شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أنا امرأة وحيدة ومستمتعة بوحدتي

أنا امرأة وحيدة ومستمتعة بوحدتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

(تصفيق)... كان الممثل المسرحي ينحني أمام الجمهور في نهاية العرض.

تلك اللحظة، وإن كانت أيادي الحاضرين منهمكة، فإن عيونهم بدت وكأنها شاخصة إلي، كأن بطولة العمل باتت على مقعدي كمتفرجة لا على خشبة المسرح.

هي بطولة لا أرغب بها، تلتهم بضعة من مساحة خاصة، خاصة جداً.

لا يتقبل المجتمع وحدتنا في المساحات العامة بسهولة.

كيف لا؟ فأنا أجسّد في تلك اللحظة حالة الفتاة التي تجلس وحدها، تشاهد المسرحية، تضحك بمفردها. بلا حبيب، بلا رفيق، بلا أهل أو أصدقاء. فهذا البديهي، والبديهي جداً، قد بات جاذباً لعيون الحاضرين ومحركاً لمخيلاتهم، وكأنّني اقتحمت بوحدتي مجتمعاً تستفزّه البديهيات.

في لحظة، في ثانية، في برهة، دفعتني أعين الحاضرين من مقعدي إلى مشرحة المجتمع التقليدية، وتحولت من كائن يستمتع بوقته إلى وعاء لأفكارهم.

خرجت من المسرح، التهمت لوح "أونيكا"، وبسطت يدي اليسرى لحبات المطر، ورميت باليمنى غلاف لوح الشوكولا، وأفرغت الوعاء في مستوعب النفايات.

محض هراء يتكرّر مجدداً...

ذات يوم كنت ألتهم وجبة طعام على طاولة مطعم بمفردي، وتحولتُ بلحظة الى طبق رئيسي لهمسات وغمزات رواده... يا لوحدتنا كم تستفزّ هذا المجتمع!

"حرام عم تاكل لوحدها، ما حدا معها": هذا كان يشفق. "مين ناطر الحلو": آخر وجد فرصته حينها. كلهم مرّوا دون أن يعلموا أن تلك اللحظة كانت تمنحني متعتي في مشاهدة الشيدر السائحة تنسكب فوق قطعة الهمبرغر. تلك المتعة كانت تحجب محاولاتهم، وتحيل كياناتهم إلى أشباح تحوم فوق صحن شيز برغر.

نحن كوحيدات، مستمتعات بوحدتنا، مجرّد ساحرات بعصا خيالية نضرب بها ليختفي كل هذا أمامنا، ولنستبيح الطرقات والشوارع، ونأكل الشوكولا ونرمي أوراقها وأفكار المجتمع في مستوعب النفايات

لا يتقبل المجتمع وحدتنا في المساحات العامة بسهولة. تمضية الوقت مع الذات، والاستمتاع به، هي حالة غير شائعة ربّما، ولكنها حتماً ليست نادرة أيضاً. هو نفسه المجتمع الذي باستطاعته أن يكون وحيداً في أبسط حالات "العادة السرية"، مستمتعاً في تلك النشوة الصافية.

يا له من مجتمع يبتلع العادة الفردية ويرفض وحدتنا العلنية!

وحدتنا ليست هروباً من الحياة، هي راحتنا وحريتنا الفردية من ضجيجها.

الحدائق مشاع لنا ومقاعدها، وهذه شوارعنا، وأرصفتنا هي ملاعب حريتنا، نستمتع بها ونختلي وسطها بالهواء. هذه لحظات نستردّها من محمود درويش سرّاً وفي داخلنا رغبة في الصراخ: "هذا الهواء لي، لي وحدي".

يكفي أن تجلس امرأة وحدها كي ينتج المجتمع خلفها آلافاً من صناع الدراما، يحيكون السيناريوهات وتعجّ مخيلاتهم بالأسباب التي تقف خلف فردانية هذه الأنثى. يا لهشاشة مجتمعاتنا: "عنّست، وخلّي التكبر يفيدها"، " ما العلّة فيها التي جعلتها تقصد السينما بمفردها؟".

مجتمع يخاف فردية المرأة وكأنها جيش مرعب. السؤال هنا: أيهما أكثر رعباً لهذا المجتمع، وحدتنا أم الحرية في تلك الوحدة؟

غداً، سوف أسير لوحدي، ألتهم كعك الزعتر على مقعد في حديقة الصنائع وحدي، وأبتسم دون رفيق.

أما "السِلفي" فسألتقطها أمام البحر في يوم شتوي، وبين ذراعي موجة من أمواج عين المريسة العالية، لا حبيب.

سيأتي طبق واحد من الهمبرغر مجدداً، لا طبقين، وأفترش شالي تحت شجرة في جزين، برحلة دون عائلة.

وفي الملاهي، سأسجل رقماً جديداً على آلة البوكس، متحدية نفسي، لا صديقتي.

يكفي أن تجلس امرأة وحدها كي ينتج المجتمع خلفها آلافاً من صنّاع الدراما، يحيكون السيناريوهات وتعجّ مخيلاتهم بالأسباب التي تقف خلف فردانية هذه الأنثى. يا لهشاشة مجتمعاتنا

وحدتنا وحريتنا لنا وحدنا، وإن سمعنا عبارة "الوحيدة"، "المعقدة"، "الانطوائية"، "اللاحبيب لها"، "اللاعائلة لها"، "المعانية من فراغ عاطفي". كل تلك التحليلات، يلزمني نصي هذا ألا أصفها كما أصفها حين أكون لوحدي.

أنها ظاهرة قديمة في مجتمعاتنا العربية. كبرنا، واعتدنا على النميمة، التحليل وإصدار الأحكام. لا يمضي يوماً دون أن تتهمنا أعين الناس بما ليس فينا، وتديننا بمواقف نحن براء منها.

كنت أصرخ دون صوت لأسقط عني التهم، فتصبح جبهتي حمراء اللون، مزينة بحبيبات العرق الناجم عن التوتّر. أما الآن فقد تعلّمت ألّا أهتم لآرائهم، فهم لن يتوقفوا عن الكلام مهما فعلت وكيفما تصرفت. هكذا هم البشر، يتدخلون فيما يعنيهم ولا يعنيهم. إذا كنا بمفردنا أصبحنا بعيونهم منبوذين، والوجود مع مجموعة يتحوّل إلى "طيش"، والتواجد مع حبيب يعني التعدّي على القواعد الأخلاقية. حتى الاختفاء كفيل بولادة تحليلات ليناسب غيابنا!

وبالمناسبة لست وحيدة البتة، لدي ما يكفي من الأصدقاء والمعارف لكنني أهوى ما لا يهواه الكثيرون، كحضور ندوة عن تاريخ لبنان، أو ورشة عمل عن مهارات التواصل، أو محاضرة عن الصحة العقلية والنفسية، كلقاء عن أجسادنا، عن الحقوق الإنجابية، عن الحريات الجنسية… مشارِكة، مصغية.

وحدتنا وحريتنا لنا وحدنا، وإن سمعنا عبارة "الوحيدة"، "المعقدة"، "الانطوائية"، "اللاحبيب لها"، "اللاعائلة لها"، "المعانية من فراغ عاطفي". كل تلك التحليلات، يلزمني نصي هذا ألا أصفها كما أصفها حين أكون لوحدي

لست على مسافة من تقبل أي شريك لاهتماماتي، كل ما في الأمر أنني لا أسعى لهذا ولا أمانعه.

نحن كوحيدات، مستمتعات بوحدتنا، مجرد ساحرات بعصا خيالية نضرب بها ليختفي كل هذا أمامنا، ولنستبيح الطرقات والشوارع، ونأكل الشوكولا ونرمي أوراقها وأفكار المجتمع في مستوعب النفايات.

كسر التابوهات ومخالفة ما هو تقليدي ليس بالأمر السهل. الانتصار على نظرات الناس يحتاج إلى شجاعة لم أكن أعلم أنها بداخلي. وبمجرد أن أخذت الخطوة، وانطلقت وحدي، لم يعد يقتصر الأمر على الاستمتاع والاستفادة. هذه الوحدة منحتني فرصة لأفهم ذاتي أكثر، وأدرك مدى قوتي، وموطن ضعفي. وأنا اليوم لا أنتظر من يحقق لي سعادتي، بل أصنعها بذاتي ومن أجل ذاتي.

وحدتي فرصتي، وسأعيشها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image