في مباراة الأرجنتين الأخيرة ضد هولندا، تقدّم ميسي رفاقه لتنفيذ ركلة الترجيح الأولى، حاملاً على كتفيه ثقل حُبّ وأمنيات الملايين حول العالم بأن يختم مسيرته المذهلة بلقب مونديالي.
ما لم يتجرّأ على فعله قائدا البرازيل وكرواتيا في ركلات الترجيح الحاسمة في الدور الربع نهائي، فعله قائد الأرجنتين بدون تردّد.
ربما كان رحيل مارادونا، الأب الروحي لكرة القدم الأرجنتينية، هو الذي جعل ميسي يكبر فجأةً.
أراد ميسي أن يمتصّ كل الضغط عن زملائه. لابأس أن يُلام هو إن أضاع، لا ضير في أن يُشتم، المهم أن يتقدّم الباقون لتنفيذ كراتهم براحة وثقة أكبر.
الحُب مُتعِب، يُثقل كاهلك، فعندما تُحِبّ وتُحَبّ، يصير إحساسك بمسؤولياتك أكبر. مع الوقت، تصير مسؤولياتك هي الأولوية. مؤذية أم لا، هذا ليس مهماً، المهم هو الفريق.
لم يأبه ميسي للذاكرة الجماهيرية القصيرة التي قد تنسى على الفور انطلاقاته وتمريراته الساحرة، صولاته وجولاته المونديالية في هذه النسخة، وتتذكّر فقط تلك الكرة، التي إن أضاعها أمام مرمى الهولنديين، خسر فرصته التاريخية في أن يصير محبوب الأرجنتينيين الأول، أو يُنهي على الأقل تلك المنافسة المُتعبة مع شبح مارادونا. هناك في الأرجنتين، لا تتوقّف تلك الشّعوب عن صناعة الأساطير، لكن صناعة أسطورة أكبر تستلزم قتل طيف الأولى.
ميسي الجديد
نضج ميسي في هذا المونديال، صار القائد الذي يلقي بنفسه إلى النار لينقذ المجموعة، ويعطيها الثقة والراحة والهدوء. وربما لم تعد تعني له فكرة المقارنة مع مارادونا شيئاً، فعندما تنضج فعلاً، لا تقيم وزناً لفكرة إثبات نفسك للآخرين بقدر محاولتك بأن تكون راضياً عن نفسك. في تلك العتبة المتقدّمة من شخصيتك، التي تصنعها الخبرة وتصقلها السنوات، تضيق مساحة الأمور التي قد تستفزّك، وتصبح أكثر ثقة وهدوء.
نضج ميسي في هذا المونديال، صار القائد الذي يلقي بنفسه إلى النار لينقذ المجموعة، ويعطيها الثقة والراحة والهدوء. و ربما لم تعد تعني له فكرة المقارنة مع مارادونا شيئاً
نسخة مختلفة من ميسي نشاهدها في هذا المونديال: أكثر إلهاماً، أعلى روحاً، أقوى شخصية، وأكثر حسماً وفعالية. يدين ميسي بشخصيته الجديدة تلك لكل من سخروا من انتكاسات الأرجنتين وخيبات ميسي، لقد أعطوه القوة والمناعة والصلابة، فميسي الآن مختلف عن ذلك الفتى الهشّ قليل الخبرة الذي كان عليه قبل سنوات.
فالشّاب العشريني الذي كان ينجح مارادونا في استفزازه كلما تحدّث عن شخصية القائد التي تنقصه، تغيّر. فعلها مارادونا وانتقد مواطنه بالعلن بعد مونديال 2010. بقيت تصريحات مارادونا القاسية تلك جرحاً غائراً في قلب ميسي، فكانت القطيعة، وانتهى ذلك الغزل العلني بينهما، وكان مارادونا أبرز الغائبين عن حفل زفاف ميسي. لم تعد علاقة ميسي ومارادونا بعد ذلك إلى سابق عهدها، حتى رحيل مارادونا قبل عامين.
الآن، أراهن على أنّه لو قُدّر لمارادونا بأن يكون حاضراً في قطر، لابتلع تصريحاته تلك، أو اعتذر لميسي، على رؤوس الأشهاد. وأراهن بأنه كان ليتقدّم صفوف المشجّعين، كما فعل في مونديال 2014، ويسرق الأنظار بحضوره المحبّب في المدرجات وخفّة ظلّه. وأراهن أنّه كانت لتكون صورة ميسي ومارادونا متعانقين أثمن من الكأس المونديالي نفسه.
كأس أو بدونه، سنبقى ندين لميسي بأطنانٍ من المتعة الكروية، بذلك السّحر اللاتيني الذي لوّن مساءاتنا وسهراتنا.
ربما كان رحيل مارادونا، الأب الروحي لكرة القدم الأرجنتينية، هو الذي جعل ميسي يكبر فجأةً. بدأت مؤشرات ذلك تظهر عندما أعاد ميسي كأس الكوبا إلى خزائن الأرجنتين بعد ربع قرن. وعلى ملعب الماراكانا الشهير، قبل عامٍ من الآن، انتزع اللقب من قلب البرازيل، في بطولة أرجنتينية ملحمية.
اللاعبون ومُلهمهم
برفقة مجموعة من الشباب الذين كبروا وهم يشاهدونه، كقدوة لهم، استعاد ميسي ثقة الأرجنتينيين وحبّهم. فهذا الجيل الأرجنتيني الذي يرافق ميسي في مونديال قطر، قوامه 26 لاعباً، غالبيتهم الساحقة كانوا يتعلمون المشي عندما كان ميسي قد بدأ بالفعل مسيرته. تخيل وأنت في عامك الخامس بعد الثّلاثين، قائداً بكامل مهاراتك وذكائك وبهائك، ومن خلفك شبّان صغار، كانوا حتى الأمس أطفالاً يعلّقون صورك الملوّنة على جدران غرف نومهم. لقد منحهم ميسي الإلهام والثّقة، ومنحوه كل ما لديهم في المستطيل الأخضر.
تشكيلة الأرجنتين تلك ليست أفضل التشكيلات التي وصلت قطر، ولا أكثر التشكيلات اكتمالاً، ولا أحسنهم تحضيراً أو موهبة، بل يوجد في تاريخ الأرجنتين الكثير من التشكيلات التي تتفوّق على التشكيلة الحالية في كل شيء، ورغم ذلك خرجت من الأدوار الأولى، فكيف وصلت الأرجنتين بتشكيلتها المتوسطة والمنقوصة تلك إلى نصف نهائي المونديال؟!
إنّه تأثير ميسي، السّاحر الذي يقلب المعادلة في أي لحظة. هكذا أنقذ ميسي الأرجنتين غير مرّة. إنّه التأثير السحري الذي أعطى الأرجنتين الأفضلية في مونديال المكسيك 1986. لقد كان مونديال المكسيك مونديال مارادونا فعلاً. استطاع مارادونا أن يكون محطّ الأنظار في ذلك المونديال المتخم بالنجوم. كان اللاعب الأكثر خبثاً ومهارة، الأكثر صخباً والأكثر متعة. لم يكن ممكناً أن يمرّ ذلك الهدف إلى مرمى الإنجليز، لولا يد مارادونا التي أرسلته.
نسخة مختلفة من ميسي نشاهدها في هذا المونديال: أكثر إلهاماً، أعلى روحاً، أقوى شخصية، وأكثر حسماً وفعالية. فعندما تنضج فعلاً، لا تقيم وزناً لفكرة إثبات نفسك للآخرين بقدر محاولتك بأن تكون راضياً عن نفسك
حتى حكم السّاحة التّونسي كان واقعاً تحت تأثير مارادونا، فصار الهدف الذي أودعه مارادونا بيده في مرمى الإنجليز، هو الهدف الأشهر في تاريخ كرة القدم. لقد أفسد مارادونا، بهدف من يده، احتفالات الإنكليز بالذكرى الرابعة لاستيلائهم على جزر مالبيناس الأرجنتينية، أو فوكلاند كما سمّاها المحتلّون الإنكليز؛ فصار بطلاً قومياً في عيون الأرجنتينيين.
ميسي والكثير من الصخب
في السنوات الأخيرة، بدأ ميسي يُشبه أب اللعبة (مارادونا). اللاعب الهادئ بدأ يميل إلى الصخب والتمرّد. مع مرور الوقت، بدأ باكتساب صفات مارادونا التمردية. في بطولة كوبا أميركا 2019، اتهمّ ميسي اتحاد أميركا الجنوبية "كونميبول" بالفساد، جاءت اتهامات ميسي بعد حرمان منتخب بلاده من ركلتي جزاء صحيحتين في مباراة النصف نهائي مع المضيفة البرازيل.
كانت تلك النبرة المتمرّدة حديثة العهد عند نجم الأرجنتين الأول، الذي ألمح إلى معاملة الأرجنتينيين كمواطنين لاتينيين من الدرجة الثّانية. وعلى طريقة مارادونا، تحدّث ميسي عن فساد الاتحادات التي تحرم النّاس من الاستمتاع بكرة القدم.
أراهن على أنّه لو قُدّر لمارادونا بأن يكون حاضراً في قطر، لابتلع تصريحاته تلك، أو اعتذر لميسي، على رؤوس الأشهاد.
في مونديال قطر، سجّل النّجم الأرجنتيني احتجاجاً ضد الحكم الذي أدار مباراة الأرجنتين وهولندا، وسجّل موقفاً مسانداً لزميليه في منتخب الأرجنتين، السابق ريكلمي والحالي دي ماريا، ضد فوقية وتعالي المدرب الهولندي لويس فان خال، حينما كان مدرباً لكليهما في برشلونة ومانشستر يونايتد.
ميسي وهراء المقارنة مع مارادونا
لقد تغيرت كرة القدم كثيراً بين زمني ميسي ومارادونا، وعبرت مياه كثيرة تحت ذلك الجسر. لقد صارت الكرة في عهد ميسي أكثر تحفّظاً وأقل مجازفة، فيما كانت أيام مارادونا أكثر ارتجالاً واستعراضاً وبهجة. أفسدت الخطط الدفاعية متعة كرة القدم، فلا يهمّ بعد الآن الكرة التي ستلعبها، المهم هو ألا تخرج مهزوماً، حتى لو اصطف لاعبوك على خط المرمى.
لقد عاصر ميسي كرة القدم الحديثة، بخططها المعقّدة وأسلوبها المملّ، لكنّه تعلّم الافلات من الرقابة والتحايل على المدافعين ورقص التانغو في المساحات الضيقة. لقد حافظ على التوهّج والانضباط والبريق لعشرين عاماً. لسنوات طويلة، لم نشعر للحظة بأن السّاحر الأرجنتيني قد ترك القمة لأحد. هذا هو سرّ ميسي.
مونديال ميسي؟
ربما، وكم نتمنى نحن عشّاق كرة القدم ذلك، لكن بكأس أو بدونه، سنبقى ندين لميسي بأطنانٍ من المتعة الكروية، بذلك السّحر اللاتيني الذي لوّن مساءاتنا وسهراتنا، وسيبقى ميسي هو ميسي: اللاعب الذي يقترب من عامه السّادس والثلاثين، دون أن ينقص من سحره شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.