في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2022، تقدّمت غنى شعيتو (21 عاماً)، والتي تتحدر من منطقة صور في جنوب لبنان، بطلب توظيف كمعلمة في إحدى المدارس الخاصة في منطقة سليم سلام-بيروت، لكن الشابة الجامعية لم تتوقع أن تتلقى جواباً بالرفض الفوري خلال المقابلة الشفهية، حتى قبل أن تعرض ما لديها من كفاءات أو شهادات أو خبرة تتناسب مع الوظيفة المتاحة.
في تلك اللحظة، شعرت غنى بأن الرفض متعلّق بارتدائها الحجاب، خصوصاً بعد أن رمقتها المسؤولة عن التوظيف بنظرات ازدراء تدلي بما في فمها من انحياز ضد الحجاب، بحسب ما تروي الشابة. سألت غنى المسؤولة مباشرةً: "هل الرفض مرتبط بمظهر معيّن؟"، فأجابت الأخيرة بشكل صريح: "نظامنا لا يسمح بقبول معلمات محجبات"، وللتخفيف من وطأة الموقف، أضافت المسؤولة: "بإمكانك ترك السيرة الذاتية في حال طلب أحدهم مدرّسةً خصوصيةً". لكن غنى رفضت العرض.
تنقل غنى ما حصل بينها وبين إحدى المعلمات قبل دخولها إلى المقابلة: "نصحتني بالمغادرة لأنه غير مرحب بالمحجبات، لكنني كنت مصرّةً على مواجهة الموقف، آملةً بألا تتم معاملتي بتمييز أو عنصرية بسبب حجابي". لم يقف الأمر عند مؤسسة تعليمية واحدة، بل رُفضت غنى من قبل مدارس عدة، وتوضح أن ذريعة الرفض "جاهزة، فالوظيفة لم تعد متاحةً".
لم تعمل الدولة اللبنانية، سواء من خلال نصوص أو تشريعات أو قوانين، على إلغاء التمييز ضد المرأة المحجبة
تعتقد غنى أن هذه المواقف مؤقتة، وهي غير قلقة على مستقبلها، وتشرح: "في الوقت الحالي، اضطررت إلى التقدم إلى وظائف عمل في مدارس خارج بيئتي"، قاصدةً بذلك مناطق ذات أغلبية مسيحية، ومشيرةً إلى أن هذا الخيار عائد إلى ظرف دراستها وسكنها حالياً، لكنها تضيف أنها بعد تخرّجها سوف تبحث "عن عمل ضمن بيئتي، حتى لا أتعرض لمثل هكذا موقف". ورداً على سؤال حول إمكانية ارتباط رفض توظيفها بعدم نيلها الشهادة الجامعية بعد، تجيب بأن "المدارس الخاصة تقبل بتوظيف غير متخرجات لصفوف معيّنة".
الرفض وذرائعه
تروي سارة ز.، (37 عاماً)، والتي تتحدر من بلدة الكنيسة البقاعية، وحائزة على شهادة تمريض ولديها خبرة واسعة في ممارسة المهنة، أنه تم قبولها للعمل في أحد مستشفيات منطقة الزلقا في بيروت، قبل 8 أشهر، إلا أن إدارة المستشفى اشترطت عليها وضع غطاء الرأس-القبعة "البونيه"، بدلاً من الحجاب، وهو يختلف عن الحجاب من ناحية المظهر ويغطّي شعر الرأس فقط من دون الرقبة. وبحسب سارة، "تذرعت المستشفى وقتها بأن المرضى قد يتذمرون بسبب مظهر الحجاب لأنهم غير معتادين على وجود ممرضة مغطاة الرأس".
بسبب ضيق المعيشة، اضطرت سارة إلى الرضوخ للشرط غير مدركة لعواقب القرار نفسياً ومجتمعياً، وتستذكر الأم المتحدرة من البقاع: "شعرت بالحرج الشديد بعد أن التقيت بأحد أقاربي في المستشفى ووجدني شبه محجبة، وقد تكررت هذه المواقف، لذا قررت التخلي عن الوظيفة وترك المنطقة والاستقرار في البقاع"، وتضيف: "كنت أشعر بالذنب لعدم قدرتي على الدفاع عن حجابي في ظل حاجتي إلى العمل". وتستنكر سارة التمييز ضد المحجبات بحجة أنه "رمز ديني"، وتلفت إلى أن ممرضات أخريات كنّ على سبيل المثال يرتدين قلادات على شكل الصليب، متسائلةً: "أليس الصليب رمزاً دينياً؟".
يقول سامر، وهو موظف مسؤول عن التوظيف في إحدى شركات الطيران في مطار بيروت الدولي، إنه يشعر بالذنب في كل مرة تتقدم فيها فتاة محجبة بطلب للعمل، لأن الشركة تمنع توظيفهن: "أستلم السيرة الذاتية منها بكل ترحيب، وأنا على يقين من أن المدير لن يستغرق دقيقةً من وقته في قراءتها"، يشرح الموظف ويضيف: "للأسف، حظوظ الفتيات المحجبات معدومة حتى لو كانت خبرتهن تفوق الأخريات بكثير".
هل الرفض مرتبط بمظهر معيّن؟ تُجيب المسؤولة: "نظامنا لا يسمح بقبول معلمات محجبات. بإمكانك ترك السيرة الذاتية في حال طلب أحدهم مدرّسةً خصوصيةً"
ويدافع سامر عن حق المرأة المحجبة في العمل لدى الشركة، لافتاً إلى وجود "فتيات محجبات ضمن عناصر وحدة الدرك في المطار، عدا عن أن شركة الطيران الأخرى العاملة في المطار تقبل بتوظيف محجبات".
حوادث متكررة
قصتا غنى وسارة ليستا الأولى من نوعهما في لبنان، إذ سبقتها حالات عديدة لنساء شعرن بتمييز في أماكن عملهن أو تعرضن لمضايقات بسبب ارتدائهن الحجاب، ففي شباط/ فبراير الماضي، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بطلب تقدّم به أحد أهم المجمعات التجارية في لبنان -ABC الأشرفية من إدارة متجر لبيع الأدوات المنزلية، بفصل موظفة لديه بسبب ارتدائها الحجاب واستبدالها بأخرى.
وقتها، رفض أصحاب المتجر الطلب وأُغلق المتجر، أما إدارة المجمع، فأكدت أن الطلب جاء في إطار "منع إظهار أي شعار ديني أو حزبي أو سياسي لأي فئة".
وقبل ذلك بأشهر عدة، في أيار/ مايو من العام الماضي، تحولت قصة الفتاة دينا الدر، إلى قضية رأي عام، بعد إقصائها من قائمة المتقدمين إلى وظيفة في السوق الحرة في مطار رفيق الحريري الدولي. وبحسب الدر، فإن "الشركة تذرعت بأن أصحاب الجزء الأكبر من الشركة أجانب ويشترطون عدم توظيف المحجبات فيها"، علماً أنه "في بلاد أوروبا وأمريكا يوظفون محجبات".
جهود يتيمة
تستمر معركة النساء المحجبات في سبيل تولّي بعض الوظائف العامة، ومن أهمها السلك القضائي. وفي هذا السياق، أتت حملات "حجابي ليس حائلاً لعدالتي" و"حجابي لا يلغي حقوقي"، التي نفذها طلاب كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية عام 2019، من أمام وزارة العدل. وفيما عُدّ هذا التحرك وقتها المواجهة الأولى للطلاب على الأرض، حول حقوق المرأة المحجبة في الدخول إلى السلك القضائي، إلا أنه لم ينتج أي تغييرات على الصعيد الرسمي.
ووسط هذا النضال النسوي المستمر، لم تعمل الدولة اللبنانية، سواء من خلال نصوص أو تشريعات أو قوانين، على إحداث أي تغيير فعلي في اتجاه إلغاء التمييز ضد المرأة المحجبة، باستثناء تعميم يتيم أصدره رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، عام 2018، يقضي بعدم منع المحجبات من حق الحصول على الوظائف العامة.
يلتزم لبنان بالمادّة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولكنه لا يطبقها فعلياً
وجاء التعميم نتيجة ضغوط مارستها النائبة المحجبة عناية عز الدين، تعقيباً على قصة الشابة ملاك موسى التي طُلب منها نزع حجابها عند دخولها لتقديم طلب وظيفة رتيب اختصاص في الجيش اللبناني.
لجنة تحمي المحجبات
تؤكد النائبة حليمة قعقور، أنه "انطلاقاً من مبدأ حقوق الإنسان عامةً، وحقوق النساء خاصةً، فالمرأة هي وحدها من لديها حق التقرير أو التحكم في لباسها ومظهرها، وهذا الحق لا يجوز أن يكون سبباً للتمييز ضدها، سواء أكان في مجال العمل أو في الدخول إلى أماكن عامة".
وبحسب قعقور، تختلف أسباب التمييز ضد المحجبات، ففي السلك القضائي، الذريعة التي تبرر التمييز تكمن في أن الحجاب يشير إلى أن القاضية من الطائفة المسلمة، وهي قد تنحاز ضد الطائفة المسيحية أو الدرزية أو ضد أي طائفة أو ديانة أخرى، و"لكن هذه الحجة غير مقنعة وغير منطقية، فهناك أشخاص منحازون ومتعصبون طائفياً ودينياً وفاسدون لكن مظهرهم لا يوحي بانتمائهم الديني".
وتدعو النائبة إلى التكاتف ضد هذا التمييز وإنشاء لجنة تناقش وتفكر في كيفية التحرك على الصعيد التشريعي، من خلال مشروع قانون يحمي حقوق المرأة المحجبة.
التزامات دولية
يتناقض التمييز ضد المرأة المحجبة في لبنان مع الحريات الشخصية التي كرسّها الدستور اللبناني، والذي جاء في مقدمته: "لبنان جمهوریة دیمقراطیة برلمانیة، تقوم على احترام الحریات العامة وفي طلیعتها حریة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعیة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضیل".
أستلم السيرة الذاتية منها بكل ترحيب، وأنا على يقين من أن المدير لن يستغرق دقيقةً من وقته في قراءتها. للأسف، حظوظ الفتيات المحجبات معدومة حتى لو كانت خبرتهن تفوق الأخريات بكثير
وتذكّر قعقور بالمادّة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الملتزم بها لبنان دولياً، والتي تنص على أن "لكل إنسان حقاً في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدينٍ ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة".
صوت الجمعيات خافت
حاولنا التواصل مع عدد من الجمعيات المعنية بشؤون المرأة في لبنان، وهي جمعية "كفى" وجمعية "أبعاد وجمعية No2ta-the feminism lab، من دون أن نلقى تجاوباً، عازين السبب إلى أن "قضايا المرأة المحجبة ليست من ضمن اختصاصنا"، (هنا تحديداً أبعاد)، أو انشغالهم في قضايا أخرى (جواب كفى). كما طرحنا موضوع تفعيل حقوق المرأة المحجبة على رئيسة "الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية" كلودين عون، لكننا لم نلقَ تفاعلاً.
لماذا يُشكل حجاب المرأة استفزازاً لبعض الجهات أو المؤسسات في لبنان؟
تقول الصحافية والناشطة النسوية مريم ياغي، إنه "على الصعيد الشعبي، لا استفزاز مباشراً تجاه المرأة المحجبة في لبنان، وفي حال وقعت بعض المواقف غير المقبولة فهي متبادلة وتتعلق بعدم تقبل معتقد الآخر، وهي ترتبط في جذورها بقضايا سياسية ودينية وحزبية"، وتشرح "أن بعض الشرائح المسلمة المتدينة تُستفز من السفور أو مظاهر الانفتاح، وفي المقابل، فإن الشريحة التي تختلف في الدين، ترى أن مظاهر الحجاب لا تمثلها". وتنبه ياغي إلى أنه "لا يجوز أن نصم المجتمع اللبناني بأنه ضد مظهر الحجاب"، واضعةً المواقف ضد المحجبات في إطار "الاستفزازت الفردية".
في السلك القضائي، الذريعة التي تبرر التمييز تكمن في أن الحجاب يشير إلى أن القاضية من الطائفة المسلمة، وهي قد تنحاز ضد طوائف أخرى، ولكن هل هي حجة مقنعة؟
أما على الصعيد الرسمي، تضيف ياغي: "بالرغم من أننا في بلد يدّعي بأنه يحترم التنوع الطائفي والديني، إلا أن بعض المحجبات ممنوعات من تقلّد مناصب رسمية"، وتتابع: "أحد أهم المجمعات التجارية في لبنان الذي طالب باستبدال عاملة محجبة بأخرى غير محجبة، هو نفسه أول من يضع شجرة الميلاد في الأعياد، علماً أنها رمز ديني وتدل على شريحة متدينة".
وتختم ياغي: "التمييز ضد المحجبات مرتبط بطبيعة النظام اللبناني القائم على المحاصصة والطائفية، وطالما هذا النظام مستمر، فالتمييز بكافة أشكاله، إن كان في حق النساء بشكل عام أو المحجبات بشكل خاص، قائم".
لماذا لا نرى اهتماماً واسعاً من قبل الجمعيات في ما يخص حقوق المرأة المحجبة؟
تجيب الناشطة النسوية فرح أبي مرشد، بأن "الجمعيات في معظمها، تشبه شكل النظام والمنظومة اللبنانية، فهي تحدد في معظم الأحيان قضاياها بحسب اهتمامات الجهات المانحة، وليس بحسب السياق الذي تعمل ضمنه".
وتؤكد أبي مرشد أن معظم الجهات المانحة لديها أجندات سياسية تدفعها إلى تبنّي عناوين عريضة معيّنة للترويج لها، والتي قد تكون بعيدةً عن القضايا الملحّة على أرض الواقع في لبنان، إلا أن بعض الجمعيات تبادر إلى تقديم خطط عمل ونشاطات تتناسب مع العناوين العريضة للجهات المانحة، وتقدّم أبي مرشد مثالاً واقعياً: "منذ فترة برزت نشاطات حول الرضاعة الطبيعية للنساء في لبنان، علماً أن معظم النساء اللبنانيات مدركات لأهمية الرضاعة وهن يرضعن أطفالهن، فيما غابت القضية الملحّة للنساء اللبنانيات في الوقت عينه، وهي صعوبات تأمين الفوط الصحية نتيجة الأزمة الاقتصادية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...