تعاني مصر، وحتى سوريا، منذ سنوات عديدة من قانون الإيجار القديم الذي يقف إلى جانب المستأجر بشكل جائر، ولكن قلة قليلة من الأعمال الدرامية حاولت التطرق لذلك الموضوع، ويأتي المسلسل المصري "إيجار قديم" الذي انتهى عرض حلقاته الثلاثين منذ أيام، ليشكل نقطة تحول، ليس فقط على صعيد طرح الموضوع بحد ذاته، وإنما أيضاً على صعيد العودة إلى زمن كلاسيكيات الأعمال المصرية الاجتماعية وليحقق نجاحاً كبيراً، حيث تصدّر العمل في الأيام الأخيرة من عرضه قائمة الأعلى مشاهدة على منصة "watch it"، وذلك بالتوازي مع عرضه على شاشة قناة "on" المصرية.
فكيف استطاع هذا العمل التقليدي أن يحصد كل تلك الجماهيرية، رغم أنه عمل اجتماعي بسيط، لا يحمل أي مشاهد حميمية أو عري أو حتى مشاهد عنيفة، ولا يخوض في عالم الجريمة والمخدرات، والأهم من كل ذلك أنه عمل درامي أصيل، بعيد كل البعد عن الأعمال المقتبسة والمعاد توليفها للعربية كما بتنا نشاهد مؤخراً؟ وهل فعلاً الجمهور العربي وخاصة المصري مازال شغوفاً بتلك الأعمال وليس بغيرها، كما تصدر لنا بعض المحطات والمنصات؟ الإجابة على هذه التساؤلات باتت حقيقة قاب قوسين لدى صّناع الدراما والجمهور نفسه على حد سواء.
أحداث المسلسل
تدور أحداث مسلسل "إيجار قديم" بشكل رئيسي، وكما يبدو من عنوانه، حول موضوع قديم/جديد، يتعلق بقانون الإيجار القديم في مصر، وهو من بطولة كل من شريف منير، فيدرا، محمد الشرنوبى، صلاح عبد الله، ميمى جمال، حنان سليمان، هشام إسماعيل، حازم سمير، إلهام وجدي، بسمة داود، رحمه حسن ، أحمد أبو زيد وأسامة عبد الله، ومن تأليف عمرو الدالي وإخراج طارق رفعت، ومن إنتاج كريم أبو ذكرى.
تعاني مصر منذ سنوات عديدة من قانون الإيجار القديم الذي يقف إلى جانب المستأجر بشكل جائر، ولكن قلة قليلة من الأعمال الدرامية حاولت التطرق لذلك الموضوع
صحيح أن المسلسل يتخذ من قانون الإيجار القديم مدخلاً وحجّة لنسج قصته أو قصصه إن صح التعبير، لكنه في حقيقة الأمر لا يقدم وصفة أو حتى حلولاً لتلك المشكلة الأزلية، كما كان يتصور بعض متابعي المسلسل الباحثين بدورهم عن حل لمشاكلهم المشابهة، الأمر الذي أثار حفيظة بعض ملاكي العقارات في مصر وأشعل وسائل التواصل الاجتماعي، علماً أنه ليس على عاتق الدراما تقديم الحلول بقدر ما على عاتقها تقديم وجبه درامية، تتطرّق لمعضلات اجتماعية قد تفتح أفقاً جديداً لدى أصحاب القرار لحلها.
كما أن المسلسل بحد ذاته لم يأت بالنهاية المأمولة أو المرجوة منه، بل ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لتخمينات المشاهد، لكنه على الأقل قدم، في سياق درامي خفيف وممتع، كل جوانب المشكلة، متطرّقاً خلال ذلك للمشاكل الاجتماعية التي يعيشها سكان العمارة من الجيران (وكلمه الجيران لا تعني فقط الجوار في هذا العمل بل أيضاً العِشرة والجيرة والتقارب الإنساني) فيتعرض للمشاكل المشتركة فيما بينهم، والمتعلقة بأمور العمارة من ناحية والجيرة من ناحية أخرى، أو تلك المشاكل الاجتماعية العائلية التي تقتصر تماماً على كل عائلة بعينها.
فهناك الموظف المفلس العاطل عن العمل والذي انتقل برفقة عائلته للعيش عند والدته، وهناك المحامي الذي حوّل جزءاً من بيته لمكتب، وهو أمر يعاقب عليه القانون بسبب تغيير النشاط، والدكتورة المطلقة التي حفظ لها القانون نفسه البيت كحاضنه للطفل، والفنانة الكبيرة التي تم عزلها عن الفن، وغيرها من القصص، كما أن المسلسل بدائرته الكبيرة، ومنذ شارة البداية التي كتبها مصطفى البرنس ولحنها إيهاب عبد الواحد، والمغناة بصوت عذب لكل من هشام عباس ومحمد الشرنوبي، تطرق لصراع الأجيال وتطور المفاهيم المغلوطة حول التقاليد والأعراف واحترام الكبير وغيرها.
بدأ عمرو الدالي مشواره الفني في الكتابة منذ عمر مبكر جداً، وكان له تجربة هامة بداية مع ورشة الكاتب تامر حبيب في العام 2006 حين آمن بموهبته ودعاه للكتابة ضمن ورشة مسلسل "خاص جداً" الذي عُرض في العام 2008، وكان من بطولة يسرا.
ولكن أول عمل ثبّت به قدمه ككاتب سيناريو، كان مسلسل "دوران شوبرا" الذي أخرجه خالد الحجر وتبنته إنتاجياً أفلام مصر العالمية، وهو عمل اجتماعي طويل يدور في حارة مصرية أيضاً، وسلط الضوء من خلاله على قصص اجتماعية، ثم قدم لاحقاً مسلسل "فرح ليلى" الذي لعبت بطولته ليلى علوي وغيره من الأعمال، ثم دخل لاحقاً في تجارب الكتابة المشتركة مع زميله أحمد وائل، من خلال مسلسل "الرحلة" التشويقي، الذي كتبت فكرته السورية نور الشيشكلي، ولعب بطولته باسل خياط وحنان مطاوع ورهام عبد الغفور.
وكان من أهم مسلسلات التشويق العربية حين عرض وقدم باسل خياط بدور جديد وبطريقة مختلفة جداً عن أدواره السابقة، كما تشارك مع أحمد وائل في تجربة كتابة المسلسل الكوميدي "100 وش" الذي اخرجته كاملة أبو ذكرى، ولعب بطولته أسر ياسين ونيللي كريم إلى جانب العديد من الممثلين، وعرض في رمضان 2020 ونجح نجاحاً مبهراً.
صحيح أن المسلسل يتخذ من قانون الإيجار القديم مدخلاً وحجّة لنسج قصته أو قصصه إن صح التعبير، لكنه في حقيقة الأمر لا يقدم وصفة أو حتى حلولاً لتلك المشكلة الأزلية
أردت المرور على تلك التجارب للكاتب، للتأكيد على أن نجاحه في كتابة مسلسل "إيجار قديم" ليس وليد هذا العمل، بل وليد تجارب سابقة عميقة وقوية، وهو اليوم يعود للكتابة بمفرده ولقيادة مركبه بنفسه، وهو حين يخوض هذه التجربة الاجتماعية للمرة الثانية يحاول الدخول أكثر في عمق الشخصية المصرية لسبر أعماقها، بل ويحاول إضفاء الحالة الإنسانية والجمالية والاجتماعية عليها، وهو حين يفعل ذلك لا يختلق صورة ذهنية جديدة لهذا الشعب الجميل، بل يعيد الأمور لنِصابها بعد سنوات من الأعمال الدرامية الموجهة للنيل من البنية الاجتماعية وتشويهها بتسليط الضوء على الجزء الفاسد والمظلم منها.
تدور أحداث المسلسل بشكل مختصر، حول رمزي (يلعب دوره شريف منير) الذي يضطر لمغادرة منزله الذي يعيش فيه، والذي غادره مجبراً بعد قرار الهدم، ليعود إلى عمارته التي ورثها عن والده، لكنه لا يجد له مكاناً فيها، فيبدأ في رحلة البحث عن شقة تصلح لخروج ساكنيها بشكل قانوني ليعيش فيها، لكن القانون المدني الذي ينص: "على أن عقد الإيجار لا ينتهي بموت المؤجر ولا بموت المستأجر"، سيقف حائلاً بينه وبين مُلكه، ليبقى حبيس السطح العاري، وليتعرض بدوره لأزمة صحية قاتلة.
تتطور الأحداث بشكل درامي إنساني، فيحتضن عم حسين (يلعب دوره الفنان صلاح عبد الله) أو "سحس" كما يحب أن يناديه سكان العمارة، لتبدأ رحلة درامية جديدة معه، تتصاعد بموت الأخير، فيشتبك مع الورثة وابنه طارق (يلعب دوره محمد الشرنوبي).
السيناريو والحوار
لا أريد التوقف مطولاً عند السيناريو والحوار الرشيق والكوميدي والمحبوك ليلائم غرابة الموقف وثقله أحياناً، والذي أثبت للمرة الألف أن عمرو الدالي الذي لم يتجاوز اليوم الـ 41 عاماً ، هو كاتب درامي محترف سابق لأوانه، لكن أردت الوقوف أيضاً عند المخرج طارق رفعت الذي سبق وأن قدم عدة أعمال درامية هامة، نذكر منها مسلسل "ضد مجهول" الذي لعبت بطولته غادة عبد الرازق، والذي استطاع في هذه التجربة أيضاً جذب الجمهور وامتلاكه على مدار 30 حلقة خارج موسم رمضان الدرامي، وهي نقطة تحسب له وللمنتج.
يحاول الدخول أكثر في عمق الشخصية المصرية لسبر أعماقها، بل ويحاول إضفاء الحالة الإنسانية والجمالية والاجتماعية عليها، وهو حين يفعل ذلك لا يختلق صورة ذهنية جديدة لهذا الشعب الجميل، بل يعيد الأمور لنِصابها
أضف إلى ذلك أن مسلسل "إيجار قديم" بكامل مكوناته أعاد لشريف منير حضوره كممثل خفيف الظل، قريب من القلب، قادر على امتلاك تعاطف الجمهور، كما أنه وضع محمد الشرنوبي، الممثل الشاب، في مكانه الصحيح وأبرز على الأقل قدرته على التلوين في الأداء، لدرجة ممكن أن يكرهه الجمهور في حلقة ويحبه في حلقة أخرى بعينها، بالإضافة إلى أنه استطاع استثمار وجود الفنانة الكبيرة ميمي جمال في دور يناسبها بعد توقف دام لفترة، وأعطى مساحة وتفاصيل كبيرة لشخصية المحامي التي يلعبها الفنان هشام إسماعيل، كما أنه لم يستغل اسم الفنان صلاح عبد الله ولا حتى نجوميته، حين جعله يغادر العمل مبكراً جداً في النصف الأول منه، كحل درامي يتناسب مع القصة المطروحة، بالرغم من كل الاعتراضات التي صاحبت ذلك من قبل الجمهور.
أضف إلى ذلك جرأة المخرج ومغامرته في التعاون مع بعض الوجوه الجديدة، أمثال إلهام وجدي في أولى بطولاتها الدرامية التلفزيونية بعد مشاركتها في الفيلم الروائي القصير "توك توك"، ولن يفوتني بهذه العجالة التنويه إلى الموسيقا التصويرية التي رافقت كل حلقات العمل، والتي قام بها محمد أبو ذكرى، وبذلك يكون رهان نجاح عرض مسلسل "ايجار قديم" خارج موسم رمضان قد حقق هدفه وأكثر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون