاع جذور هذا الخزي من أرض مصر.
صنَّاع وسحرة
يتناول كلوت بك الطوائف المختلفة من حرفيين وصناع وسحرة وحواة، ويؤكد شيوع الاعتقاد الكبير في الجن وقراءة المستقبل، والإيمان بخزعبلات مثل الحسد والعين وما إلى ذلك حتى بين أوساط النخبة وليس العامة. ويورد حادثة لسيدة ذاع صيتها بأنها تسخر الجن وتطلب منه تنفيذ أوامرها، وصل صيتها إلى محمد علي فاستدعاها وطلب منها استحضار الجن، ولما فشلت رماها في النيل.
كلوت بك الذي أسس أول مدرسة للطب في مصر في أبي زعبل ثم في قصر العيني، اصطحب إلى فرنسا 12 من نجباء الطلبة المصريين ليتعلموا الطب، كما طالب بتدريس الطب بلغة البلاد الأصلية إلى جانب اللغة الفرنسية، وخصص في كتابه فصلاً كاملاً عن الأمراض الشائعة التي تصيب المصريين في ذلك الوقت.
وصدر أخيراً كتابه "لمحة عامة إلى مصر" في طبعة جديدة عن هيئة قصور الثقافة المصرية. هي نفسها التي ترجمها محمد مسعود وقدّم لها الدكتور أحمد زكريا الشلق. وكان كلوت بك قد نشره في فرنسا بعدما تحرر من الرقابة. وأصدر كذلك مذكراته التي تحتفظ المكتبة الوطنية الإسرائيلية بنسختها العربية، على الرغم من صدورها في مصر من جمع وتحقيق المترجم الراحل جاك تاجر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع