"كذلك حنايا المعلّقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائها وتستجيد الصنّاع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيّام العديدة، ولا يسقط الصّغير من جدرانها إلّا بعد عصب الرّيق وتجتمع له المحافل المشهورة. شهدت منها في أيّام صباي كثيراً"؛ هكذا وصف العلامة ابن خلدون في كتابه "العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، صمود الحنايا الرومانية في تونس في وجه جميع من حاولوا تهديم هذا المركب الهيدروليكي الفريد وطمس معالم المدينة.
الحنايا الرومانية هي عنوان الشموخ والصمود، تختزل بين أقواسها تاريخاً عريقاً وتشهد على حضارات تعاقبت على تونس، ولم تخضع لمحاولات تهديمها، وأبت إلا أن تظل شامخةً في عليائها تروي تاريخاً عريقاً عاصرته وتشهد على إحدى عجائب المعمار وعظمة الرومان.
هذه الهياكل الأثرية الممتدة على مسافات طويلة، وصفها الرحالة "ابن أبي دينار"، بأهرامات تونس، إعجاباً بعظمة هذا الجسد الأثري، ويُروى أن عدد الأحجار التي استُعملت في تشييد "الحنايا" يتجاوز بكثير عدد أحجار الأهرامات المصرية.
لنقل الماء من زغوان إلى قرطاج
تنطلق "الحنايا" من مدينة "زيكوا" (زغزوان حالياً)، التي تقع في الشمال الشرقي لتونس، وقد استمدت هذا الاسم من الجبل الراسي في المنطقة والمعروف بثرائه بالعيون العذبة، ويبلغ طول جبل "زيكوا" وفقاً للتسمية الرومانية 9 كلم، فيما يبلغ ارتفاعه 1،295 متراً، وقد شيّد الرومان معبد المياه على سفح الجبل في شكل نصف دائري، وقدّسوا فيه المياه المنهمرة من أعالي الجبال.
بيّنت الباحثة في المعهد الوطني للتراث، الدكتورة منية عديلي، أن الإمبراطور الروماني "أدريانوس"، عند زيارته تونس سنة 128 ميلادي، لاحظ وجود جفاف. وبما أنه كان يتنقل دائماً مصحوباً بمهندسين، أمر بتشييد "الحنايا" لنقل الماء من زغوان، وتحديداً من معبد المياه، إلى قرطاج. وحسب المتفق عليه، فإن تشييدها استغرق نحو 40 سنةً، وأشارت إلى أن معبد المياه لم يكن المنبع الوحيد، بل يرد الماء إلى الحنايا من "عين جوقار" وبعض العيون الأخرى، ثم تلتقي فروع قنوات المياه في منطقة "مقرن" وتمرّ "الحنايا" عبر منطقة المحمدية ثم منوبة وصنهاجة وواد الليل وحي التضامن، وباردو2 ومدينة العلوم ثم أريانة والمطار وسكرة، لتصل إلى قرطاج.
الحنايا الرومانية هي عنوان الشموخ والصمود، تختزل بين أقواسها تاريخاً عريقاً وتشهد على حضارات تعاقبت على تونس، ولم تخضع لمحاولات تهديمها، وأبت إلا أن تظل شامخةً
أضافت محدثة رصيف22، أن المسافة بين منطقتي زغوان وقرطاج تُقدَّر بـ62 كلم تقريباً، لكن الحنايا تمتد على مسافة 132 كلم لأن التقنيات الحديثة التي تضخ الماء من الأسفل إلى الأعلى، لم تكن متوفرةً آنذاك، في حين أن الماء يجب أن يكون بمعدل سرعة معيّن منذ أن يخرج من زغوان إلى أن يصل إلى قرطاج. وللحفاظ على تلك السرعة، تم تشييد "الحنايا" فوق الأرض وتحت الأرض وأحياناً على أقواس، ويبلغ طول الحنايا المبنية على أقواس 17 كلم.
أضافت الباحثة أن أهم عنصر في "الحنايا"، هي القناة التي تنقل الماء، والتي يبلغ ارتفاعها 80 سنتمتراً وعرضها 50 سنتمتراً كذلك الارتفاع الشاهق للأقواس إذ يبلغ ارتفاعها عن "وادي مليان" 20 متراً. وعن تقنيات البناء شرحت المتحدثة أن أقواس وأعمدة الحنايا مبنية بالحجارة الكبيرة، ومن الداخل مبنية بالحجارة الصغيرة، عادّةً أنها مهمة جداً من الناحية الهندسية لأنه ليس بالهيّن جلب الماء بمعدل ثابت من زغوان حتى قرطاج.
"الحنايا"، هي القناة التي تنقل الماء، والتي يبلغ ارتفاعها 80 سنتمتراً وعرضها 50 سنتمتراً كذلك الارتفاع الشاهق للأقواس إذ يبلغ ارتفاعها عن "وادي مليان" 20 متراً
وبيّنت العديلي، أن الأدوات المستعملة في تشييد الحنايا لا تختلف عن الموجودة حالياً، وهي السِّقالات والأحزمة والأهم من ذلك، تقنية البناء واستعمال الحجارة الكبيرة، إذ وُضع بينها خليط يُستعمل بالتحديد في المعالم المائية، ويتكون من نوع من الإسمنت وغبار الفخار المهروس ولا تسمح هذه الخلطة للماء بالتسرب.
ترى الباحثة أن الحضارة الرومانية تُعرف بحضارة الحجارة والمياه، إذ طوّعت الحجارة لتشيد معالمها، خاصةً المائية منها، لافتةً إلى أن التجربة ليست جديدةً على الرومان، لأن مدينة قرطاج أُسست في القرن الثاني بعد الميلاد، في حين أن روما شيّدت "الحنايا" قبل الميلاد، وتالياً التجربة موجودة والأدوات تم استعمالها من قبل.
كما أفادت الباحثة بأن المتفق عليه هو أن الحنايا شُيّدت لتغذية مدينة قرطاج ولجلب الماء إلى خزانات المياه الرومانية في قرطاج، "خزانات المعلقة" و"حمامات أنطونيوس"، لكنها كباحثة في الآثار والمعالم المائية، تطرح نقطة استفهام: "إلى أين تتجه الحنايا تحديداً؟"، مبيّنةً أنه بالنظر والتدقيق في الموقع الأثري القرطاجي يلاحَظ أن الحنايا تمر أمام "الخزانات المعلقة" أي أنها تواصل طريقها إلى وجهة أخرى غير معلومة.
ويصف الشريف الإدريسي، في كتابه "كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، انسياب الماء بمعدلات ثابتة في الحنايا، قائلاً: "ومن عجائب البناء بقرطاجنة الدواميس التي يبلغ عددها أربعة وعشرين داموساً في سطر واحد، طول كل داموس مئة وثلاثون خطوةً في عرض ست وعشرين خطوةً، ولكل داموس منها أقباء في أعلاه وبين كل داموس منها وصاحبه أثقاب وزراقات تصل منها المياه من بعض إلى بعض، كل ذلك بهندسة وحكمة وكان الماء يجري إلى هذه الدواميس من عين شوقار التي هي بقرب القيروان وطول مسافة جري هذا الماء من العين إلى الدواميس ثلاث مراحل، وكان جري الماء من هذه العين إلى هذه الدواميس على عدة قناطر لا يحصى لها عدد وجري الماء بوزنة معتدلة وهذه القناطر قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيراً وما كان منها في بطن الأرض وأخاديدها كان في نهاية العلو، وهذا من أغرب شيء أبصر على وجه الأرض والماء في وقتنا هذا مقطوع عن هذه الدواميس لا يصل إليها منه شيء كل ذلك أوجبه خراب مدينة قرطاجنة ومع ذلك إنها من يوم خرابه".
ترميم "الحنايا"
تفيد مصادر تاريخية بأن تهديم قناة قرطاجنة بدأ في عهد القائد العربي حسان بن النعمان، وقد أجازت فتاوى ذلك الاعتداء على الحضارات التي سبقت مجيء الإسلام.
تشير منية العديلي، إلى أن الحروب التي مرت بها مدينة قرطاج، كانت السبب المباشر في تهديم أجزاء مهمة من الحنايا، ففي كل هجوم يتم قطع الماء عن قرطاج، وهي تقنيات كانت تُستعمل في الحروب قديماً، وقد حدث ذلك مع الوندال والبيزنطيين وحتى مع العرب الفاتحين. لكن في العهد الحفصي، وتحديداً مع المستنصر بالله الحفصي، في القرن الهجري السابع، أمر المستنصر باستصلاح "الحنايا" لجلب الماء، لكن ليس إلى مدينة قرطاج، فقد تم استصلاحها من زغوان إلى مدينة باردو، وكان يُسمى الخط الروماني، لكن عندما تم ترميمه أصبحت التقنيات الجديدة عربيةً.
وصفها ابن خلدون منبهرا بتعقيد هندستها التي تعود إلى عصر الرومان وما زالت قائمة إلى اليوم. الحنايا رمز لغنى التاريخ والعمران في تونس
وبيّنت الباحثة أن "الحنايا" عند وصولها إلى مدينة "باردو"، يخرج فرع منها من القناة الرومانية إلى جامع الزيتونة، ويمرّ بمناطق "برج زوارة" و"الرابطة" و"باب سعدون"، وصولاً إلى الجامع. أما القناة الثانية، فتم توجيهها إلى برج كان موجوداً في منطقة "راس الطابية"، لكن مكانه غير محدد بعد، وهناك فرع آخر تم توجيهه إلى "جنان أبي فهر"، لأن السلاطين الحفصيين شيّدوا قصوراً في تلك المنطقة، وكانت المياه تغذّي قصورهم.
ويصف العلامة ابن خلدون، طريقة ترميم "الحنايا" في العهد الحفصي في "المقدمة"، قائلاً: "منها البناء بالتراب خاصّة يتّخذ لها لوحان من الخشب مقدّران طولاً وعرضاً باختلاف العادات في التقدير وأوسطه أربعة أذرع في ذراعين فينصبان على أساس وقد بوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر ويسدّ الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثمّ يوضع فيه التراب مخلطاً بالكلس ويركّز بالمراكز المعدّة حتّى ينعم ركزه وتختلط أجزاؤه ثمّ يزاد التراب ثانياً وثالثاً إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحين، وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسماً واحداً، ثمّ يعاد نصب اللوحين على الصورة ويركز كذلك إلى أن يتمّ وينظم الألواح كلها سطراً من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كلّه ملتحماً كأنّه قطعة واحدة ويسمّى الطابية وصانعه الطوّاب".
وبيّنت العديلي أن الجزء القديم من "الحنايا" الذي لم يُستصلح، يمتد من "مدينة العموم" إلى قرطاج، لكن الجزء الذي لا توجد حوله الكثير من المعلومات في مدينة سكرة، من المنتظر أن يصدر مقال حوله في مجلة معهد التراث.
اعتداءات متكررة
على الرغم من القيمة التاريخية والأثرية الثابتة للحنايا، إلا أنها تتعرض للاعتداء والهدم في أكثر من مناسبة. وقد عاينت وزيرة الثقافة في الخامس من شهر حزيران/ يونيو الماضي، هذا المعلم الأثري الروماني على مستوى مدينة "سكرة"، وذلك إثر عمليات الهدم والنبش ونقل الأحجار التي طالته إلى جانب خطر التوسع العمراني.
كما شهدت الحنايا على مستوى منطقة "المحمدية" في سنة 2018، اعتداءً صارخاً تمثّل في تهديم جزء مهم منها على خلفية الفيضانات التي شهدتها المنطقة، وقد ندّدت وزارة الثقافة بهذا الاعتداء. بالإضافة إلى الأضرار المتعمّدة، فإن محيط الحنايا في العديد من المناطق غير مهيأ، ما يثير حفيظة المهتمين بآثار البلاد.
ورداً على الحديث عن إهمال "الحنايا"، تقول الباحثة منية العديلي: "أنا ضد كلمة إهمال. هناك أشياء لا يراها الباحث في الآثار والمواطن العادي بالنظرة نفسها. الآثار ليست بناءات جديدةً يجب أن تكون في أحسن صورة. الآثار تختزل تاريخاً، حتى التهديم فيه تاريخ نريد المحافظة عليه. إذا رأينا حجارةً على الأرض، فلا يعني ذلك أنها مهملة. هناك اعتداءات تحدث وأعترف بها لكن الحديث عن إهمال، كلمة كبيرة في حق الباحثين وتاريخ البلاد. تشير كلمة الإهمال إلى سياسة عامة، لكن هذا منافٍ للصواب فقد أُجري ترميم حديث العهد للحنايا في منطقة المحمدية، وأشرف عليه معهد التراث".
كما لفتت العديلي، إلى أن الحديث عن الإهمال يعطي فرصةً للمتربصين للنبش في الآثار والمس بها، كما أن الحديث عن الكنوز في الآثار، رسالة تشجع المواطن البسيط على البحث عنها، وتالياً يتم الإضرار بالآثار من دون قصد.
وأشارت الباحثة إلى أن حجارة الحنايا المهدمة تم استعمالها في العهد الحفصي، لبناء المدينة العتيقة في تونس العاصمة، عادّةً أن الحنايا الرومانية هي تاريخ تونس.
جدير بالذكر أن معلم "الحنايا" مصنّف ضمن القائمة التمهيدية للتراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون