سردية المدينة الأثرية وليلي أو ما تُعرف بـ"Volubilis"، التي تبعد كيلومترات قليلة عن مدينة مكناس، والتي تروي الكتب المدرسية أنها آخر معاقل الرومان في المغرب، وهو ما يؤكد عليه عدد كبير من الباحثين المغاربة ومراجع تاريخية وعلمية كثيرة، سردية تثير الكثير من التساؤلات.
فالنظر إلى التاريخ لا ينبغي أن يكون مغازلةً وإعجاباً، خصوصاً أن قراءات مضادةً للرواية تناقض رواية الوجود الروماني، وهو ما جعل سؤالاً محورياً حول الرواية المغيّبة عن قصة وليلي يطرح نفسه: "لماذا يتم التركيز على الجزء الروماني من وليلي، ويُقصى الجزء الأكبر من التاريخ؟".
سردية "كولونيالية"
يقول يوسف المستاتي، الباحث في التاريخ وعلوم الآثار والتراث في مركز مراجعات للدراسات والأبحاث في المحمدية، إنه "في ما يخص وليلي، فقد اشتغلت عليها أكثر من ثلاث سنوات، وأستطيع القول إن سردية الوجود الروماني فيها، تعرف إشكاليات كثيرةً، وتتخللها مكامن نقص عديدة، سواء ما تعلق منها بالمنهج، أو بالتأريخ أو بالنتائج، بل والتصور العام المؤطر للسردية كاملةً، ويمكن القول كخلاصة إنها سردية كولونيالية لم تخضع لمراجعة نقدية جذرية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الآن".
المستاتي، أورد أن وليلي كانت محط عدد من الأعمال النقدية، وتم تصحيح عدد من المعطيات حولها، كمثال على ذلك الحمام الإدريسي الذي ظل الباحثون لأكثر من قرن وربع قرن من الزمن، يعتقدون أنه كنيسة مسيحية ثم حمام روماني، قبل أن ينجح باحث أركيولوجي مغربي في تأكيد أن الأمر يتعلق بحمام بُني في الفترة الإدريسية، ولا زال الأمر مفتوحاً على تأويلات واجتهادات أخرى.
النظر إلى التاريخ لا ينبغي أن يكون مغازلةً وإعجاباً، خصوصاً أن قراءات مضادةً للرواية تناقض رواية الوجود الروماني في مدينة وليلي الأثرية
كما أن عدداً من البنايات الأثرية الأخرى تعرضت لمراجعات وانتقادات من قبيل قوس النصر أو البازيليكا (الكنيسة)، لكن المشكلة أن هذه الانتقادات ظلت محكومةً بالرؤية العامة التي تؤطّر السردية الكولونيالية.
ذلك أن أولى الكتابات عن الموقع تعود إلى باحثين غربيين جاؤوا في القرن التاسع عشر، وفي فترة الحماية، إلى المغرب. ولم تخرج الرواية عن السردية الاستعمارية إلاّ بشكل جزئي، وعليه ما يغيب هنا، هو القيام بمراجعة نقدية شاملة للسردية الكولونيالية/ الرومانية عن وليلي، بدءاً من التصور العام الذي أطّرها مروراً بالمناهج والتقنيات، وصولاً إلى النتائج والخلاصات، علماً أن أولى الكتابات تحدثت عن منطقة تابعة للرومان، لكن يقيم فيها السكان الأصليون من أمازيغ المنطقة.
يضيف المستاتي، إجابةً عن سؤال كيف يمكن القيام بهذه "المراجعة النقدية"؟ وهل ثمة تخصص مؤهل للقيام بها؟ فيقول: أعتقد أن هذه المراجعة النقدية، لا بد أن تقوم على أعمال عابرة للتخصصات، متعددة المناهج والرؤى، لا يمكن لتخصص واحد أن يحتكرها أو يدّعي أهليته لها، إذ تحتاج إلى الباحث في اللسانيات والسيميائيات، والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، والتاريخ، والعمارة، والكيمياء، والجيولوجيا والفيزياء، وغيرها من العلوم الإنسانية/ الاجتماعية، لكن الشرط الأساسي اللازم توافره فيها أن تكون ذات بعد نقدي جذري بمعزل عن كل المسلمات القبلية، والسرديات الجاهزة، والروايات السائدة، وأن نصل إلى مستوى القطيعة (بمفهومها الإبستمولوجي)، مع المعرفة الاستعمارية التي لا زالت حاضرةً بقوة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عدداً من التخصصات في المغرب، استطاعت تجاوز ما أنتجته المعرفة الاستعمارية (خاصةً علم الاجتماع)، بل وتجاوزته بشكل جذري، لكن في علم التاريخ والآثار، لا زال الوضع ملتبساً بعض الشيء، فبعض التخصصات أو المراحل التاريخية استطاعت أن تتجاوز هذه المعرفة، كمثال على ذلك مرحلة ما قبل التاريخ ومرحلة التاريخ الوسيط، لكن تخصصات أخرى خصوصاً ما يتعلق بالتاريخ القديم، ما زالت مرتبطةً بشكل كبير بما أنتجته المعرفة الاستعمارية.
علم الآثار علم استعماري في أصله
في حديثه عن الرواية الوحيدة الرسمية، قال المستاتي إن الإجابة عن هذه الإشكالية تحتاج إلى صفحات وصفحات، لكن لمحاولة فهمها لا بد من العودة إلى تاريخ علم الآثار في المغرب، والذي اقترن على غرار عدد من العلوم، بالمعرفة الاستعمارية، فعلم الآثار في أصوله علم استعماري، لذا نجد أن أغلب، إن لم يكن كل علماء الآثار، في مرحلة البدايات كانوا عسكريين أو دبلوماسيين أو قساوسة.
فشارل تيسو، الذي "اكتشف" موقع وليلي في كتابه "أبحاث في الجغرافية المقارنة لموريتانيا الطنجية" سنة 1878، كان دبلوماسياً اتجه نحو علم الآثار بإيعاز من الأركيولوجي وقسيس كاتدرائية سان لويس في قرطاج، الأب بورغاد. وبعد أعمال تيسو، احتل موقع وليلي مركز الصدارة في السردية الرومانية في المغرب، واتجهت إليه الأنظار.
بعد بداية الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912، تركزت الحفريات على موقع وليلي، وكانت تدخل في إطار ما اصطُلح على تسميته بفترة "التهدئة" الهادفة إلى القضاء على كل أشكال المقاومة المسلحة للوجود الفرنسي في المنطقة، وقد قاد هذه العملية لويس شاتلان الذي كان ملازماً في الجيش الفرنسي.
أفصح شاتلان في إحدى رسائله إلى المارشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي في المغرب، عن الأهداف الاستعمارية لحفريات وليلي، إذ قال: "الحفريات التي أجريت في وليلي بدءاً من أيار/ مايو 1915، بناءً على أمر من المقيم العام، ستبقى واحدةً من أكثر الأمثلة المميزة للعمق السياسي للجنرال ليوطي: ففي المقام الأول كان من المهم إظهار قوة فرنسا للأهالي، وأنها قادرة بالإضافة إلى واجبها المقدس في حماية أراضيهم، على متابعة برنامج يسعى إلى تحقيق التهدئة".
بعد بداية الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912، تركزت الحفريات على موقع وليلي، وكانت تدخل في إطار ما اصطُلح على تسميته بفترة "التهدئة" الهادفة إلى القضاء على كل أشكال المقاومة المسلحة للوجود الفرنسي
هنا إذاً، تشكلت السردية الرسمية والتي ترى أن الوجود الروماني في المنطقة كان مرحلةً فاصلةً في تاريخه، نقلها إلى الحضارة والمدنية، وأن الاحتلال الفرنسي هو امتداد لهذه المهمة الحضارية واستمرار لها، لهذا تم تهميش الفترات التاريخية الأخرى وإقصاؤها، والتركيز على كل ما هو "روماني" في وليلي.
بالرغم من كل الهزات المعرفية والتاريخية، إلا أن المنطق المؤطر للحفريات كان مهيمناً ولو بشكل لا واعٍ أحياناً، إذ يُعدّ الوجود الروماني الإطار المرجعي لموقع وليلي، بل إن نص قرار اليونسكو بإدراج وليلي ضمن لائحة التراث العالمي، جاء فيه: "اعتبار هذا الموقع نموذجاً محفوظاً بشكل جيد واستثنائي لمدينة مستوطنة (مستعمرة) رومانية كبيرة على أطراف الإمبراطورية الرومانية".
لقد تجاهل القرار كل الفترات التاريخية الأخرى التي عرفها الموقع، ومن بين أكثر من ألف سنة من حياة الموقع حسب السردية الرسمية، تم التركيز على أقل من قرنين ونصف القرن فقط، وعدّها نموذجاً استثنائياً، بمعنى أننا أمام سردية فُرضت بدايةً بسلاح المحتل وقوته، ثم بقوة القانون الدولي، ثم برغبة في الترويج السياحي، الذي يركز على ما هو روماني من أجل جلب السياح، في حين تم إلقاء كل الروايات الأخرى إلى الهامش.
حضور روماني مبالغ فيه
الباحث نفسه يشير إلى أن التاريخ صراع سرديات وروايات، فلكلّ روايته وسرديته التي تختلف باختلاف موقعه ونظرته. وبينما يسعى المنتصر أو المركز إلى فرض روايته وترسيخها، يهدف المنهزم أو الهامش إلى الحفاظ على روايته وحمايتها بشكل مباشر أو رمزي، وعلى الباحث أن يكون واعياً بهذا الصراع ومستوياته، وأن يحاول استجلاء الحقيقة وفق قواعد صارمة.
ارتباطاً بموضوع وليلي، لا بد أن نذكّر بالسردية الرسمية القائلة إن الموقع شُيّد في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عرف أوج ازدهاره خلال فترة الوجود الروماني في المغرب، إذ أصبح نموذجاً لقوة "الرومنة" في المغرب، قبل أن يبدأ في التقهقر بعد الانسحاب الروماني من المغرب (موريتانيا الطنجية)، في أواخر القرن الثالث الميلادي، ثم عاد للانتعاش قليلاً خلال الفترة الإدريسية، قبل أن يتراجع مجدداً بعد انتقال عاصمة الأدارسة إلى مدينة فاس.
تعلي هذه السردية إذاً من شأن الوجود الروماني في الموقع، وتتمركز حوله بشكل كبير، إلى درجة تبدو معها روايةً متناسقةً ومنسجمةً ومتّسقةً، وفي الوقت نفسه تم تهميش المراحل التاريخية الأخرى. لكن بإخضاع هذه الرواية للنقد، تم الوقوف على مكامن خلل كثيرة، تدفع إلى القول في أبسط الحالات إن ما يبدو حضوراً رومانياً قوياً مبالغاً فيه حقيقة، وتدفع أكثرها راديكاليةً إلى القول إننا إزاء سردية مزيفة ومختلقة، وإن الوجود الروماني في وليلي محض سردية كولونيالية مختلَقة.
تعلي السردية الاستعمارية من شأن الوجود الروماني في وليلي، وتتمركز حوله بشكل كبير، إلى درجة تبدو معها روايةً متناسقةً ومنسجمةً ومتّسقةً، وفي الوقت نفسه تم تهميش المراحل التاريخية الأخرى
يتعلق الأمر بدراسة نقدية بدأت منذ أكثر من ثلاث سنوات، حول هذا الموضوع، ويُنتظر أن تصدر أولى نتائجها في سلسلة كتب، وصل الكتاب الأول فيها إلى مراحله الختامية، ويُرتقَب صدوره في الأشهر القادمة تحت عنوان "لعبة الشظايا: مراجعة نقدية لتأريخ الوجود الروماني في وليلي"، وهو عبارة عن دراسة تاريخية وأثرية وأبيغرافية (علم النقائش)، كانت الخلاصة الرئيسية له -إلى الآن- أن تأريخ الوجود الروماني في وليلي تم انطلاقاً من الظن والتخمين والتكهن وافتراضات أصبحت حقائق ومسلمات، كانت تؤطَّر بعقلية كولونيالية كانت تعدّ نفسها "وريثة أمجاد الإمبراطورية الرومانية".
معمار يخالف الرواية الرسمية
يقول الباحث في حديثه عن النماذج التاريخية المتحدثة عن غياب الوجود الروماني، والتي تدحض الرواية الرسمية، إن بحثه قاده إلى نماذج تاريخية نصية، وأخرى أثرية من فترات زمنية مختلفة. على المستوى التاريخي (النصّي)، تم التأريخ للوجود الروماني في وليلي اعتماداً على ثلاثة نصوص أساسية قديمة أبرزها نص لبليني الأكبر في كتابه التاريخ الطبيعي، إذ أشار إلى وليلي على أنها مستعمرة رومانية (colony)، لكن بالعودة إلى النسخ اللاتينية الموجودة من هذا الكتاب، وكذلك الطبعات المختلفة منه، أشار الباحث إلى أن بعض النسخ، خاصةً الأقدم منها، سواء اللاتينية أو ترجماتها (الإنكليزية والفرنسية)، أوردت فولوبيليس (وليلي)، مقترنةً بلفظة أوبيدوم (oppidum)، وليس "كولوني (colony)". وبالعودة إلى المعاجم اللاتينية، فإن أوبيدوم (oppidum)، تعني المدينة أو المكان المحصّن أو المدينة المحصّنة. هكذا إذاً تحولت وليلي من مدينة محصّنة أو مكان محصّن إلى مستعمرة رومانية، في تفسيرات آباء الأركيولوجيا الكولونيالية؛ هذا عدا عن عدد كبير من "المشكلات" المنهجية أو النصية التي تُطرح حول هذه النصوص التي اعتُمدت لـ"شرعنة" الوجود الروماني في وليلي.
أشار بليني إلى وليلي على أنها مستعمرة رومانية (colony)، لكن بالعودة إلى النسخ اللاتينية الموجودة من هذا الكتاب، ، أوردت فولوبيليس (وليلي)، مقترنةً بلفظة أوبيدوم (oppidum) أي المدينة المحصنة، وهذا يطرح أسئلة كثيرة
أما على المستوى الأثري، فيقول الباحث: سنبدأ من قاعدة بديهية في علم الآثار، تجعل الفترة الأحدث هي التي في الطبقة الأعلى، في حين تتركز الأقدم في الطبقة الأسفل، حسب هذه القاعدة، وتاريخ المدينة يُفترَض أن يكون المرحلة البونية أي التي في الطبقة الأسفل، متبوعةً بالمورية، ثم الرومانية، فالإسلامية، لكننا في حالة وليلي نصطدم بعدد من الإشكاليات، فالطبقة الرومانية هي الأعلى، وفي الوقت نفسه نعثر على بقايا إسلامية تحتها، إذ تم العثور على مقبرة ومنزل لإسلاميين في شرق قوس النصر، وسط ما يُعرف بالمدينة الرومانية. وفي الوقت نفسه نجد فيه ضريحاً مورياً يؤرَّخ بالقرن الثاني قبل الميلاد، في مستوى أحد المنازل "الرومانية" التي تؤرَّخ على الأقل بالقرن الأول الميلادي.
ومن بين النماذج، حسب المتحدث، ما سبقت الإشارة إليه حول الحمام الإدريسي الذي ظل الباحثون لأكثر من قرن ونيف يعدّونه كنيسةً مسيحيةً، ثم حماماً رومانياً، قبل أن يؤكد باحث مغربي أن الأمر يتعلق بحمام عمومي يرجع إلى الفترة الإدريسية، لكن المثير في هذا الحمام وجود زخرفة فيه هي عبارة عن نجمة مثمنة داخل معين يحيط بها، وهي الزخرفة ذاتها التي كان يوجد مثيل لها على ما عُدّ قوس نصر رومانياً، والنجمة المثمنة رمز له حضور قوي جداً في الثقافة والمعمار والحياة المغربية عموماً، ولم يسجَّل عن الرومان اهتمامهم بهذا النوع من الزخارف، كما لا نعثر على هذه الزخرفة ضمن أي قوس من أقواس النصر الرومانية الأخرى، ما يدفع إلى التساؤل: كيف ظهرت هذه الزخرفة المغربية/ الإسلامية على قوس النصر "الروماني"؟ وهل يُعقل أن الرومان سيزخرفون قوس النصر بنمط زخرفي لم يهتموا به، ولم يوجد في ثقافتهم أصلاً؟ ولماذا حضر في القوس فحسب، وفي المقابل نجد حضورها خلال الفترة الإسلامية، سواء في القطع الأثرية المنقولة (قطع نقدية) أو الثابتة؟
وارتباطاً بقوس النصر، لا بد أن نشير إلى أنه عرف عملية ترميم خلال ثلاثينيات القرن الماضي، على يد الملازم في الجيش الفرنسي، لويس شاتلان (الذي سيصبح باحثاً أثرياً)، وهذا الترميم بُني على أساس الظن والتكهن، إذ وُجّهت إليه انتقادات عدة، لأنه لا يشبه الصور القديمة لما عُدّ قوس نصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...