شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
طهو الكوابيس على حطب الأحلام... أيّام داخل خزائن

طهو الكوابيس على حطب الأحلام... أيّام داخل خزائن "مستريح" أسوان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 2 يونيو 202212:21 م

"دي هتبقى فُللي"،  وعد ألقاه عبد الطاهر الحصاوي على مسامع أبناء قرى البصيلية التابعة لمركز إدفو في محافظة أسوان المصرية. هذا الوعد انتشر في "البلد" على ألسنة أبنائها الذين حصلوا منه على دفعات أولى من "أرباحهم" التي وعدهم باستثمارها.

اجتذب الوعد عشرات آخرين من أبناء البصيلية، تحديداً، سكان قرية الشماخية حيث بيت الحصاوي وزرائبه التي امتلأت بالماشية التي اصطحبها أهالي القرية أملاً في أن يزيد خيرها على يديه. وقد استفاقوا بعد أيام على خبر هروبه مع بعض محترفي النصب أطلق عليهم الإعلام لقب "مستريحين أسوان" في قضية لا تزال منظورة أمام المحاكم المصرية.

أحلام الفلاحين باستثمار مدخراتهم وتعظيم إنتاج مواشيهم، كانت الوقود الذي استغله "مستريحو أسوان" لطهو الكوابيس في دورة استغلال قصيرة، يستجلي رصيف22 وقائعها في هذا التقرير من خلال شهادات الضحايا ومن عملوا مع "المستريحين"

قضية مستريحي أسوان، ومنهم عبد الطاهر الحصاوي، الذي بات معروفاً اختصاراً باسم الحصاوي، وصلت تداعياتها إلى حديث لرئيس الجمهورية في 21 مايو/ أيار المنقضي، لفت فيه إلى أحلام المزارعين المصريين التي تتفق مع حلمه بتعظيم إنتاج اللحوم والألبان من الماشية، مفصحاً عن حلمه الشخصي باستبدال رؤوس الماشية المولودة من سلالات مصرية وإحلال أخرى أجنبية بدلاً منها.

أحلام الفلاحين باستثمار مدخراتهم وتعظيم إنتاج مواشيهم، كانت الوقود الذي استغله "مستريحو أسوان" لطهو الكوابيس في دورة استغلال قصيرة لم يتجاوز مداها 15 يوماً، يستجلي رصيف22 وقائعها في هذا التقرير. 

البداية و"الوعدة"

في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021، جاء إلى الصليبية مزارع يشبه مزارعي المنطقة، قال إنه من قرية الشرفا القريبة. 

بحسب تحقيقات النيابة العامة، تمكن عبد الطاهر الحصاوي، الشهير بطاهر الحصاوي، من إقناع المزارعين أنه قد أقنع رجل أعمال في القاهرة بأن يقرضه مليار جنيه "للاستثمار في المواشي". 

جميع من تحدثوا إلى رصيف22 من أبناء الشماخية ممن تعرضوا للنصب على يد الحصاوي، لم يبينوا طبيعة "الاستثمار في المواشي" كما شرحها لهم الحصاوي، وبحسب شهاداتهم، فقد قدموا إليه ماشيتهم على اعتبار أنهم سيتلقون دفعات كبيرة من الأموال وسيستردونها، وقد زاد عدد الرؤوس التي "استثمرها" معه كل منهم. 

بحسب تحقيقات النيابة العامة، تمكن عبد الطاهر الحصاوي، الشهير بطاهر الحصاوي، من إقناع المزارعين أنه قد أقنع رجل أعمال في القاهرة بأن يقرضه مليار جنيه "للاستثمار في المواشي"

تدور عملية الاقتراض وتقاضي الأموال للاستثمار في مصر عرفياً بطريقتين، الأولى: أن يحصل المُقرِض/ المستثمر على إيصال أمانة يثبت إقراضه لمتلقي الأموال، والثانية هي طريقة "الوعدة" التي تعتمد على الثقة في الوعد وكلمة متلقي الأموال مع تسجيل تلك الأموال أحياناً على ورقة ليس لها أية قوة قانونية. اللافت أن أغلب ضحايا الحصاوي أعطوه أموالهم وماشيتهم على "الوعدة"، أي وعده بأن يرد لهم أموالهم أو ثمن ماشيتهم بالإضافة إلى الأرباح خلال 15 يوماً، حسبما أثبتت تحقيقات النيابة العامة.

من خلال الوعدة، نجح الحصاوي في جمع نحو نصف مليار جنيه من أبناء قرى أسوان، بعد أن وعد من قدموا الأموال السائلة منهم أن يستثمر أموالهم في  "تجارة المواشي والسيارات".

   يبدأ كل "مستريح" حملته لجمع المال بإنفاق المال أولاً، كي يعزز ثقة الناس به. وعلى الرغم من تكرار ذلك "التكنيك" منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا يزال كل "مستريح" يمارسه بنجاح

يبدأ كل "مستريح" حملته لجمع المال بإنفاق المال أولاً، في هذه الطريقة المنتشرة للنصب في المناطق الشعبية والقرى المصرية – حيث تتراجع معدلات التعليم والاطلاع- كي يعزز ثقة الناس به، وعلى الرغم من تكرار ذلك "التكنيك" منذ ثمانينيات القرن الماضي، لا يزال كل "مستريح" يمارسه بنجاح. 

هذا الأسلوب نفسه اتبعه الحصاوي وشريكه "سايح الفار" – الهارب حالياً- إذ بدآ في الظهور في القرى المجاورة لـ"شرفا"، وتوزيع الأموال على المارة، ثم تنظيم حفلات دينية تحت مسمّى "الذكر الصوفي". 

ذاع صيته خلال أيام قليلة، بعد أن استأجر أراضي كثيرة مقابل بدل إيجار مرتفع، وأعد مزارع لاستقبال الماشية من الأهالي.

شهادة من الداخل

محمود عبد القادر الصاوي، وهو من ضحايا الحصاوي في قرية شرفا، كان واحداً ممن انطلت عليهم الخدعة، ولم يكتف بإيداع مدخراته القليلة لدى الحصاوي، وإنما التحق بالعمل في إحدى مزارعه. يحكي عبد القاهر لرصيف22: "كان يأخذ المواشي من الناس بأسعار كبيرة، مثلاً، يشتري بقرة بـ20 ألف جنيه، وتسجل في المزرعة، أمام صاحبها على أن يسترد 50 ألف جنيه خلال 15 يوماً، ويتسلم ألف جنيه على سبيل "العربون". في الأسابيع الأولى، انتظم الحصاوي وشريكه في الدفع، وكان يؤدي للضحية ألف جنيه تحت مسمى العربون، ويتم استلام باقي المبلغ 49 ألف جنيه بعد 15 يوماً. في الفترة الأولى دفع للضحايا في المواعيد المحددة". 

ويُضيف الصاوي، البالغ من العمر 35 عاماً: "بدأ الضحايا بعد الحصول على "الوعدة" الأولى في الرهان مع الحصاوي بشكل أكثر طمأنينة، وبالفعل كان يتم يوميّاً تحصيل نحو ألف رأس ماشية، وتُباع بنظام المزاد، وبالتالي كان الحصاوي يحصّل يوميّاً نتاج عمليات البيع لتلك المزارع". 

مضى شهران على بداية اللعبة، ومع بداية يناير/كانون الثاني، كانت الحصيلة التي تدخل خزائن الحصاوي مئات الآلاف من الجنيهات كل يوم. فيما بدأ أبناء القرى القرى المجاورة يأتون إليه بأموالهم ومواشيهم بعد أن وصل صيته إليهم.  

عملية إيهام الضحايا

مع بداية يناير/ كانون الثاني، بدأت سكرة النجاح تاخذ برأس الحصاوي، فخلق عن نفسه أساطير لجذب "المستثمرين" من البسطاء الذين يأتونه برؤوس أموالهم. من تلك الأساطير أنه بلغ من النفوذ والثراء أنه اشترى فيلا هاني شاكر "المطرب ونقيب الموسيقيين في مصر". وفي الوقت نفسه، بدأ الحصاوي التجارة في الأموال، معلناً مع بداية فبراير/ شباط عنَ "تسعيرة جديدة للجنيه"، مفادها أن "الجنيه يساوي الضعفَيْن في 15 يوماً"، وراح يفتح منافذ لاستقبال أموال المواطنين، وكان والد خطيبة الحصاوي وشريكه "سايح الفار" هما بداية خيط التجارة في الأموال، ليتبعهما مستريحون آخرون أبرزهم "مصطفى البنك".

تولى شريكه فتح أكبر فروع الحصاوي في أسوان داخل قرية الشماخية، كما فاجأ المواطنين بإعلانه أن قيمة الجنيه تساوي ثلاثة جنيهات، أي أن المليون يُسترد ثلاثة ملايين خلال خمسة عشر يوماً.

في تلك الفترة، يقول ضياء الدين بدر، الذي عمل مع السايح: "في نهاية فبراير فتحنا مركز كبير في الشماخية، وكنا بنقضي اليوم كله نستلم فلوس من الناس، كنا بنوصل إننا نحصل في اليوم الواحد 10 مليون جنيه في الشماخية فقط". 

وبينما واصل الحصاوي الاستيلاء على الماشية، بدأ سايح الفار، الذي احتل موقع مدير عملية الاستيلاء على الأموال، في الترويج لافتتاح مراكز لبيع السلع الغذائية بسعر منخفض وبيع الحديد والأسمنت ومواد البناء أيضاً بأسعار تبلغ 50% من أسعار السوق.

الهروب

يوماً تلو آخر، تحوّلت مراكز استقبال الأموال في قرية الشرفا أو الشماخية إلى بنوك، حيث كان يتم تخزين الأموال في حقائب سفر كبيرة، ثم تُنقل إلى منزل الحصاوي يومياً ليجري جردها وفقاً لكشوف مدفوعات الضحايا، وبعد ذلك تُنقل مرةً أخرى إلى مكان غير معروف داخل محافظة أسوان من خلال أشخاص يأتون فجراً إلى الحصاوي، ومُهمّتهم أخذ الأموال، حسب ضياء الدين.

ويُضيف أحد العاملين في خزائن "مستريح أسوان": "كانت عملية نقل الأموال الثانية التي يتولاها هؤلاء الأشخاص مريبة، لأنّ الطاهر نفسه كان يخشاهم ولا يستطيع الحديث معهم كثيراً، وكانت الأموال تنقل يومياً من مكانها الثاني، وكان يزعم الطاهر أن هؤلاء تابعون لشركائه في القاهرة".

في فجر اليوم الثالث، حسب عرض الحصاوي، فوجئ الأهالي بسيارته البيضاء الجيب، تفرّ هاربة من الشرفا باتجاه الطريق الصحراوي المؤدّي للقاهرة، كما هرب شريكه سايح الفار وادّعى العاملون معه أنه تم اختطافه

زاد نشاط السايح الذي اعتبره الأهالي "ربا"، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإقدام عليه، خلال مارس/ أذار وأبريل/ نيسان، حتى وصل حد التعامل اليومي في تلك التجارة إلى عشرات الملايين من الجنيهات، وتم افتتاح مراكز لاستقبال الأموال ومراكز أخرى لتسليم الفوائد للضحايا من خلال الترتيب الأبجدي.

عروض الحصاوي في تلك الفترة كانت مغرية، لدرجة أن صيتها وصل إلى منتصف الصعيد المصري، أسيوط، وبدأ الأهالي يتوافدون للحصول على أضعاف ودائعهم خلال 15 يوماً.

 كان مصطفى البنك أول من يسقط، وهذا ما خلق حالة من الخوف لدى الحصاوي، الذي حاول إيهام الضحايا بأنه مختلف تماماً، وأعلن عن عرض جديد هو "احصل على فوائد أموالك خلال 12 يوماً فقط"، وبالفعل صرف العوائد، وفي نفس التوقيت شعر الضحايا بالاطمئنان فراهنوا مرة أخرى.

وفي فجر اليوم الثالث، حسب عرض الحصاوي، فوجئ الأهالي بسيارته البيضاء الجيب، تفرّ هاربة من الشرفا باتجاه الطريق الصحراوي المؤدّي للقاهرة، كما هرب شريكه سايح الفار وادّعى العاملون معه أنه تم اختطافه.

 الحصاوي، البالغ من العمر 33 عاماً، سقط في أيدي الشرطة قبل 24 ساعة من الهروب وبحوزته سبائك ذهبية ومبلغ ماليّ كبير، بخلاف المبالغ الضخمة التي كانت بحوزة سايح الفار الذي خدع قريته كلها إذ كان يجمع على مدار شهر أكثر من 15 مليون جنيه يومياً.

بعد سقوطهما أعلنت الاجهزة الأمنية أنها ألقت القبض على ستة "مستريحين" يمارسون النصب بنفس الطريقة. وننتظر ظهور مستريحين جدد يمارسون اللعبة نفسها من دون تغيير تقريباً خلال أشهر قليلة، إذ يبدو أن فضيلة التعلُّم من أخطاء الآخرين لم تعرف طريقها إلى قرى مصر حتى اليوم.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard