"يعني إذا بدو يستمر الوضع هيك، يعملوا باص للشباب وباص للبنات"؛ هذا ما قالته ريم، اسم مستعار، وهي تروي تجربتها في ركوب باص للنقل الداخلي من المنزل إلى الجامعة، وتتابع: "بحكم أني طالبة جامعية، أضطر إلى استخدام وسائل النقل العامة، ولكن ما أن أصعد الباص حتى أجد الأيادي تلتصق بجسدي من جميع الجهات، الأمر مزعج حقاً، ولكن ما الحل؟".
كل ما تريد المرأة إظهاره من أنوثة، يُرمى دفعةً واحدةً عند ذلك الباص وتتهيأ إلى دخول معركة حتمية"، تقول ريم البالغة من العمر 25 عاماً، والتي تذهب يومياً من منزلها في حي ركن الدين في دمشق إلى حي البرامكة، إن "الحل الوحيد هو التأقلم ومحاولة فرض مساحتنا الخاصة من دون أن يقترب منا أحد، أي أن تكون كل فتاة ‘قد حالها’، ولا تسمح لأحد بأن يخترق خصوصيتها ولو بنظرة، أو اللجوء إن أمكن الأمر إلى "تكاسي الركاب" الموجودة في مواقف الباصات.
رحلة المعاناة
لم يترك رفع أسعار المحروقات الأخير في سوريا، حلاً أمام سكان المدينة إلا أن يكون لهم نصيب من تجربة وسائل النقل العام، ولكي تصل إلى عملك أو مقصدك في أي مرة تقرر فيها أن تخرج من المنزل، عليك أن تعلم أن هناك كلفةً ماديةً كبيرةً، وهي "المواصلات"، وبحسبة بسيطة ومقارنة بين تكاليف المواصلات ورواتب العاملين، يظهر الفارق الشاسع بينهما، فقد تصل الكلفة شهرياً إلى أكثر من مئتي ألف ليرة، في حين تتراوح رواتب الموظفين من مئة إلى ثلاثمئة ألف ليرة فقط.
بحكم أني طالبة جامعية، أضطر إلى استخدام وسائل النقل العامة، ولكن ما أن أصعد الباص حتى أجد الأيادي تلتصق بجسدي من جميع الجهات، الأمر مزعج حقاً، ولكن ما الحل؟
ثلاثون دقيقةً هي الوقت المستغرق من مكان سكني في حي برزة إلى مكان عملي في منطقة المزة، لكن هذا الوقت القصير نسبياً يتحول يومياً إلى "رحلة معاناة"، دفعتني إلى أن ألقي الضوء أكثر على معاناتي الشخصية ومعاناة قريناتي في ركوب وسائل النقل العامة، فقد تشعر بأن ذاك الباص من الممكن أن يبتلعك، وتخترق عيون راكبيه الملابس التي ترتديها.
ودفعت أزمات المحروقات المتلاحقة، وما تلاها من أزمات في المواصلات، آلاف النساء السوريات إلى ركوب وسائل النقل العامة الجماعيّة، وازداد الضغط على هذه الحافلات لتحمل أعداداً مضاعفةً عن تلك التي تستوعبها أساساً، وفي هذا الازدحام، تتعرض النساء لكمّ هائل من التحرّش والمضايقات والتدافع.
الشعور بالخطر
"شعرت بأن المكان بدأ يضيق، ولم أكن أتوقع أن يكون هناك متحرشاً يضع يده على رجلي"، تروي باسمة (اسم مستعار)، والبالغة من العمر 22 عاماً، تجربتها الأولى والأخيرة في ركوب وسائط النقل في أثناء تنقلها إلى الجامعة في المزة في دمشق، حين استقلت أحد الباصات للذهاب إلى العمل، وجلست في المقعد الأخير، وكانت تحمل حقيبةً ثقيلةً، لم تجعلها ترى يد الرجل بجانبها وهي تتسلّل لتلمسها.
تقول باسمة لرصيف22: "حين رفعت الحقيبة عرفت سبب ضيق المكان، وأن يداً باتت على قدمي، بدأت بالصراخ، وما أزعجني أكثر، هو عدم اكتراث أي شخص في الباص لأمري، عادّينه شأناً خاصاً، عدا عن الرجل الذي بدأ يتهمني بالسرقة، والتبلّي".
كانت المرة الأخيرة لباسمة التي ركبت فيها باص النقل الداخلي، فقد تعرضت لصدمة حقيقية، منعتها من الاعتماد عليه مرةً أخرى، وتؤكد أن المجتمع أصبح مخيفاً.
ظلم وتعدٍّ
تحدث الشاب علي خزنة، البالغ من العمر 27 عاماً، والذي يقطن في دمشق، عن إحدى الحوادث التي تعرض لها خلال رحلته إلى العمل من إحدى مناطق ريف دمشق "ضاحية حرستا" إلى المزة في دمشق بوسائل النقل العامة، ويقول إن بعض الفتيات تتعرضن للتحرش، حيث يستغل ركاب الباص الازدحام الحاصل، ولكن يحدث أن يكون هناك ظلم وتعدٍ على بعض الشباب.
عدد المقاعد قليل جداً، ويصعد إلى الباص نحو مئة شخص، وحينها، كما يقال باللهجة الشامية ‘مش معروف إيد مين بجيبة مين’، والأمر لا يتوقف على التحرش، فقد وصل إلى السرقة في كثير من الأحيان
يقول لرصيف22: "في إحدى المرات، وفي أثناء ركوبي باص النقل الداخلي، بادرتني إحدى الفتيات، والتي كانت تجلس بالقرب مني، بنظرات غاضبة، علماً أنني كنت قد حاولت الابتعاد عنها قدر الإمكان. هذا وجه من الظلم بحق الشباب الذين لا يقومون بمثل هذه الممارسات".
يتفهم علي ما تشعر به النساء بشكل عام في باصات النقل العام، ويضيف: "على الفتاة إن تعرضت لحالة مشابهة أو لتحرش، سواء كان لفظياً أو جسدياً، أن تفضح الأمر، وتخبر من هم حولها، لأن التكتم قد يساهم في زيادة الحالات المشابهة".
وقت الذروة
يتحدث علي أيضاً عن المشكلات الكثيرة التي تواجه الشباب والبنات في النقل الداخلي، "لأن عدد المقاعد قليل جداً، ويصعد إلى الباص نحو مئة شخص، وحينها، كما يقال باللهجة الشامية ‘مش معروف إيد مين بجيبة مين’، والأمر لا يتوقف على التحرش، فقد وصل إلى السرقة في كثير من الأحيان".
ويوضح أن ضيق المساحة على الشاب بسبب الازدحام تفرض عليه في كثير من الأحيان أن يكون قريباً لدرجة كبيرة من إحدى الفتيات في الباص، وهذا ما يضعه في موقف محرج، ونسبة كبيرة من الشباب تُظلم بسبب آخرين.
رهاب المواصلات
يروي الطبيب النفسي أنس الدالي، لرصيف22، تفاصيل وتأثيرات تعرض النساء للتحرش ضمن وسائل النقل العامة، موضحاً أن حالة التدافع الحاصلة، والمتوقع حصولها يومياً في وسائل النقل بسبب قلتها تُعدّ من الضغط النفسي المستمر، ما يؤدي إلى توقع الأسوأ وحدوث اضطرابات عديدة مثل القلق المعمم والاكتئاب.
ويشير الدالي إلى أن "المرأة، في الوضع الطبيعي، مؤهلة أكثر لهذا النوع من الاضطرابات، وتالياً فحدوث أي عامل ضغط مهما كان صغيراً من الممكن أن يعزز إطلاق أعراض لهذا الاضطراب القائم على القلق المستمر من كل شيء، وتوقّع الاحتمالات الأسوأ"، مبيناً أن التحرش يُعدّ نوعاً من أنواع العنف الذي له آثاره النفسية المزمنة بدءاً من حدوث أعراض مزاجية شديدة مع سلوكيات تجنبية تدفع إلى تجنب استخدام وسائل النقل أو الذهاب إلى أماكن التجمعات العامة.
ويضيف: "كما تشمل الأعراض حدوث حالات قلق شديد، أو تحريض حالات من رهاب ركوب المواصلات"، لافتاً إلى أن التخلص من الشعور بالتهديد، أو تحييد العامل الضاغط، من أهم عوامل الحماية.
برأيه، "يجب طلب المشورة النفسية عند لحظ أي تأثير نفسي مثل التوتر المستمر، والانزعاج، والخوف من الوسائط العامة، وليس بالضرورة من طبيب نفسي، ولكن عن طريق صديق أو صديقة أو زوج أو أخ، ولا يعني هذا وجود اضطراب أو مشكلة نفسية، ولكن لضمان عدم الإغراق في سلوكيات التجنب والخوف والقلق ومنع أي تأثير نفسي مزمن محتمل".
حملات ضد التحرش
تقول الناشطة الاجتماعية ريما السواح، إن "وسائل النقل العامة غير صالحة للاستخدام لأي شخص، سواء كان رجلاً أم امرأةً، لأن التزاحم الذي يحصل مزعج ومستفز وغير قابل للتحمل. أي لمسة أو مجرد احتكاك غير مقصود مع أي فتاة أصبحت تعدّه الأخيرة نوعاً من التحرش، ولكن هذا لا ينفي حدوث حالات تحرش كثيرة ومتكررة".
المرأة، في الوضع الطبيعي، مؤهلة أكثر لهذا النوع من الاضطرابات، وتالياً فحدوث أي عامل ضغط مهما كان صغيراً من الممكن أن يعزز إطلاق أعراض لهذا الاضطراب القائم على القلق المستمر من كل شيء
تعتقد السواح أن على المرأة فضح حالة التحرش، حتى لو أقنعها أحد ما بعكس ذلك تجنباً للمشكلات، لأن الاستمرار في السكوت سيساهم في ازدياد الحالات، وتشير إلى "غياب الحملات الفاعلة لمناهضة هذه النوعية من الحوادث، وعدم تبنّي جهة معينة قضايا التحرش، ولكن عند وقوع الحوادث كانت تقام حملات توعية مؤقتة، أو متضمَّنة في حملات مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد المرأة".
ومن الحملات التي انطلقت ضد التحرّش كانت حملة "خليلي مسافة"، في وسائل النقل والمواصلات العامة عام 2019، في مدينة جرمانا في ريف دمشق، ووضِعت شعارات للحملة مثل "خلي لي مسافة للأمان، وخلي لي مسافة للثقة، وخلي لي مسافة للاحترام"، نظمتها مؤسسة "نيسان"، عبر صفحتها على فيسبوك، وتعاون عدد من الشباب والمتطوعين في إلصاق المنشورات الخاصة بالحملة داخل وسائل النقل العامة.
وبحسب القانون السوري، فإن للتحرش نوعين: لفظي وجسدي، وفي حال كانت السيدة ضحية التحرّش فوق السن القانونية تكون عقوبة التحرّش اللفظي تقديريةً، أي الحبس من يوم إلى عشرة أيام، وإن كان تحرّشاً جسدياً فتكون العقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات أي عقوبة الجنحة. أما إذا كانت ضحية التحرش تحت السن القانونية، فتضاعف العقوبة. ولتثبيت هذه العقوبات يجب أن يكون التحرش علنياً مثبتاً بدليل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...