شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كوابيس الرابعة فجراً أكسبتني فهماً أكبر لذاتي

كوابيس الرابعة فجراً أكسبتني فهماً أكبر لذاتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 19 ديسمبر 202203:15 م


في كل يوم، وفي نفس التوقيت، على الساعة الرابعة صباحاً أفتح عيني. المكان مظلم. أتحسّس الفضاء من حولي. يختلف عن سابقه. أنا لست هناك، أنا هنا.

لحظات فاصلة بين زمنين و مكانين، نسق التحول فجائي وسريع. أسترجع بعض التفاصيل و أنهض.

تتعدّد الوجوه. لا أرى نفس الأشخاص كل ليلة. تتغير الأمكنة ولكن الثابت هو أن هذه المشاهد لا تنقطع تقريباً، والغريب أنها انتظمت وضربت معي موعداً عند مطلع كل فجر. أتذكر أحياناً ما رأيته أو استرجعته لحظة استيقاظي و أنسى أحيانا أخرى ما حدث.

أرى كوابيس منذ أسابيع.

في الواقع، مررت بتجربة الكوابيس هذه في فترات مختلفة، تمشيط صباحي بين الفراش والمطبخ وبقية المنزل، وجهل بما علي فعله في البداية، وتفصيلات غريبة يصعب فهمها. تواترت أسئلتي على محرّك البحث، و صار من المعتاد أن أطرح نفس الأسئلة من جديد: أي نوع من الصدمات نتلقاها حتى ينقلب ليلنا إلى مشاهد مخيفة؟ متى يتحول الكابوس إلى سبب حقيقي للقلق؟ ما الذي أوصلني إلى هذه المرحلة؟ كيف أعود بسرعة إلى النوم؟ إذا كان لا بد من كوابيس، لماذا لا أستحضرها جيّداً على الأقل؟

في محاولاتي العديدة للبحث عن السبب لوصولي إلى هذه الحالة، قرأت حواراً شدني مع المخرجة السورية- الألمانية مي سعيفان، التي اشتغلت على الأحلام، وعلى غرارها، فضّلت تسميتها بالمنامات عوضاً عن الأحلام، رفعاً للبس بين حلم نأمل منه واقعاً ما ومنام يفيد ما نراه أثناء نومنا، لأن ما كنت أراه أثناء النوم لم يكن بالحلم المأمول، بقدر ما هو حالة من الهلع تنتهي بردّ الأنفاس ما إن أكتشف أنني في بيتي وعلى فراشي.

لسنا أحراراً بما يكفي حتى نكون أوفياء لحق وهبتناه الطبيعة، وهنا يتلخّص همّ الإنسان: وجد حراً ولكنه مكبل بالعادات والتقاليد والموروثات، وبالآخر في كل لحظات جحيمه

قرأت أيضاً أن هناك أسباباً عديدة للكوابيس، بعضهم يرى أن للأمر صلة بوجود "بطء في نقل السيالة العصبية، أو عرقلة هذه السيالة الخاصة بوصلات الخلايا العصبية الحركية المسؤولة عن تحريك العضلات وأجزاء الجسم، وهي الخلايا الموجودة في غشاء المخ". يرى آخرون أن العوامل قد تتلخص في الطريقة الخاطئة للنوم أو الأوقات غير المنتظمة له أو ربما الحرمان منه، نوعية المأكولات التي يصعب هضمها قبل الذهاب للنوم، ولتغير نمط الحياة دور كذلك في هذه المشاهد الليلية، ولكن السبب الأبرز عند الغالبية، بنسبة تجاوزت 50% ممن يرون كوابيس، هو القلق والتوتر.

فهمت بعد ذلك أن الحالم هو الأقدر على تفسير ما يراه من منامات كل ليلة، رغم تشارك البشر في بعض الرموز، ورجّحت حينها أني بحاجة إلى معرفة نفسي أكثر. الحل لمشكل النوم هذا لم يكن خارج ذاتي بقدر ما هو داخلها. فاجأتني الكتابة أكثر من الكوابيس. اكتشفت غضبي وجبني. على غير عادتي لم أحرق ما كتبت. تحوّلت كوابيس الرابعة إلى سبب جيد لأستكين فجراً إلى نفسي.

صرت مهووسة بالكتابة كنوع من التطهّر من أوحال اليومي. كلفتني التجربة هالات سوداء وبعض الشحوب، كنت أذهب إلى العمل أحياناً كثيرة دون مساحيق، كأنني أتلمّس الحقيقة في تفاصيل وجهي أيضاً.

كوابيس الرابعة أيقظتني من سبات نفسي عميق، فمشاكلي التي أتظاهر بتجاوزها تطفو على السطح كل فجر. أشلاء نفسي المتناثرة التي جمعتها جميعها واعتقدت أني رتبتها ليست أبداً مرتبة. سكوتي في أوقات وجب فيها أن أتكلم ينفجر في وجهي كل فجر. كنت أظن أنني بهذه الطريقة أتعالى على ما لا يهم. ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، ما اعتقدت أنه لا يهم يحتاج أن يقال حتى لا يخزن كمكبوتات.

قناعاتي التي صمت عنها احتراماً للآخرين لم تجابه بذات الاحترام. الحرية التي طالما آمنت بها باهظة الثمن وقد تتكلف بدورها حريتي في التصرف. قد نحترم اختيارات الآخرين بصدر رحب ولكنهم لا يجدون مانعاً في منعنا عن أنفسنا إذا اقتضى منهم الأمر ذلك.

نحن البشر، لسنا أحراراً كما نتوهم. بعضنا يضطر لإخفاء قناعاته الدينية خوفاً من صدّ الآخر. و بعضنا يكتم ميولاته الجنسية حتى لا يُتهم "بالشذوذ"، آخرون اختاروا الصمت عوض التعبير عن آرائهم السياسية، والقائمة تطول، لتنتهي إلى واقع خوف جماعي معمّم متبادل، خوف الكلّ من الكلّ. هذا جعل تصرفاتنا مدروسة بشكل يراعي أولاً ما يتطلبه السِّرب الذي ننتمي إليه.

اكتشفت غضبي وجبني. على غير عادتي لم أحرق ما كتبت. تحوّلت كوابيس الرابعة إلى سبب جيد لأستكين فجراً إلى نفسي. صرت مهووسة بالكتابة كنوع من التطهّر من أوحال اليومي

لسنا أحراراً بما يكفي حتى نكون أوفياء لحق وهبتناه الطبيعة، وهنا يتلخّص همّ الإنسان: وجد حراً ولكنه مكبل بالعادات والتقاليد والموروثات، وبالآخر في كل لحظات جحيمه. "لسنا أحراراً"، كما يقول زوربا اليوناني، "كل ما في الأمر أن الحبل المربوط في عنقنا أطول قليلاً من حبال الآخرين". يحاصرنا القمع كسلطة مبثوثة في كل النسيج الاجتماعي، أينما وليت وجهك تحاصرك سلطة ما، وما إن تلتفت إلى نفسك في زحام الآخرين حتى تجد أنك اضطررت للنفاق حفاظاً على علاقتك بهم، الآخر قد يكون والدك أو خالك أو زميلك في العمل أو حتى أختك الصغرى. قد تتحدث معهم كما انتظروا هم منك أن تتحدث، وستكون عند حسن ظنهم، ربما.

الآخر أو الهُم أو الغير... تتواتر التسميات مع مراعاة فروقات المعاني، كلهم حاضرون في تركيبتك النفسية. الممنوع والمسموح جزأ منك. يجسد "الأنا الأعلى" كما صنفه فرويد. "أنا أعلى" مسلط عليك، يملي عليك قواعد جاهزة، ما يجب و ما لا يجب فعله.

قد تعتقد واهماً أنك تقاومهم ما استطعت، ولكنك في لحظات تضطر لاستلال اعتراف منهم بذكائك أو جمالك أو أخلاقيتك. ستحتاجهم. اعتراف يساهم في تمثلك لذاتك، فنحن نرى بعضاً منا من خلالهم. إنهم الجحيم الضروري. لكن ماذا عن حقيقتك؟ ماذا عن أناك الحقيقي؟ ستقول إن لك حياتين، واحدة لك و أخرى للآخرين، وأن النفاق ضرورة حتى بين الأتراب أحياناً، أليس كذلك؟

تذكرت فيلماً شاهدته فترة الحظر الصحي لكورونا. على طاولة العشاء، اتفق مجموعة من الأصدقاء أن يطلعوا على مكالمات بعضهم البعض، وفتح رسائلهم الخاصة على الملأ.

لعبة بدت لي منذ البداية مرعبة، فالكثير من الصدق يقتل العلاقات.

قد لا يخترق الوعيُ الكابوس، ولكنه يوقظه. يخرج من باطنك آلامك المكبوتة وكل أسرارك الدفينة

لكن في دائرة العلاقات الإنسانية داخل الفيلم أو خارجه، قد تغالط وعيك وتتظاهر بحسن التعايش مع مختلف تظنه يقبلك بكل هناتك، لكن هذه الحرب العلائقية بين الإنسان والإنسان ستستقرّ في أراضيك فجراً، عند الرابعة مثلاً، حينها سيتوجب عليك أن تكون أنت في مواجهة ذاتك، فتكفّ عن الكذب. ستقول حينها: "هل كان علي أن أنتظر كوابيسي حتى أفهم أنني كلما تنازلت عن شبر لصالح الآخرين ابتعدت أميالا عن نفسي؟".

قد لا يخترق الوعيُ الكابوس، ولكنه يوقظه. يخرج من باطنك آلامك المكبوتة وكل أسرارك الدفينة. يتصدى "لميكانيزمات" دفاعك عن شرّك المتأصل فيك. إنه يفتح نصب عينيك طريقاً معبدة بالحقيقة، يكسر صمتك كل فجر ويصرخ في ضعفك.

تحب الكوابيس الحياة لذلك هي توقظك وتدعوك نحوها، على طريقتها، رافضة كل "نعم" حلت محل "لا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard