شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
نتصالح أنا وأمّي أمام مباريات كرة القدم

نتصالح أنا وأمّي أمام مباريات كرة القدم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 16 ديسمبر 202212:55 م

تلفاز أسود اللون، 15 بوصة، تقليدي مثل أجهزة التلفاز القديمة، وآثار ضوء شمس الصباح على بلاط شقتنا، تلك هي الذكرى البصرية المخزنة في عقلي عن كأس العالم 2002. منذ سن صغيرة وعيت على عائلتي تهتمّ للغاية بمشاهدة البطولات المجمعة وكأنه نشاط عائلي، يلتفّ الجميع حول التلفزيون، ويأتي عمي وخالي وأبناؤهم لمشاهدة المباريات في منزلنا. كان بيتنا بمثابة قلب الرياضة النابض لعائلتنا الكبيرة، سواء من جهة أبي أو من جهة أمي، وكيف يستقيم أن يكون قلب المنزل نابضاً دون أن يكون قلب هذا القلب هو أمي؟

هل تلك وسيلة لتجاوز الخلافات؟

إلى جانب أفلام الكارتون، تبرز أيام السبت والأحد من ذكريات طفولتي، وهي المواعيد التي تُقام خلالها مباريات الدوريات الكبرى، الإنجليزي والإيطالي والإسباني. أعود من المدرسة وأجد التلفزيون يبثّ إحدى المباريات في الدوريات الثلاثة. المعلّق يصدح بصوته في الصالة وأمي في المطبخ أو في أي مكان تؤدي الأعمال المنزلية، وعندما يحلّ الليل أيضاً تستمر إذاعة هذه المباريات، بعكس ما قد يعتاده الجميع في منزلنا: أمي تغيّر المحطة التلفزيونية التي تذيع المسلسلات لتشاهد مباراة فريق كرة القدم الذي تشجعه.

الأمر ليس بجديد: أنا وأمي لسنا على وفاق في معظم الأوقات، لا نرى الحياة من المنظور نفسه. ربما بفعل الكثير من الأسباب، فتنتمي كلتانا إلى جيلين يختلفان اختلافاً جذرياً، أنتمي إلى عصر التكنولوجيا بينما كانت هي تقطع عشرات الكيلومترات حتى تجري مكالمة هاتفية لأهلها في مصر، أثناء الفترة التي كنا نعيش خلالها في السعودية.

وتطول قائمة الفروقات ويكبر معها حجم المسافة بين عقلي وعقل أمي، وعلى الرغم من أن ما سأقوله قد يبدو جاحداً فظاً، ولكن السلطة التي تمنحها مجتمعاتنا لأولي الأمر تجعل من الصعب عليهم أن يقرّوا بأخطائهم وأن يسيروا نحو أبنائهم، فالنفوذ المطلق يسمّم العلاقة بين الآباء والأبناء.

تذيب كرة القدم كل شيء وتفعل ما لا يفعله المنطق والحوار، نتحوّل أنا وأمي لصديقتين حميمتين، أحدثها عبر الهاتف عن مباراة تشيلسي وأرسنال، ونتضاحك حتى إن كنا نتعارك منذ ثوان معدودة بسبب موضوع شائك

رغم كل ذلك، تذيب كرة القدم كل شيء وتفعل ما لا يفعله المنطق والحوار، نتحوّل أنا وأمي لصديقتين حميمتين، كما قد يعتقد الكثير من أصدقائي عندما يروني أحدثها عبر الهاتف عن مباراة ديربي لندن بين تشيلسي وأرسنال.

بعد كل مباراة مهمّة للنادي الذي أشجعه، تهاتفني ولا تتوانى عن إلقاء النكات والمزاح إذا ما خسر فريقي أو حتى إذا فاز، ونتضاحك حتى إن كنا نتعارك منذ ثوان معدودة بسبب موضوع شائك، مثلما حدث منذ أيام في مكالمة هاتفية، حينما كانت تشكو من كل شيء وتتذمّر من تصرّفاتي، ثم أنهت حديثها قائلة: "أما أروح أتفرج على الماتشات أحسن". وكان ذلك طرف الخيط الذي التقطته منها لأنهي المكالمة ونحن على وفاق، لأنني لا أشعر بالراحة وأنا أعيش حياتي على مسافة منها، وهي بعيدة تفكر بي ويأكل الحزن قلبها لما بدر مني.

أتصالح مع أمي وأتشاحن مع أبي

كانت تلك دوماً العادة: أيام الجامعة نتعارك أنا وأمي لأنني أعود من القاهرة في وقت متأخر من يوم الأربعاء، ولكننا نتصالح أمام مباريات دوري الأبطال. تجعلني كرة القدم أتصالح مع أمي وأتشاحن مع أبي، لأنه يرى الكرة نشاطاً ذكورياً في المقام الأول، لا يصحّ لفتاة لطيفة مثلي في العموم، وابنته على وجه الخصوص، أن تنتقص من أنوثتها وتتابعه.

أتذكر عندما كنت في الحادية عشرة، أتابع كأس العالم 2006 مع إخوتي الثلاثة، أردت أن أكتب النتائج وأحصي النقاط التي كسبتها المنتخبات، وأرسم الجداول، على الورق صنعت استديو تحليلياً صغيراً خاصاً بي، ما إن وقعت عينا أبي عليه حتى انفجر غاضباً: "مش عايز أشوفك بتتفرجي على كورة تاني، انتي بنت ومينفعش تعملي الكلام ده"، ومزّق الورق.

لا أتعامل مع الأمر على أنه صدمة ولكن بالنسبة لوعيي الصغير الذي لا يفرق بين إخوتي الذكور الثلاثة، وبين نفسي، لم تكن لحظة عادية، وكانت من ناحية ثانية ضربة أخرى لشيء أحبه، وتوقفت عن متابعة كرة القدم لمدة سنتين أو أكثر، وحتى عندما عدت لأتابع المباريات، بل عندما أصبحت لاعبة في فريقي المتواضع في المدرسة، جعلني هذا الأمر أعتاد متابعة المباريات بصمت وكأنني أسرق.

حتى الآن، أحياناً أرجع إلى هذه الوضعية وأفضل متابعة المباريات بمفردي في المنزل، لأن الأمر عادة ما يتحول إلى حفل للسخرية من متابعتي المخلصة للمباراة؛ لأن التهديد لم يعد مناسباً لسني ولا للموقف. أما الآن فيسألني أخوتي: أين يلعب هذا اللاعب، ومن يتصدّر الدوري الإنجليزي؟

على الورق صنعت استديو تحليلياً صغيراً خاصاً بي، ما إن وقعت عينا أبي عليه حتى انفجر غاضباً: "مش عايز أشوفك بتتفرجي على كورة تاني، انتي بنت ومينفعش تعملي الكلام ده"، ومزّق الورق.

كرة القدم في منزلنا تعني الالتفاف حول شيء واحد، حتى لو اختلفنا حول الفريق الذي نشجعه، وكثيراً ما طردتني أمي من أمام التلفزيون بسبب معايرتي لها بعد خسارة ريال مدريد، وعادةً ما يسخر أبي من متابعتنا المخلصة لمباريات الأهلي، ولكني أتذكر أيضاً أنني كنت أعود من المدرسة وأتابع مباريات روما في الدوري الإيطالي مع أخي، وصوت المعلقين والاستوديو التحليلي في خلفية أنشطتنا اليومية يجعل أجواء بيتنا حيوية، وعندما انتقلت للعيش بمفردي، كنت أحب أن أحاكي تلك التجربة: أفتح جهاز الكمبيوتر المحمول وأضغط تشغيل للمباراة، وبأعلى صوت أسمع صوت المعلقين، وأتظاهر بأنني أقوم بأعمال منزلية مثل أمي.

صوت زخم المباريات يجعلني أظن أنني لازلت صغيرة في منزلي في القرية الهادئة، بل وأنني أحاول حتى الآن أن أقلّد التفاف عائلتي حول المباريات الذي أفتقده كثيراً، عبر الاجتماع مع أصدقائي لمشاهدة مباريات كأس العالم، وللحديث المستمر عن كرة القدم.

لذا أثناء البطولات المجمّعة بكافة أشكالها، من أولمبياد وكأس عالم والمسابقات القارية أيضاً، لا أشعر بالاستغراب عندما تنتشر مظاهر التقارب بين المشجّعين من البلدان المختلفة، ومساندة العرب للمغرب بعد التأهل التاريخي، وأن يستضيف مشجّع قطري آخر أرجنتينياً حتى لا يعود إلى بلده بسبب نفاذ مدخراته، مثلما أصبحت أفضّل، في كثير من الأحيان، المحطة التي تذيع مباراة كرة القدم على القناة التي تبثّ المسلسلات الدرامية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard