"مالك يا أستاذ، ما خلصتش الأكل ليه؟". سكتت، ثم قلت له: "لا! ما فيش، أنا شبعت".
لم يقنع ردي نادل مطعم شعبي صغير في حي المبتديان في القاهرة، فأضاف: "هو الأكل ما عجبكش لا سمح الله ولا إيه؟! "
سكتّ من جديد، ثم أفرجت عن ابتسامة خفيفة عسى أن أتجاوز هذا الموقف الثقيل.
"ما فيش..ما فيش ولا حاجة"، أجبت النادل، ثم دفعت ثمن الأكلة، وهي عبارة عن تورتة بيشاميل بالسجق، محتفظاً بانطباعي السيىئ تجاه أكلة المطعم.
كانت مشاهد لأحمد زكي وعادل إمام، في أدوارهما للمواطن المصري بسيط الحال، وهما يأكلان الفول من عربة الشارع، تثير شهيته وخياله، ولكنه عندما جربها أخيراً في وسط البلد بالقاهرة، وجد الإحساس مختلفاً عما تخيله... تأملات كاتب مغربي في الأكلات المصرية البسيطة والشائعة
أثار السجق أُلفَتي لأنه أقرب لشكل النقانق المغربية أو ما يسمى بـ"الصُوصِيصْ"، لكنه في المقابل أثار غرابتي بحكم أن مذاقه لا يشبه نظيره المغربي، إذ إنه يمنح لما هو مقلي مذاقاً مُركزاً.
في المقابل، ارْتَبْتُ وشككت في طريقة إعداده، وهو نفس الانطباع الذي منحه لي الصوصيص المغربي، إذ غالباً ما يُثار حديث لدى عوام الناس بأنه يعد من أحشاء الكلاب والقطط أو لحم الحمير أو ما شاكل ذلك. وهو أمر أثير على مضض أو بشكل عابر في بعض الأعمال الفنية المصرية، لكن كان تركيزها أكثر على وجبة الكباب بالكفتة، كما عرضها فيلم "يانا يا خالتي" بشكل ساخر وكوميدي.
أتذوق الفول كما في الأفلام
تأملت أعمال الفنان عادل إمام الفنية بمعية سعيد صالح وسمير غانم، وأخرى لأحمد زكي إبان الثمانينيات والتسعينيات الفائتة، وهم يَهِمون بتناول الفول المدمس بلزوجته المتماسكة، ويتلذذون به، منتشين بحالة من النشوة اللحظية، أو مُعَبِّرِينَ عن هموهم اليومية وشكواهم في ظل وضع اجتماعي يتسم بالندرة.
اختزل الفول المدمس حالة الهشاشة الاجتماعية المعروضة في الأعمال الفنية، فمثلاً نرى الفنان عادل إمام في فيلم "رمضان فوق البركان" موظفاً بسيطاً جداً، يقبض بضع جنيهات بالكاد تكفيه لسد رمقه بفول مدمس باعتباره عادة يومية.
الأمر ذاته تكرر في فيلم "أفواه وأرانب"، عندما لا تجد أسرة غير نووية مأهولة بأطفال كثر لسد جوعها غير الفول المدمس.
لكن، حالياً لم يعد الفول المدمس مُعَبِّراً بشكل جاهز عن هذه الوضعية، فمع التضخم صارت الوجبة نصيرة الفقراء ومتوسطي الدخل، وما فوقهم أيضاً.
أما أنا، فشعرت بإحساس الندرة مع الفول المدمس في عربة الشارع البسيطة، كانت تجربتي الأولى مع صديق مصري دعاني إلى هذه الأكلة الشعبية، التي تتكون من بيض مسلوق، وبطاطس مقلية، وأقراص طعمية، وفول مدمس.
شعرت للوهلة الأولى بمشاعر الأفلام والمسلسلات الدرامية التي تفاعلت مع مشاهدها المتضمنة للأكل، وعبرها تذوقت الفول المدمس ذهنياً.
هكذا توصلت إلى استنتاج أن مذاق فول العربة بالكاد يتطابق مع المذاق المتخيل، لكن ليست كل الصحون على مذاق واحد، وما يلمع في الشاشة يُصَدَّرُ لنا -في العادة- كمتخيل لذيذ.
والشاهد على ذلك تجربتي مع الفول المدمس التي لم تكن كاملة اللذة، كما في الدراما والسينما، إلا بعد تناول أكثر من صحن.
ومما أثار امتعاضي في الفول المدمس قشرته، وهو ما لم يتم عرضه في لقطات الأعمال الفنية، إذ يظهر أنيقاً بلونه الميال للخضرة والبني الفاتح دون قشرة، وهذا ما يجعلني أتلذذ ذهنياً بالفول المدمس أكثر من الواقع.
استقرار بطعم عائلي
وجدت ضالتي في فول مطعم "بشندي"، الكائن في وسط البلد، إذ منحني إحساساً بالراحة والاستقرار، انتظمت بشكل شبه يومي على تناول وجبة الفطور، المكونة في الغالب من الفول المدمس، والحلاوة الطحينية، وأحياناً أضيف للوصفة شايٌ وأقراص طعمية وبطاطس مقلية.
الفول في هذا المطعم يمنح انطباعاً أولياً بالحالة الشعبية المرفهة نسبياً، على عكس عربة الفول المتنقلة التي نتذوق من خلالها أكلاً مليئاً بالتوابل، تغطي عيوب الفول الذي عادة ما يكون فاسداً أو بجودة أقل.
أما في مطعم "البرنس" الكائن في إمبابة فلا شيء يعلو فوق الانتظار، وهذا ما حصل لي ولصديقي باسل، إذ توقفنا خارج المطعم بضع دقائق منتظرين دورنا.
شخصياً، لم أعتد هذا النوع من النمط في الاستقبال. كان هناك زحام شديد، وجدنا المطعم ممتلئاً بالزوار، إذ يتم تنظيم دخولهم في المطعم عبر ترقيمهم بالدور وبالترتيب.
كان مذاق الأطباق المقدمة في مطعم البرنس شهياً، دعاني باسل إلى أطباق الملوخية، والسجق، وطاجين الكبدة، والعيش، والسلطة المصرية، وغيرها من المقبلات.
الأكل دسم، وسَبَّبَ لي نوعاً من التخمة والشبع السريع.
يختلف طعم مطعم "المدينة" الكائن في وسط البلد عن نظيره "البرنس"، إذ تبعث منه روائح الكبد المطهوة بالزيت، ومنحني شعوراً وكأني آكل بين أفراد العائلة، فهو يستهدف شرائح متنوعة من الزبائن، إنه مطعم شعبي، ولكنه ليس فوضوياً في شكله وطريقة عمله.
تأمل في طبق كشري
تناولت الكشري للمرة الأولى في مطعم غير معروف في شارع "الهرم" بعد رحلة استكشافية للأهرام مع صديقي باسل، الذي عزمني على الأكل، لقد شعرت بفقدان لذة الأكل في هذا الفضاء.
اعتبرت هذه الأكلة غير موفقة للتجربة اليومية، فهي برغم شعبيتها لدى عموم المصريين أرى أنها لا تضفي نكهة ما مميزة، إذ هي مجرد خلط غير متجانس لعناصر متناقضة، لم تشفع بها لا صلصة حارة ولا أي طعم يضفي على الخليط لذة، وفي الغالب يفسدها طعم البصل، المشوي بمذاق فج غير مستساغ.
ثاني كشري أكلته كان في أحد المطاعم الشعبية غير المعروفة بحي المنيب الشعبي، كان الفضاء لا يوحي لا بالأمان، ولا بالنظافة الكافية التي تجعلني أنا وصديقي حسام نأكل فراخاً محمرة. لذا طلبنا في نهاية المطاف الأكلة الفوضوية (أي الكشري)، التي كانت إلى حد ما مفتقدة لروح ما وكأنها جثة مرمية بألوان باهتة مزيفة وبلا طعم.
ولكن المذاق تغير، وتحسن شيئاً ما مع "مطعم التحرير"، الذي استمتعنا أنا وحسام بأصالة ما تختلف عن طعم المطعم السابق بالمنيب. طلبنا الشطة وأكثرنا من الصوص ثم ضاع طعم البصل الفج وذاب وسط الفوضى الخلاقة. أكلنا وشبعنا. لكني حلفت ألا أعيد تناول هذه الأكلة.
أكلة أمي في الزمالك
بابا غنوج كان أول ما أثار دهشتي لما تناولته بعدما حضّره صديقي حسام، ويده الحاسمة والناجزة في طهي الأكل بشكل هندسي ونسقي لا فكاك له من اعوجاج.
البابا غنوج ذكرني بـ"الزعلوك" المغربي، لأنه "مُعَلَك"، كلمة مغربية معناها ممتزج بشكل متجانس. ثمة مزيج يتسيده الباذنجان مع عناصر أخرى كالبصل والطماطم والثوم، ولكن يختلف الأمر شكلياً مع البابا غنوج، لأنه باذنجان أساسي دون سواه ولا شريك له من العناصر الخضرية الأخرى، كما أن لونه يميل إلى الأخضر الفاتح، عكس "الزعلوك" المغربي الميال إلى اللون البني الغامق.
كان يعشق التورتة بالبيشاميل في المغرب، فهي الأكلة المفضلة لمطبخ والدته، لذا شعر بإثارة ودهشة عندما تذوقها بالطعم المصري في أحد مطاعم الزمالك... تأملات مغربي في الأكلات المصرية
عشقي الأول منحته للتورتة بالبيشاميل، تلذذت أول مرة بطعمها على يد أمي، وأغرمت بها أكثر لما تذوقتها في مطعم بحي الزمالك بجوار النيل بمعية صديقي باسل، كانت ممتزجة، ومتماسكة بشكل متناسق مع الجبن والمعكرونة وشرائح الدجاج.
أما ورق العنب المحشي فقد أثار دهشتي، فلَمّا تناولته في ضيافة صديقين رائعين في الجيزة، تساءلت: كيف لورق نباتي محشو بالأرز وعائلته من المكونات الخضرية أن يكون لذيذاً بهذا الطعم المستمر؟
أكلته على شوطين، الأول عند بيت الصديقين في وجبة الغداء، والثاني جلبته لأتناوله في الليل. شعرت فعلياً بالتخمة، وكأنه امتلاء كامل لن أجوع بعده لسنين ممتدة.
في المحصلة، أستطيع أن أقول إن الأكلات المصرية منحتني أذواقاً متعددة ومشاعر مركبة، تعكس حالة مصر العامة، الموسومة بالفوضوية وبغياب تام للتناسق وعدم الاكتراث للشكل الهندسي للتفاصيل. ويمكن أن اختصر تجربتي الذوقية للأكل المصري في جملة: "أنا شبعت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم