عُرض مؤخراً المسلسل العربي "وش وضهر" ولاقى رواجاً كبيراً، فعلى مدار الحلقات انجذب الجمهور إلى هذه القصة شديدة البساطة، والتي بدت كحكاية خيالية تدور حول أشخاص قرروا تغيير مصيرهم وبدء صفحة جديدة في حياتهم.
بطلات المسلسل هنّ ثلاث سيدات، كل واحدة منهنّ سلكت طريقاً مضطرباً في الحياة، أجبرتهنّ الظروف على الخروج عن المسارات المتوقعة لمعظم الفتيات المصريات من بيئتهنّ.
نساء من الواقع
تظهر أولى نساء مسلسل "وش وضهر" في شقة صغيرة مستأجرة يسكنها عدد من الفتيات المغتربات بمدينة طنطا، يفترشن الأرض على المراتب في مساحة محدودة تمحي الحدود الشخصية، يتصاعد الغضب بينهنّ بسهولة في ظل حياة منهكة ومنتهكة بشكل يومي، ونتعرف على الصديقتين، ضحى وهبة، اللتين تعملان في وظائف متواضعة، الأولى تعيل عائلتها في إحدى القرى، بينما الثانية تحاول التملص من هذا الواقع معدوم الأمل بأي وسيلة.
يأتي هذا الأمل محمولاً على يدي عبده وردة، الشاب الذي يدير فرقة متواضعة لإحياء الأفراح في طنطا وما حولها من قرى، ويقدم للفتاتين فرصة العمل كراقصات في فرقته، ليس عليهما ارتداء بذلات الرقص العارية أو حتى اتقان الرقص باحترافية، فقط تقفان على المسرح بين باقي أفراد الفرقة تحاولان هزّ أعضائهنّ بأنوثة، وهما ترتديان مزيجاً عجيباً وغير متناسق من الملابس التي تكسو كل جزء من بدنهما، وفي نفس الوقت تظهرهما مغريتين بشكل كافٍ لجمهور الزفاف من الشباب "الهائج جنسياً" بفعل المشروبات الكحولية والمخدرات التي تقدم بأريحية في هذا النوع من الأفراح الشعبية.
المرأة الثالثة في "وش وضهر" هي والدة عبده وردة نفسه، السيدة المسنّة عنايات، التي عملت سابقاً كراقصة مثل ضحى وهبة، وتزوّجت رئيس الفرقة وأنجبت واستمرت في العمل حتى اعتزلت لكبر السن.
يمكن اعتبار المسلسل، بعيداً عن القصة الرئيسية، كتأريخ لراقصات الدرجة الثالثة في الأفراح الشعبية، هؤلاء النسوة اللواتي لا يرتقين لمستوى الراقصات الشهيرات في الأفراح ذات الخمس نجوم والملاهي الليلية، بل يحصلن فقط على بضعة جنيهات قد تسهل حياتهنّ لكن لا تغيّر من طبقتهنّ الاقتصادية، فهنّ يعملن في هذه المهنة حتى "ينقسم ظهرهنّ" بشكل حرفي، كعنايات التي تعاني من أوجاع دائمة في ساقيها وظهرها تعيقها عن الحركة الطبيعية.
ضحى وهبة وحتى عنايات هنّ نساء نقابلهنّ في حياتنا فلا نميزهنّ، لأنهن شبه الكثيرات، نساء لا يمتلكن لمواجهة الحياة سوى أنوثة منهكة، يبدو أنهنّ مرهقات بالمكياج الثقيل والملابس الضيقة، وفي الصباح يرتدين الحجاب والملابس المتسعة التي تجعلهنّ يذبن بين نساء المجتمع العاديات
ولكون مهنة الرقص كانت موصومة في بعض مجتماعتنا الشرقية، هؤلاء النساء يعشن حيوات مزدوجة، مثل إعلان هبة وضحى في الحارة التي تسكناها إنهما تعملان في التمريض بإحدى المستشفيات الشهيرة، حتى لا يؤذيهما رجال المنطقة الذين اعترضوا طريقهما في إحدى الليالي، فحملت كل منهما سرها الخاص بعيداً عن الأهل والأصدقاء، السر الذي قد يؤدي للقتل أو على الأقل إلى الفضيحة.
وعلى الرغم من خيالية قصة الحب الرئيسية في مسلسل "وش وضهر"، إلا إن شخصياته، خاصة النسائية منها، جاءت كجزء من الواقع أكثر من كونها درامية، فضحى وهبة وحتى عنايات هنّ نساء نقابلهنّ في حياتنا فلا نميزهنّ، لأنهن شبه الكثيرات، نساء لا يمتلكن لمواجهة الحياة سوى أنوثة منهكة، يبدو أنهنّ مرهقات بالمكياج الثقيل والملابس الضيقة، وفي الصباح يرتدين الحجاب والملابس المتسعة التي تجعلهنّ يذبن بين نساء المجتمع العاديات.
مصائر بلا عاقبة أخلاقية
كان ظهور الراقصات في السينما المصرية أمراً ملتبساً على الدوام، فبطلات بعض الأفلام في الخمسينيات والستينيات كنّ راقصات في الحياة الحقيقية، مثل سامية جمال وتحية كاريوكا، فلم يكن من الممكن وصمهنّ على الشاشة بالتأكيد، لنجد أفلام البطلة الخاصة بها راقصة وتعيش حياة زوجية سعيدة، مثل فيلم "آخر كدبة".
على الجانب الآخر، تعاملت بعض الأعمال مع الرقص الشرقي بشكل أكثر ارتباكاً، مثل فيلم "خلي بالك من زوزو" إنتاج 1972، إذ إن بطلته راقصة شرقية تعمل في فرقة والدتها لإحياء الأفراح، وتتمنى الأم جعلها تعمل في إحدى الملاهي الليلية لكسب المزيد من المال، لكن الفتاة ترفض وترغب في إكمال دراستها الجامعية، وفي ذات الوقت لا تتنصل من ماضي أمها وماضيها شخصياً في العمل كراقصة، وتغضب عندما يعايرها أهل حبيبها بذلك.
في "خلي بالك من زوزو"، نجد النظرة للراقصات متفاوتة، تصنع تراتبية ما تحدد من هو الأكثر "شرفاً"، الراقصة التي ترقص في الأفراح تختلف عن راقصة الملاهي الليلية.
ومنذ السبعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، تردّت النظرة للراقصة على الشاشة، حتى في أفلام ظهرت قوية الشخصية مثل "الراقصة والسياسي"، وافترض الكثيرون أن نساء "وش وضهر" سيُنظر إليهنّ درامياً بعين العاقبة الأخلاقية المعتادة، وعندما لم يحدث ذلك ثارت ثائرتهم، وتساءل البعض: كيف تحظى عنايات بعائلة محبة، وهي الراقصة السابقة، ويصبح لها ابن يعتني بها وزوج يحبها؟ وكيف تبدأ ضحى حياة جديدة مع زوج يعلم ماضيها لكن لا يهتم، يقارنها بنفسه فيجد أن عيوبه وآثامه أكبر؟ كيف يظن رجل من الأساس أن له عيوب وآثام تضعه في مقارنة مع زوجته فلا يعيرها بعملها السابق ويحبها ويتزوجها؟
يتقبل بعض الرجال ببساطة شخصية البطل "جلال/ جمال" الذي ترك زوجته وأخذ أموال لا تخصه وفتح عيادة طبية وهو ليس طبيباً، لكن العمل كراقصة أو الحمل بدون زواج، هي بنظرهم أخطاء تحتاج إلى قصاص عادل
لكن الأزمة الكبرى أتت مع شخصية هبة ومصيرها، فالأخيرة قامت بعلاقة جنسية خارج إطار الزواج، وحملت من حبيبها جنيناً، تنصّل منه في البداية، فاضطرت إلى القيام بإجهاض غير شرعي في إحدى العيادات الحقيرة، وعندما أصيبت بالنزيف ألقتها الطبيبة في شارع مظلم لتموت وحيدة.
لو انتهى الخط الدرامي لهبة عند هذه النقطة لرأى المتفرجون أن ذلك أكثر شيء طبيعي في العالم، فهي بنظر البعض "خاطئة" حصلت على "عقوبتها" الأخلاقية المتوقعة، لكن هبة قامت من هذه الوعكة بمساعدة ضحى وحبيبها عبده وردة، الذي اعتذر عن خطئه وتزوجها، وعاشت حياة هانئة مع زوجها ووالدته، فكسرت تابو حصول أنثى على حياة سعيدة بعد تخليها عن عذريتها بكامل إرادتها وبدون زواج.
يتقبل بعض الرجال ببساطة شخصية البطل "جلال/ جمال" الذي ترك زوجته وأخذ أموال لا تخصه وفتح عيادة طبية وهو ليس طبيباً، يرون فيه شخصاً طيباً يتمنون له نهاية سعيدة، لأن تلك الآثام ليست أخطاء تراجيدية يجب أن يعاقب عليها الرجل، لكن العمل كراقصة أو الحمل بدون زواج، هي بنظرهم أخطاء تحتاج إلى قصاص عادل، لم يقم به صنّاع مسلسل "وش وضهر" فاستحقوا غضب بعض المشاهدين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...