"بغير هذا الحبّ لا تكن"؛ هكذا تحدث الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي في وصفه للحب الإلهي، الذي يكنه الفرد للإله الأعظم في السموات العليا. برغم مرور السنين، وفهم البشرية للكثير من الأمور المادية التي حققت نقلة نوعية في الحياة المعاصرة، ما تزال أرواح الكثيرين مؤرقة وغير مستقرة وتبحث عن معنى السلام الداخلي.
خلال الدورة 44 من مهرجان القاهرة السينما الدولي، تنوعت مشاركات الأفلام والتيمات المطروحة، من بينها جاءت تيمة التصوف كطرح طاغٍ على عدد من الأفلام العربية المشاركة على وجه الخصوص.
في سياق مسابقة أسبوع النقاد الدولية شارك الفيلم المصري التسجيلي "نور على نور" للمخرج كريستيان سور، والفيلم المغربي الروائي "واحة المياه المتجمدة" للمخرج رؤوف الصباحي، وكذلك الفيلم المغربي الروائي "جلال الدين" للمخرج حسن بنجلون في مسابقة آفاق السينما العربية، عبرت الأفلام الثلاثة عن تيمة التصوف بطرق مختلفة.
1 - جلال الدين: زوجة وبائعة هوى وخلوة
يعيش جلال الدين حياة ممزقة بين ألم زوجته ومرضها، وبين حبه للحياة، الذي ينطفئ بعد تلقي خبر وفاتها، فيزهد عن العالم، ويترك ثروته وابنه عادل مع حبّ حياته الجديد "ربيعة". لكن المفارقة تكمن في حياة البطل جلال الدين وعائلته؛ ارتبط عادل بربيعة، التي كانت تعمل في بيت هوى مستتر خلف ستار المنتجعات الصحية، التي كان يذهب إليها جلال الدين. دفن الماضي عشرين عاماً بعد أن زهد الحياة، واتجه للصوفية حتى تكون ملاذه من عذاب الحياة، وحيداً، بعيداً عن حب حياته "هبة" الزوجة التي فارقته، لكن فراقها كان سبباً في عثوره عن حب أعمق، وهو حب الله في بيت الله الذي لا يغلق أمام سائل.
يتسامى "قادر" من خلال الرقص الصوفي الزاهد عن ماديات الحياة التي سيفارقها قريباً، ويتمرن على نغمات أغنية "فساتين"، التي تتردد كلماتها منذ البداية مع "تتذكري لما قلتيلي إنك رح تتزوجيني بلا فلوس وبلا بيت"، وحتى نهايتها "بتتذكري لما قلتيلي إنك ناوية تتركيني بلا فلوس بلا بيت"
ربما يتقارب جلال الدين مع راهب روبن شارما في رواية "الراهب الذي باع الفيراري" الذي زهد الحياة المادية في سبيل بلوغ السلام، حينما قال: "ستتجلى رؤيتك للأمور عندما يصبح في إمكانك إمعان النظر في قلبك فقط". حاول جلال الدين في فيلم حسن بنجلون أن ينفذ إلى الروح، ورافقه في ذلك حب زوجته، التي لم يغب خيالها عنه يوماً، حتى إنها كانت سبيله للاستقرار في النهاية، وأنارت له الطريق نحو السعادة الأرضية.
حسن بنجلون المخرج المغربي، المثير للجدل بأفلامه، اعتمد على حبكة تقليدية ميلودرامية، إذ لم يمس فيلمه الصوفية إلا في جوهر الفكرة التي تروج للفيلم فحسب، فلم تعبر عناصر الفيلم عن هذه الحالة إلا بشكل ظاهري، في رقصات المتصوفة وشرح معنى حركاتهم الراقصة. يعود هذا إلى افتقار السيناريو والحوار، وبالتالي الشريط السينمائي، إلى المعاني الضمنية لعالم الصوفية، الذي يغرق فيه جلال الدين ومريدوه بشكل ظاهري.
ركز الفيلم على مظاهر التصوف والبحث عن الحقيقة فقط مستعيناً في البداية بأسماء دلالية للتعبير عن الشخوص “جلال الدين” في دلالة للمتصوف الأشهر جلال الدين الرومي والزوجة "هبة" في دلالة أنها هبة لحياة هذا الرجل، والابن “عادل” الذي يحكم بالعدل في علاقته مع “ربيعة” تلك التي تربت وعاشت حياة مؤلمة وقاسية، وعبرت للنور في استحضار لشخص رابعة العدوية.
2 - مشروع ليلى متصوفاً
تشكل فريق "مشروع ليلى" عام 2008، وجذب نحوه كثير من محبي الموسيقى، وأغنية “فساتين” كانت من بين أغاني الألبوم الأول الذي صدر لتلك الفرقة عام 2009، تحدثت عن الفراق، والعتاب، والخوف وألم الحب المتوهج في قلوب الأحباء، وهي المعاني ذاتها المتجلية في علاقة “فضيلة" بـ"قادر"، شخوص الفيلم الروائي المغربي "واحة المياة المتجمدة"، الذي شارك في مسابقة أسبوع النقاد الدولية.
قدم رؤوف الصباحي في فيلمه الثاني "واحة المياه المتجمدة"، رؤية خاصة عن الحب والهجر في غلاف من التصوف المغزول مع أغنية "فساتين"، التي تحضر كتيمة أساسية للتعبير عن تحطم علاقة "فضيلة"، و"قادر" الحبيبين اللذين يتمزق كل منهما بسبب الحب والفراق المحتوم، بعد اكتشاف مرض "قادر" بسرطان مميت أثناء بلوغهما إحباطاً شديداً في علاقتهما التي بدأت منذ الطفولة، ليتحول الحب إلى احتقان، والهيام إلى هلاك، ولا يبقى إلا الدموع التي لا تنتهي. فأين هي المغفرة؟
يتسامى "قادر" من خلال الرقص الصوفي الزاهد عن ماديات الحياة التي سيفارقها قريباً، ويتمرن على نغمات أغنية "فساتين"، التي تتردد كلماتها منذ البداية مع "تتذكري لما قلتيلي إنك رح تتزوجيني بلا فلوس وبلا بيت"، وحتى نهايتها "بتتذكري لما قلتيلي إنك ناوية تتركيني بلا فلوس بلا بيت"، يظل "قادر" حبيس المرض، وتقاوم "فضيلة" التعلق به بهجره وتجاهله؛ علاقة معقدة تجمع بين الزوجين المتعاركين في صمت.
مات الحلاج فداءً للمحبوب، ويموت "قادر" بعد أن أهلكه حب "فضيلة"، وبعد تحاربهما مع محيطهما الأسري، ومحاولتهما للزواج والبقاء معاً.
عبّر الصباحي عن هذا الثنائي المتمزق، بسرد متداخل لا يفرق بين الماضي القريب والحاضر، إذ تجمعهما مشاعر مختلطة، يتخبط بها "قادر" و"فضيلة" بين الرغبة في البقاء والهجر، ولا يخلو الفيلم من التعبير عن التناقضات بعناصر الحكي المختلفة، وكذلك تيمة التصوف التي تظهر بصورة شائكة في الفيلم، ووظفها بشكل مغاير عن الأفلام التي احتوت تلك التيمة سابقاً.
وظف الصباحي في تجربته الإخراجية الطويلة الثانية العلاقةَ بين الراقص المتصوف والمكان بطريقة فريدة، إذ جرّد المنزل من ملامح البيوت الاعتيادية، وكان أقرب إلى مكان مهجور هرب منه الحب قبل الأثاث. رحابة المكان لم تكن إلا دليلاً على تناقض علاقة "فضيلة" و"قادر" التي حكم عليها بالاختناق والموت تارة بعد نفورهما، وتارة أخرى بعد طغيان المرض على حياة "قادر"، وإعلانه نهاية كل شيء دون سابق إنذار.
يتسم الفيلم بحساسية شديدة على صعيد الصورة البصرية، واستخدام الألوان ودلالاتها، وكذلك شريط الصوت، الذي يتضافر مع أغنية "فساتين" للتعبير عن الألم الدفين في نفوس شخوصه.
بكاء وأنين وصراخ أصوات بشرية تتلاحم مع كلمات أغنية "فساتين"، التي تتكرر على مسامع المشاهد ولا تفارقه، المثير أن توظيف الأغنية كان يعبر عن كل مشهد، رغم تكرار نفس الكلمات، ولكنها حملت في كل مرة معنى مختلفاً، معبراً عن المشهد الذي تصاحبه.
3 - التصوف أو الجنون
"يا تكون مجنون أو صوفي علشان تقدر تعيش في مصر"؛ تقول أميرة، إحدى الشخصيات المشاركة في الفيلم التسجيلي المصري "نور على نور" إخراج كريستيان سور. الفيلم من إنتاج شركة "حصالة"، التي تطرق أبواباً مختلفة، وخاصة في الأفلام التي تقدمها، ومن بينها "نور على نور".
العمل على الفيلم بدأ منذ عام 2017 من الإعداد حتى وصوله إلى شاشة العرض للجمهور إذ تبلورت فكرة الفيلم بعد لقاء المخرج الدنماركي كريستيان سور، والمخرج المصري محمد مصطفى. في ذلك الوقت كان مصطفى يعمل على فيلمه الطويل الأول من إنتاج "حصالة"، والمنتجة هالة لطفي.
كريستيان سور مخرج دنماركي مهتم بالطقوس والعبادات الدينية في أنحاء العالم المتفرقة، يبحث عن إجابة لعدد من الأسئلة المتكررة في ذهنه، وهي: "هل هناك نور إلهي؟ كيف ينتقل هذا النور ويشعر به الإنسان؟”. يطرح الفيلم العديد من التساؤلات الوجودية والفلسفية والإنسانية المتجاوزة للجغرافيا بين الشمال والجنوب.
كيف لموت الزوجة أن يكون سبيلاً إلى إيجاد معنى أصيل للحياة؟ كيف تثير موسيقى وكلمات "مشروع ليلى" حالة صوفية؟ وكيف يكون التصوف هو البديل عن الجنون في مصر؟
يركز الفيلم على فترة هامة في تاريخ مصر، برغم عدم تطرقه لها بشكل مباشر، وهي ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث يرصد سور وفريقه بمشاركة محمد مصطفى وغيره ملامح اندماج الأفراد في عالم المدارس الصوفية خلال 2011 حتى 2013.
تعتمد رؤية الفيلم على فهم "النور" كمفهوم روحي متجاوز للمفاهيم المادية، وكذلك كمادة فيزيائية قابلة للتحليل والتفسير، يأتي ذلك على لسان الشخصيات المختلفة التي تارة تؤمن بقوة بقيمة هذا النور الروحي، وتارة أخرى بين المتسائلين الراغبين في الوصول إلى السموّ الروحي، هناك من يتحدث عن أنه "تكرم برؤية هذا النور الرباني"، وآخر ما زال يبحث ويتمنى أن يكون من المكرمين.
أنا وأنت والنور
"أميرة" واحدة من شخصيات الفيلم الرئيسية تكشف عن علاقتها المزدوجة مع عالم النور والتصوف؛ تلك العلاقة التي بدأت مع والدتها المحبة للصوفية وحلقات الذكر التي أنفقت عليها الكثير من الأموال، ما جعل أميرة تدخل في صراع لفترة طويلة مع والدتها حتى أدركت قيمة عالم النور وما يليه من سلام داخلي كثيراً ما بحثت عنه.
ينتقل الفيلم في تطوره وبنائه من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص بسلاسة، حيث يبدأ من حديث أصدقاء عن مفهوم النور وينتقل إلى حلقات الذكر، المظهر المعتاد للتصوف، وصولاً إلى أفراد يشاركون في خدمة الصوفية متجاوزين المظهر العام المعتاد عن التصوف على اعتبار أنه دروشة وهيام في الحياة. يرمي الفيلم في جوهره إلى قيمة التصوف كبوصلة في الحياة، تساعد الإنسان على عيش حياة مستقرة روحياً.
لا تغفل الصورة البصرية داخل الفيلم قيمة النور/الضوء في تجليات متنوعة ما بين القاهرة وأنحاء مصر، والدنمارك التي أتى منها المخرج كريستيان سور.
بدأ الفيلم من القاهرة وانتهى في الدنمارك. خلال حديث جمع سور ومصطفى. يرى مصطفى أن النور ربما يختلف مظهره بين الأديان والأفراد لكنه في النهاية ينفذ من الروح إلى الربّ، بتجلياته المتنوعة بين الثقافات والأفراد، منطلقاً من وحدة الوجود التي تعد جوهر الصوفية ومذاهبها.
قبل قرابة ثمانية قرون، غادر القطب الصوفي الشهير جلال الدين الرومي الحياة، ومن قبله بثلاثة قرون غادر الحياة الحسين بن منصور الحلاج مقطوع الرأس. وبرغم مرور كل تلك العقود والقرون ما تزال الصوفية بتجلياتها المختلفة تيمة رائجة ومحببة للكثير من صناع الأفلام ورواد السينما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...