"أغروم، أبريد، أنزار، تامورت...
"خبز، طريق، مطر، أرض...
هذه بضع كلمات أمازيغية يتكلمها كل الناطقين بالأمازيغية في شمال إفريقيا، ومنهم المعروفون باسم "الطوارق" أو "إيموهاق الصحراء الكبرى"، التي تفصل شمال إفريقيا عن الشرق الأوسط، أو ما يسمى اصطلاحاً وسياسياً بالوطن العربي.
ذلك "الوطن العربي" تجمعه اللغة، لكن في الوقت نفسه تفصله اللغة أيضاً، فاللهجات المغاربية بالنسبة إلى المشارقة، هي أشبه ما تكون بلغات أخرى بسبب التداخل في اللهجة والمفردات بين الأمازيغية والفرنسية والعربية في داخلها.
الأمر يبدأ من مصر ويمتد إلى جبال الأطلس غرباً، فكلما ذهب المشرقي غرباً كلما ازداد شعوره بعدم القدرة على التواصل مع المغاربة، ما لم يقم هؤلاء بتبنّي لهجة وسيطة بينهم، والتي في العادة تكون اللهجة المصرية، فتكون ترجمة كلمات مثل:
جرانا = ضفدع.
فكرونة = سلحفاة.
سميطري = صقيع.
تاساروت = مفتاح.
شلغوم = شوارب.
غفّة = رأس، كرموس.
كلمات أمازيغية عدة تُتداول في العاميات الشمال إفريقية ولا علاقه لها بالعربية، أضف إلى ذلك أن قواعد النحو الأمازيغي مختلفة تماماً عن العربية، فعلى سبيل المثال يختفي فيها لفظ المثنى، وتبدأ فيها الجملة بالسكون في مخالفة لأهم قواعد الفصحى العربية.
الهوة بين المشرق والمغرب
تتسع المسافة بين المجتمع المشرقي والمغربي في اتجاهات عدة تتجاوز اللغة، لتصل إلى حدود التعارف والمعرفة أيضاً. فالمعلوم لدى المشارقة عن شمال إفريقيا أنه فقط جزء تابع لهم، لكنهم يجهلون تفاصيل تركيبته، ومشكلاته.
مع انطلاق بطولة كأس العالم، ظهرت على السطح معالم صراع شمال إفريقي داخلي، حول مسألة هوية بلاد "المور"، وهي التسمية التي أتى منها اسم مملكة المغرب الأمازيغي؛ موروكو = مور آكوش، أو أرض الرب، ومنها اشتقت المدينة المغربية مراكش، اسمها.
كلما ذهب المشرقي غرباً كلما ازداد شعوره بعدم القدرة على التواصل مع المغاربة، ما لم يقم هؤلاء بتبنّي لهجة وسيطة بينهم، والتي في العادة تكون اللهجة المصرية.
المفارقة أن خارج نطاق الدول الناطقة باللغة العربية، تُسمى المغرب "موروكو= مراكش"، في إشارة إلى ازدواجية الهوية التي تمتلكها المغرب وشمال إفريقيا في العموم، والتي تنعكس على صراع محلي داخلها بين المنادين باستمرار التبعية للشرق، والمنادين بالاستقلال التام عنه، والعودة إلى هوية المور.
الثابت أن المغرب الكبير (وهي التسمية التي يحبذها الكثير من أفارقة الشمال)، يكاد يكون معزولاً بالكامل عن المشرق، فلا يستطيع المشارقة فهم ما يحدث فيه، لغياب التواصل بسبب حاجز اللغة أولاً، وعدم اهتمام المشارقة أصلاً بالغوص في تفاصيل معضلاته.
فموسيقى الراي لها شعبية في فرنسا أكثر من الخليج العربي، حيث لا أحد يعرف أسماء مثل الشاب حسني، الشابة الزهوانية، ناس الغيوان أو محمد رويشة وآخرين كثر.
وقبول التعايش السلمي مع اليهود في تونس والمغرب أمر لا يعرفه المشارقة أيضاً، إذ يعيش نحو 5،000 يهودي في البلدين، فضلاً عن أن الجاليات المهاجرة المغاربية في أوروبا، تشكل نسبةً مؤثرةً من تعداد السكان في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا، الأمر الذي يجعل العلاقة بين جنوب أوروبا وشمال إفريقيا أعمق منها مع الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تكوّن جيل ثانٍ وثالث أوروبي مغاربي يشكل جسراً لا يوجد له نظير في المشرق العربي، بالإضافة إلى التداخل في حوارات الهوية ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، بين كبريات دول الوجود الأمازيغي الفصيح، ليبيا، الجزائر والمغرب، والتي يفتقدها المشرق كون مسألة ازدواجية اللغة ليست مطروحةً إلا بشكل شبه كوميدي، كما هو حال مسألة فينيقية لبنان، التي يدور فيها الحديث عن لغة وثقافة لا وجود لها، بخلاف الأمازيغية التي واكبت ثلاث لغات شقيقة ماتت جميعها تقريباً: الكوشية، الأمهرية والقبطية، لتستمر في واقع المجتمع المغاربي اليوم تطرح سؤال هوية تسببت في ثورات ربيع حدثت قبل الربيع العربي بأربعين سنةً.
بعد أن فاز زين الدين زيدان في كأس العالم تذكّر العرب أنه عربي، وظهرت الديلمة من جديد عربي أم أمازيغي؟ ليحسم الرجل الجدل قائلاً: أنا فرنسي لا أتحدث العربية أصلاً
أمطار الربيع الأمازيغي 1980
عندما كانت تمطر في الجزائر، كان القذافي يتبلل في طرابلس؛ هكذا كان يتردد إبان موجة الربيع الأمازيغي في ثمانينيات القرن المنصرم، أو ما يُعرف باسم "تافسويت ن إيمازيغن"، وهي وقائع لم يسمع عنها المشارقة بمقدار سماع المغاربة عن الحرب اللبنانية مثلاً، إذ تسببت في مقتل 136 شخصاً وجرح أكثر من خمسة آلاف آخرين، فما حدث في الربيع الأمازيغي والذي انطلق بعد تنامي الشعور القومي الأمازيغي لدى الناطقين بالأمازيغية في تيزي وزو القبايل الجزائرية، بعد منع مولود معمري من إلقاء محاضرة عن الشعر الأمازيغي، ومع اغتيال المغني القبايلي معطوب لوناس، وتنامي الخطاب العروبي في عصر بن بلة، الذي عدّ التعريب ضرورياً لأنه كما قال: "... لا اشتراكية بلا تعريب ولا مستقبل لهذا البلد دون التعريب"، تسبب في بدأ تفاعل أحجار الدومينو في شمال إفريقيا المواصل لحالة خطاب الهوية اليوم، والذي علا صوته مع بروز سؤال: هل المنتخب المغربي عربي أم أمازيغي؟
وهذا سؤال استمر منذ استقلال دول شمال إفريقيا عبر صراع محلي ضد سياسات التعريب والمعاداة المعلنة واللغة الأمازيغية، كما هو حال زمن بن بلة والقذافي، وغير المعلنة كما هو الحال زمن بورقيبة والحسن الثاني، وبعد مقتل الشاب ماسينيسا قرباح، يوم 18 نيسان/ أبريل 2001 في الجزائر، أو ما يعرف بالربيع الأسود، وتأسيس تنظيم تنسيقية العروش في حزيران/ يونيو من العام نفسه، وصولاً إلى الاعتراف بالأمازيغية في الجزائر لغةً رسميةً، واعتمادها رسميةً في المغرب بعد مظاهرات عيد العمال وبيان رئيس جمعية الثقافة الأمازيغية المغربية محمد شفيق، لتصبح جدلية هوية الدولة مطروحةً بامتياز، حتى في ليبيا ما بعد القذافي، حيث لم تكن المسألة الأمازيغية غائبةً في أي من خطاباته الشعبوية، والتي وصفها في أحدها سنة 1985، قائلاً: "الأمازيغية... إن كانت أمك تدربك عليها فهي رجعية ترضعك حليب الاستعمار وتسقيك السم"، ليسقط قانون منع الأسماء الأمازيغية في ليبيا في أيلول/ سبتمبر 2005، بمباركة ابن القذافي سيف الإسلام نفسه، ويتم إنشاء مدارس أهلية وكليات للّغة الأمازيغية في ليبيا بعد سقوط القذافي 2011، وليكون الحضور الحي لمسألة ثنائية اللغة، وتبعاً لذلك ثنائية هوية الدولة حاضرة حضوراً سابقاً لتأهل المغرب إلى نصف نهائي كأس العالم، حين ظهر هذا الجدل على سطح مواقع التواصل العربية بقوة.
علم فلسطين بين أيدي لاعبي المغرب بعد الفوز.
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) December 6, 2022
رد واضح وصريح على برنامج التطبيع.
لهم الشكر والتحيّة.. من فلسطين، ومن جماهير الأمّة جمعاء. pic.twitter.com/BWmSQ4flzB
كأس العالم العربي
حضرت جدلية الهوية في كأس العالم قطر 2022، مرافقةً لزخم حضور جدليات سياسية أخرى، بين الشرق والغرب، مع استحضار الدولة المؤسسة قطر لخطاب الهوية الدينية الإسلاموية من جهة، واستحضار الغرب بقيادة ألمانيا لخطاب الحريات الفردية في الجهة المقابلة، وقد هدأت بعد ارتفاع وثيرة المباريات وكمية المفاجآت الحاصلة في الكأس، ليتم استحضار صراع آخر، صراع القوي والضعيف، الأكبر والأصغر، المنتصر والمنهزم، فكانت ثنائية ثلاثيتَين، الأولى عبر فوز السعودية على الأرجنتين، وتونس على فرنسا، والمغرب على بلجيكا، والثانية عبر فوز كوريا على البرتغال، اليابان على ألمانيا وإسبانيا والكاميرون على البرازيل، وفي كل ثلاثية كان هنالك حضور مختلف تماماً عن الآخر.
ففي مباريات تونس، المغرب، والسعودية، حضر خطاب الوحدة المبنية على أساس الدين والإثنية (العرق)، وأن الإنجاز إنجاز أمة بكاملها، وليس مجرد فوز في مباراة كرة قدم، بينما كان حال ثلاثية اليابان، الكاميرون وكوريا الجنوبية، مجرد انتصار في مباراة كرة قدم، حيث لم يتم رفع مستوى الخطاب الشعبوي لجعل أهداف كرة القدم أهم من مشاريع التنمية ومساحات الحريات الفردية والمشاركة السياسية والمناخ الاقتصادي المنتعش والتعايش السلمي، والتي تغيب جميعها عن مساحة شعوب لا تزال غير واصلة إلى حل للإجابة عن سؤال معنى دولة الجميع، وهل هوية الإنسان هي التي تحدد هوية الدولة أم هوية الأقوى في الدولة والأكبر عدداً هي من يحدد هوية الأفراد فيها؟ وهل يمكن سحب إنجاز منتخب أو فرد ليكون غطاءً لملايين البشر ممن يشاركون مع هذا المنتخب أو هذا الفرد جانباً هوياتياً مشتركاً، كاللغة أو الدين أو لون البشرة؟
بعد أن فاز زين الدين زيدان في كأس العالم برفقة منتخب فرنسا، تذكّر العرب أنه عربي، وظهر صوت خفيض يقول إن زيدان أمازيغي، ليؤكد اللاعب حقيقة أخرى في لقاء تلفزيوني مع قناة الأم بي سي السعودية، مفادها أنه فرنسي لا يتحدث العربية أصلاً، وأن عائلته تتحدث القبايلية، ليظهر الصوت نفسه مرةً أخرى بعد وصول المنتخب المغربي إلى نصف نهائي كأس العالم، الذي أصبح كأساً عربياً لأنه يُنظَّم في بلد عربي، وهو ما لم يحدث سابقاً أبداً، إذ لم يحدث في تاريخ الكأس أن تم نسبه إلى قومية بعينها إلا في زمن موسوليني الفاشي الذي هدد اللاعبين بالقتل إذا لم يفوزوا بالكأس لأجل الأمة الإيطالية العظيمة، قائلاً لهم: "...إما كأس العالم وإما الموت"، لتفوز إيطاليا بنسختي كأس العالم 1934 و1938، ولتكون كأس عالم قطر كأس عالم فاشيةً أخرى في واقع الأمر، ويتحول الأمر من الاستمتاع بلعبة كرة القدم، إلى صراع إثني من الداخل، ديني من الخارج، صراع حول هوية منتخب نصف النهائي، وهل هو عربي بالكامل أو نصف أمازيغي؟ وصراع هل يجيد المسلمون لعب كرة القدم؟ وهل تسجيل هدف في مباراة كرة قدم يكفي كبديل عن بناء دولة للجميع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت