"عملتُ ممرضاً رئيساً أوّلاً طوال 40 سنةً، 20 منها في وزارة الصحة السعودية والعشرون المتبقية في وزارة الصحة التونسية وتقاعدتُ من العمل قبل عام"، يقول محمد ساسي الزريبي، ابن محافظة سيدي بوزيد وسط غرب البلاد، لرصيف22.
بعد مغادرته وظيفته في القطاع العمومي، فكّر محمد ساسي (61 سنةً)، في فعل شيء يلهيه ويجعله قريباً من مهنته السابقة، فاستفاد من امتلاكه شهادةً دولةً في التمريض وفتح عيادة تمريض خاصةً وصغيرةً.
يشار إلى أنه صدر في الجريدة الرسمية التونسية، يوم 14 حزيران/ يونيو 2022، أمر رئاسي عدد 542 لسنة 2022، يتعلّق بضبط الفئات المعنية وإجراءات وصيغ وآجال تطبيق البرنامج الخصوصي للإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية المحددة في 62 سنةً.
وفق هذا الأمر، لا تتمّ الإحالة على التقاعد إلا عند بلوغ 57 عاماً على الأقل، ويتم التمتع بالجراية (المعاش) بصفة فورية ابتداءً من تاريخ الإحالة على التقاعد.
ويتكفّل المشغل بمبالغ الجرايات (المعاشات)، وكذلك بالمساهمات الاجتماعية طوال المدة الفاصلة بين تاريخ الإحالة على التقاعد وبلوغ السن القانونية له، أي 62 عاماً.
"حرّ أكثر"
"يُخيَّل للمتقاعد أول مرة بعد التقاعد، وكأنه سيدخل في سن يأس وسيكون عديم الفاعلية والجدوى وانتهت صلاحيته ولكني والحمد لله شعرت وكأني بدأت فترةً جديدةً من المهنة أكتسب فيها خبرات جديدةً أكتشفها في عيادتي الصغيرة وحدي وكان التقاعد إيجابياً لي وأصبحت حراً أكثر من حيث التخلص من القيود الإدارية التي كانت تحكمني"، يوضح الزريبي.
أصبح بإمكان الزريبي السفر والنوم وقتما يشاء بالرغم من التزامه بعمله الخاص الجديد، إذ كان يعمل في الوظيفة العمومية لمدة 6 ساعات، بينما يقضي اليوم 12 ساعةً في مشروعه الخاص.
"يُخيَّل للمتقاعد أول مرة بعد التقاعد، وكأنه سيدخل في سن يأس وسيكون عديم الفاعلية والجدوى وانتهت صلاحيته"
بعد تقاعده، كانت أسرة محمد ساسي، تنتظر "الرجل المتقاعد الغول في البيت، العائد إليهم بقوة والذي سيتدخل في أدق التفاصيل وفي كل شيء (الخرنان)، ولكن الحمد لله وجدوا العكس فأنا أعمل وظلوا هم على جري عادتهم"، يضيف مازحاً.
يعدّ نفسه محظوظاً لأنه يتقاضى راتبه من الدولة بعد مغادرته وظيفته، ويرى أن المتقاعد في تونس "بصورة عامة يتمتع براتب محترم خاصةً أنه يكون قد انتهى من التزامات تربية الأطفال وبناء مسكن واقتناء سيارة ويكون في حال أفضل وأن غالبية المتقاعدين لهم أشغال ثانية زراعية أو تجارية".
منظومة التضامن الاجتماعي
تُعدّ تونس من أوائل الدول العربية التي أرست منظومة الضمان الاجتماعي (المعاشات)، وللانتفاع من أحد الأنظمة القانونية للضمان الاجتماعي، لا بد من توفّر شرط اكتساب الشخص لصفة المشتغل سواء كان أجيراً أو غير أجير، أو ناشطاً في أحد القطاعات المهيكلة، سواء في القطاع الخاص أو العمومي.
تشرف ثلاثة صناديق اجتماعية (مؤسسات عمومية تعمل تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية) في تونس، على التصرف في أنظمة الضمان الاجتماعي، وهي الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتأمين على المرض.
بالنسبة إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، فيتصرّف في أنظمة التغطية الاجتماعية في القطاع العمومي لفائدة أعوان الدولة والمؤسسات والمنشآت العمومية والشركات الوطنية والدواوين.
"كانت عائلتي تنتظر الرجل المتقاعد الغول في البيت، العائد إليهم بقوة والذي سيتدخل في أدق التفاصيل وفي كل شيء (الخرنان)، ولكن الحمد لله وجدوا العكس"
يسدي هذا الصندوق جملةً من الخدمات لفائدة المنخرطين فيه حسب خصوصية كل نظام قانوني من بينها صرف جرايات التقاعد (معاشات) للمتقاعدين وإسناد قروض شخصية للمنخرطين النشيطين.
أما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فيشرف على التصرف في 9 أنظمة قانونية للضمان الاجتماعي موجهة إلى المهنيين في القطاع الخاص، ويسدي جملةً من الخدمات للمنخرطين فيه أبرزها المنافع العائلية وتشمل المنح العائلية ومنحة الأجر الوحيد ومنحة الراحة (عطلة) بمناسبة مولود جديد، ومنحة الراحة للعمال الصغار. كما يقدّم معاشات الشيخوخة والعجز للأجراء وغير الأجراء.
أما الصندوق الوطني للتأمين على المرض، فيتولى التصرف في منظومة التأمين على المرض الموحدة والموجهة إلى المضمونين الاجتماعيين المنتمين إلى القطاعين العمومي والخاص، ويمكّن من النفاذ إلى المرافق الصحية العمومية والمؤسسات الصحية الخاصة ويسدي خدماته إلى المنخرطين فيه.
في المقابل، ينتقد الزريبي عدم استفادة الدولة التونسية من تجارب متقاعديها، ويقول إن دول الخليج العربي تلقّب موظفيها المتقاعدين بالاستشاريين، وتعيدهم إلى وظائفهم السابقة، وفق صيغة التعاقد وتستفيد من خبراتهم استفادةً قصوى.
نكران واستغلال
أما في تونس، "فإن المتقاعد ينتهي بانتهاء مهنته ويودعونه من الباب دون رجعة وحتى عند زيارته لإدارته يرى نظرات غير مريحة من زملائه السابقين الذين ما زالوا يعملون وهو من علّمهم المهنة. هناك نكران من طرفهم ومن الدولة تجاه المتقاعد"، يؤكد الزريبي.
كما ينتقد عدم وجود جمعيات معروفة في تونس تعتني بالمتقاعدين وتستفيد من خبراتهم الطويلة في كافة المجالات حتى في القطاع الخاص "الذي حتى إن أراد الاستفادة من المتقاعد فسيستغله فقط".
بالنسبة إلى نظرة المجتمع التونسي إلى المتقاعد، فيصفها محمد ساسي، بالدونية، لأنه يردد على مسامع المتقاعد جملة "أنت تقاعدت ماذا بقي منك؟"، و"هي عبارة جارحة تؤثر سلباً في نفسية المتقاعد مهما كانت قوة شخصيته، وكأن المجتمع ينظر إليه كعديم فائدة وهي ثقافة كاملة متواترة من الدولة والزملاء إلى المجتمع"، يختم.
المتقاعد ينتهي بانتهاء مهنته ويودعونه من الباب دون رجعة وحتى عند زيارته لإدارته يرى نظرات غير مريحة من زملائه السابقين الذين ما زالوا يعملون وهو من علّمهم المهنة"
في محافظة سيدي بوزيد، تعيش مريم (اسم مستعار)، التي عملت لمدة 16 عاماً في شركة خاصة لإلكترونيك السيارات فرع ألماني متركز في محافظة سوسة الساحلية، وتقاعدت سنة 2020.
على عكس محمد ساسي الزريبي، ابتعدت مريم (53 سنةً)، تماماً عن الحياة المهنية وعادت للعيش في منزل والديها، لأنها مطلقة وليس لديها أبناء.
"جاء في وقته"
منذ مغادرتها عملها، لا تمارس أي مهنة أخرى، وهي سعيدة بتقاعدها، وترى أنه جاء في وقته، وكان له تأثير إيجابي كبير عليها لأنه أراحها جسدياً ونفسياً بعد سنوات طويلة من التعب، ومنحها الوقت لتعتني بنفسها وبأسرتها، توضح لرصيف22.
تتقاضى مريم جراية التقاعد (المعاش) من الدولة، وتعتمد عليها في إعالة نفسها ومساعدة عائلتها وتنتقد غياب الإحاطة النفسية من الدولة بالمتقاعدين والاستغناء عنهم بمجرد انتهاء وظائفهم.
في المقابل، ترى مريم أن المجتمع التونسي ينظر نظرة احترام وتقدير وتبجيل إلى المتقاعد اعترافاً له بالجميل لسنوات الخدمة التي قدّمها للصالحيْن العام والخاص.
يتجاوز عدد المتقاعدين في تونس مليوناً و100 متقاعد من بينهم أكثر من 330 ألفاً في القطاع العام، وأكثر من 700 ألف في القطاع الخاص، يوضح الكاتب العام للجامعة العامة للمتقاعدين التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأولى في تونس)، عبد القادر الناصري، لرصيف22.
يبلغ الأجر الأدنى المضمون 460 ديناراً (نحو 160 دولاراً)، ويُقدَّر معدل جرايات (معاشات) القطاع العمومي بالنسبة إلى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بـ1600 دينار، بينما يصل معدل جرايات القطاع الخاص إلى 600 دينار.
دون المأمول
مادياً، يقول الناصري إن نسبةً كبيرةً من المتقاعدين في تونس، يعانون لأنهم يحصلون على جرايات تقاعد ضعيفة ودون المأمول، تتراوح بين 180 و230 ديناراً، وهي أقل من الأجر المضمون المحدد.
برأي المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه، فإن نظام التقاعد في القطاع العمومي الذي تبنّته الدولة التونسية من خلال كل حكوماتها المتعاقبة بعد الاستقلال، "يضمن لكل الموظفين معاشاً تقاعداً يكفل عيشهم بكرامة بعد انقطاعهم عن النشاط في القطاعين العمومي والخاص، بقطع النظر عن قيمة هذه الجراية المادية".
أما متقاعدو القطاع الخاص، "فيعانون بسبب تلاعب أرباب العمل طوال سنوات المساهمة الشهرية في جراية التقاعد لموظفيهم المساكين الذين يكتشفون هذا التلاعب بعد 40 سنةً من العمل، وهي ممارسة منحرفة ومخالفة للقانون، ولكن الجميع يعلم بها وينكرها للأسف"، يقول لرصيف22.
عن طريقة استقبال المتقاعد التونسي لمرحلة جديدة من حياته، يوضح الفقيه أنها تختلف من شخص إلى آخر، وحسب التعقيدات الصحية، إذ ينخرط المتقاعدون الذين يتمتعون بصحة جيدة ودخل متوسط في أنشطة أخرى، سواء كانت مشاريع عائليةً أو زراعيةً أو مهناً أخرى يرغبها أرباب العمل نظراً إلى تمتّع المتقاعدين بالخبرات اللازمة وعدم امتلاكهم مطالب كبيرةً من حيث الأجر والمصاريف الأخرى.
يضيف أنه عادةً ما تكون مهنة المتقاعدين الثانية في السوق السوداء غير منظمة وغير معلنة، "وهو ما يفسر رغبة رب العمل في التعامل معهم وغض الطرف عن مردودهم في بعض الأحيان إذ يكون أقل بكثير من مردود شاب في مقتبل العمر".
دور الأسرة والمجتمع والدولة
في ما يتعلق بطريقة تعامل كل من الأسرة والمجتمع والدولة مع المتقاعد، يرى المتخصص في علم النفس، أن الأسرة "عادةً ما تحرّض المتقاعدين الذين هم في صحة جيدة على تعاطي نشاط آخر مدرّ للدخل وله فوائد معنوية للمتقاعد من حيث إحساسه بقيمته وحتى ينشغل في العمل ولا يبقى في المنزل، ليكتشف عيوباً لم يرَها في السابق".
أما المجتمع، "فللأسف لا يوفر إلى حد الآن، وبصفة عامة ومنتظمة، أنشطةً للمتقاعدين، كما أن غالبية الأنشطة الترفيهية الموجودة اليوم ليست سوى مبادرات شخصية وفردية ومجموعات صغيرة ونوادي زمالة في المهن، فيما يحتاج المتقاعدون إلى الانتماء والانتظام في أنشطة أخرى تشعرهم بامتلاكهم هامشاً من العطاء، ما يمكّن المجتمع من الاستفادة منهم سواء في علاقة ربحية أو مجتمعية"، يؤكد.
يؤكد الكاتب العام للجامعة العامة للمتقاعدين، أن المتقاعدين التونسيين يضمون كفاءات عاليةً وطاقات مهدورةً في كافة المجالات
ينتقد عبد الباسط الفقيه، بشدة، عدم انخراط نسبة كبيرة من المتقاعدين في أعمال تطوعية ما زال المجتمع بحاجتها مقابل "انخراطهم اليومي في المقاهي والتسكع حول مراكز التسوق أو التردد على مراكز الاستشفاء للمعالجة".
وبالنسبة إلى الدولة، فيعدّها "منسحبةً تماماً من هذه المسألة، وأقصى ما تفعله دعوة الناس إلى الانخراط في جمعيات بلغ عددها اليوم 25 ألف جمعية، ولكن غالبيتها جمعيات مدارس ابتدائية".
كما يرى أن الدولة التونسية غير معنية بقيمة متقاعديها المعنوية، وأنها من مهام المجتمع الذي يجب أن "يوفر مؤسسات مجتمعيةً (أهليةً) تحضن المتقاعدين وتستفيد من خبراتهم، وتوظف أغلبهم في مشاريعها، وتحثهم على إفادة المجتمع من إمكانياتهم وليس بالضرورة بالمال، وإنما بتطوعهم وباستشارتهم وانخراطهم في قضايا مجتمعية مهمة كقضايا البيئة".
ويشدد على حاجة المتقاعدين إلى دور في المجتمع، "لأن الجلوس أمام التلفاز أو في المقهى لا يشبع شخصاً قضى 40 سنةً في المكتب، ولديه جملة من الأعمال يقوم بها، لذلك وجب إحياء الأدوار التي تتقلص بالنسبة إلى كبار السن، وضخ خبراتهم في أنشطة فعالة ومجدية للمجتمع، وجعلهم يشعرون بمنفعتهم، ما يدفعهم إلى مزيد من الانخراط وزيادة المشاريع والوقوف على مواضيع مفيدة للمجتمع".
طاقات مهدورة
بدوره، يؤكد الكاتب العام للجامعة العامة للمتقاعدين، أن المتقاعدين التونسيين يضمون كفاءات عاليةً وطاقات مهدورةً في كافة المجالات، وأن الدولة وكافة أجهزتها لا تستغل خبراتهم حتى استشارياً، ولا توليهم الأهمية التي يستحقونها.
وأشار إلى تواصل الجامعة بعد الثورة مع مؤسسات وطنية عدة، وعرضها خدمات مجانيةً للاستفادة من خبرات متقاعدين من دون حصولهم على إجابة، متحدثاً عن "تراجع" بعض القطاعات اليوم بسبب نقص الخبرات الضرورية.
حتى عقلية المواطن التونسي بصورة عامة، يرى عبد القادر الناصري، أنها لا تعتني بالمتقاعد، "فالمواطن لا يريد رؤية المتقاعد بعد نهاية مسيرته المهنية"، يؤكد.
وأكد أن مطلب الجامعة العامة للمتقاعدين يتلخص في ألا تكون منحة الجراية والشيخوخة أقل من الأجر المضمون الأدنى المحدد بـ460 ديناراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع