شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
ألتهم الكتب قبل أن يأتي المتوحشون لحرقها

ألتهم الكتب قبل أن يأتي المتوحشون لحرقها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 17 ديسمبر 202201:20 م

أنا الكاتب، أنا الكتاب


التقطت عيناي اسم "الأرض الطيبة" لبيرل بيك. كان قلبي يرقص شوقاً للغوص بين سطور تلك الرواية التي شعرت بأنها تناديني لأنتشلها من بين الكتب المكدّسة على رف المكتبة.

في ذلك العمر، كانت شهيتي مفتوحة لالتهام أي كتاب يصادفني أو حتى قصاصة جرائد قديمة. أعترف أن السوشيال ميديا سرقت قدراً كبيراً من وقتي وروحي.

ليلتها أعطاني خال أمي، الطبيب الستيني خفيف الظل، ذو الفكر العلماني والأفق الأكثر انفتاحاً في العائلة والذي يُفضّلني عن كل أطفالها، تلك الرواية ونحو عشرين كتاباً آخر أخرجها من مكتبته الثمينة، ولم أعرف حينها أنها هدية الوداع الأخير من "جدو عزيز" كما كنت أناديه منذ وفاة جدي وأنا في الثامنة من عمري،  فسرعان ما توفي الجد البديل بعد وقت قصير من زيارتنا له، متأثراً بجراحة فاشلة لاستئصال ورم سرطاني، فلم  أره بعدها إلاّ مرة واحدة على سرير الموت في المستشفى، وقد فقد الوزن واكتسب نحول وشحوب الموتى، وفي اليوم التالي أبلغونا برحيله، وبقيت تلك الكتب تمنحني دفء الذكريات الطيبة.

العودة إلى زمن المجاعة

سأكون صادقة إن قلت إنني في هذا الصيف عدت بالزمن إلى الوراء، وسافرت أميالاً لأحط الرحال في الصين. أرى المجاعة والبؤس الذي عانى منهما القرويون والعبيد في ذلك الزمن الصعب، ماثلة أمام عيني، وكأني أشعر بشعور "أولان" المسكينة وهي تقاد طفلة صغيرة بعيداً عن أسرتها لتباع كعبدة تقضي طفولتها ومطلع شبابها في خدمة الأثرياء، ثم تباع من جديد بحفنة من النقود، لتساق كالبهيمة، ويتخذها المزارع الفقير "وانغ لونج" زوجة له دون أن يسألها أحد عن رأيها.

أدهشني استسلام "أولان" لمصائرها، ولكن كيف يكون لها قرار أو قدرة على الاعتراض وهي التي نشأت أمة لا حق لها في أي شيء؟ فبعد الثورة الصينية وأحداث الشغب واقتحام الفقراء لمنازل الأثرياء، سلّمت بخنوع لزوجها قرط اللؤلؤ الذي سرقته أثناء اقتحام أحد القصور، لكن مكافأته لها في النهاية كانت بإذلالها حين تزوج عليها "لوتس"، وخصّص لها في المنزل نفسه جناحاً تعيش فيه مع خادمتها الماكرة "كوكو"، وأغدق عليها النعم، هاجراً زوجته الأولى التي أصبحت كالخادمة في بيتها.

أخرج من عالم بيرل باك لألج عالم جراتسيا ديليدا. تسحبني صفحات روايتها "الأم" إلى خفايا المجتمع الإيطالي المتديّن وصراعات النفس البشرية بين شهواتها والمحرمات، عبر شخصية "ماريا" أم خوري كنيسة البلدة، الذي يعيش قصة حب مشتعلة مع عشيقته، وتصدم الأم لمعرفة الحقيقة، فتخوض صراعات داخلية وتفضل الهروب من البلدة، ويخوض ابنها صراعاً مع نفسه وحبيبته ليقطع علاقته بها.

سلاطين وجلادون وعبيد

في هذه المرة لم تكن الرحلة إلى الشرق الأقصى أو أوروبا في عصرها الوسط، بل عدت بالزمن إلى عصر السلاطين والأمراء والمماليك والجلادين والمظلومين والنخاسين.

من يكون ذلك المظلوم الذي ينتظر إعدامه عند أذان الفجر؟ ترى ما هي تهمته؟ وكيف يزهق الجلاد روحاً دون أن يعرف السبب؟ أيهما ينتصر في صراع القانون وسيف الجلاد؟ ماذا يحدث إن عاد السلطان عبداً مملوكاً يباع في المزاد العلني وينتظر قرار عتقه من غانية؟ كلها تساؤلات لاحقتني وأنا أحلق بين السطور.

هل يمكن أن يكره أحد الكتب إلى الحد الذي يدفعه لمطاردتها في كل مكان لإحراقها؟ كيف يمكن أن تغدو حياتنا دون كتب، وما عساها أن تكون خطورة كتاب؟ هل يمكن أن يصبح المستقبل مرعباً إلى هذا الحد؟... مجاز

لم أكن قد تجاوزت الثالثة عشر حين اكتشفت عمق قلم توفيق الحكيم. أسرتني مسرحيته "السلطان الحائر" فلم أفلتها حتى انتهيت منها مع تباشير الصباح الباكر، وساورني الفضول لقراءة المزيد من أعماله، فاقتنيت "زهرة العمر" و"عصفور من الشرق" و"أهل الكهف" و"يوميات نائب في الأرياف".

بساتين حالمة وشواطئ رحبة

وخلال مراهقتي علقت طويلاً مع عوالم يوسف السباعي الرومانسية الحالمة. كنت أنتقل بخفة الفراشة بين " إني راحلة"، "رد قلبي"، "بين الأطلال" و"نحن لا نزرع الشوك"، ثم أحلق في بساتين إحسان عبدالقدوس، بين "لا أنام"، "في بيتنا رجل"، "لا تطفئ الشمس" و"دمي ودموعي وابتساماتي".

أخذتني أمواج الحكايا إلى شواطئ نجيب محفوظ الرحبة، لأودع البساتين والورود واصطدم بصخرة الواقع، بين راهن المجتمع وسطور من التاريخ. كانت رحلتي الأولى مع "اللص والكلاب" وسط عالم من الجريمة والخطيئة والخيانة، وشخصية سعيد مهران الذي خرج من السجن باحثاً عن الانتقام ممن خانوه، لكن انتقامه يطال الأبرياء، لأحط بعدها في محطة جديدة مع "بداية ونهاية"، وأرافق أسرة  فقيرة في كفاحها بعد وفاة الأب. أتعاطف مع الأم المكافحة ومع الأخت "نفيسة" التي اضطرتها الظروف لتصبح عاهرة، بينما أكره أشقاءها الذكور الأنانيين، ومن "زقاق المدق" إلى "السكرية" و"قصر الشوق"، سحبتني دوامة محفوظ إلى الأعماق، فلم أخرج منها كما دخلتها من قبل.

التهام الكتب قبل أن يأتوا لحرقها

هل يمكن أن يكره أحد الكتب إلى الحد الذي يدفعه لمطاردتها في كل مكان لإحراقها؟! كيف يمكن أن تغدو حياتنا دون كتب، وما عساها أن تكون خطورة كتاب؟! هل يمكن أن يصبح المستقبل مرعباً إلى هذا الحد؟!

كل تلك التساؤلات كانت تدور في ذهني، بينما كنت أقرأ رائعة راي برادبري الشهيرة "451 فهرنهايت" وأنا ابنة الثانية عشرة، التي وجدت سلواها في الكتب ولم تجد سكينتها إلّا في المكتبات، ولم أستطع أن أجد لها إجابات حينها.

تفهمت موقف المرأة التي رفضت أن تغادر البيت حين أضرم رجال الاطفاء النار في كتبها وفضلت الموت مع الكتب. فكرت في أنه حال وقع حريق في البيت، سيصبح همي إنقاذ كتبي ومسودات كتاباتي.

لم أفهم ماهية الأنظمة القمعية وسر عدائها للثقافة والفكر ولا خطورة الكلمات والأفكار على الناس، لكن شهيتي للكتب ازدادت شراهة. نعم سأقوم بالتهام كل ما يقابلني من كتب قبل أن يأتي الاطفائيون، أمثال مونتاج، لحرق الكتب، وستحفظ ذاكرتي ما استطعت منها لأكون في صف المقاومة وننقل للبشرية الإرث الثمين. سأكون هناك حين تأتي طائرات العدو لقصف المدينة بقنبلة ذرية تمحو كل شيء، ثم سنبدأ من جديد في تشييد مستقبل أفضل.

الواقعية السحرية وعوالم ماركيز والليندي

كنت طالبة جامعية حين أغوتني عوالم ماركيز للدخول إلى بوابة الأدب اللاتيني والعيش في عالم من الواقعية السحرية، لأعود بالزمن إلى أواخر القرن التاسع عشر، في زمن الحرب الأهلية بمنطقة الكاريبي، وتفشي وباء الكوليرا الذي يحصد الأرواح، لأشهد على واحدة من أجمل وأغرب قصص الحب، بين رجل اسمه فلورينتينو أريثا، وامرأة تُدعى فيرمينا داثا، اشتعلت نيرانها منذ المراهقة واستمر تأججها حتى بلوغهما السبعين، وكأن الحب يزداد توهجاً كلما اقتربنا من الموت.

هل أخافتك رواية قرأتها ذات يوم إلى حد جعل أجوائها تتسلل إلى أحلامك لترهبك؟ حدث هذا لي حين قرأت "حكاية الجارية" للكندية مارجريت آتودد. أرعبتني فكرة أن تسلب حريتي في يوم وليلة، لأتحول إلى أمة مملوكة لأحد السادة المجانيين... مجاز

ومن "الحب في زمن الكوليرا" أطير إلى "مائة عام من العزلة"؛ حيث سيرة جنونية لرحلة عائلة كولومبية غريبة ومتشابكة، وسط أجواء غرائبية تمتلئ بالواقعية السحرية، عبر حياة ستة أجيال، بدءاً من خوسيه أركاديو، مروراً بزمن العزلة وعوالم الغجر والحرب الأهلية، حتى تفنى المدينة وعائلة آل بوينديا إلى الأبد.

شجعتني عوالم ماركيز على تذوق كلمات إيزابيل الليندي، فكانت رحلة من أجمل الرحلات أخذتني إليها عبر "منزل الأرواح"، حيث معزوفة لا تنسى من الواقعية والغرائبية والحب والهجر والفرح والشجن والمغامرة والثورة والألم والفقد والأمل، وحقبة مصيرية من تاريخ تشيلي في زمن السادة الإقطاعيين القساة والفلاحين المستعبدين المستباحين، ثم ثورة الفقراء وانقلاب الجيش والمجازر والقمع ونضال الطلاب. كنت أبكي تارة وأندهش تارة أخرى، وقلبي يخفق كطبول الحرب، وقد تماهيت مع أبطالها وسُحبت إلى عالمهم. حين انتهت صفحات الرواية أظنها لم تغادرني إلى اليوم، ولازالت شخوصها وأبطالها يحيون في ركن خفي من عقلي.

حين وقعنا سبايا للمتطرفين

هل أخافتك رواية قرأتها ذات يوم إلى حد جعل أجوائها تتسلل إلى أحلامك لترهبك؟ حدث هذا لي حين قرأت "حكاية الجارية" للكندية مارجريت آتودد. أرعبتني فكرة أن تسلب حريتي في يوم وليلة، وأن تسلب حياتي وأنتزع من بين زوجي وأطفالي، لأجد نفسي أتحول إلى أمة مملوكة لأحد السادة المجانيين في مجتمع دموي متطرف يستبيح أجساد وحيوات النساء باسم الدين.

جعلتني أحداث الرواية الديستوبية أحلم بأن مدينتي وقعت في أيدي مسلحين متطرفين أسروا رجالنا وقاموا بسبينا نحن النساء. كان الأمر جد مرعباً ومؤلماً.

ومن بين مئات الروايات والكتب التي قرأتها في حياتي، بعضها لازال حياً بداخلي، بينما تطايرت كلمات البعض الآخر أسرع من الدخان.

وحدها تلك الكتابات التي تستفز عقولنا وتزرع فيها التساؤلات، أو تلك التي تثير دهشتنا وحيرتنا أو تؤجج مشاعرنا وتجعل دموعنا تسيل لأجل أبطالها، هي التي تعيش فينا للأبد ولا يمحوها النسيان.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard