غالبية جيل الثمانينيات عايش تجربة الذهاب إلى "الكُتّاب" (مكان لحفظ القرآن الكريم في الريف) خاصة في قري ونجوع مصر، فمنهم من كانت رحلته سهلة ومنهم من كابد العناء والعذاب طوال رحلة الحفظ، فبعض الأطفال في الريف المصري، وعوضاً عن ذهابهم إلى الروضات والحضانات واتباع أساليب التعليم الحديثة استعداداً لدخول المدرسة، كان أهاليهم يفضلون إلحاقهم بدور تحفيظ القرآن الكريم، والتي كان من المفترض أن تعلمهم القراءة والكتابة بجانب حفظهم للقرآن، لكنها في أغلب الأحيان ليست إلا مقرّات للتعذيب لا التعليم.
أود أن أسرد بعض التجارب التي عايشتها بنفسي أو رأيتها بعيني خلال رحلة حفظي، فرحلتي لحفظ القرآن كانت شاقة للأسف الشديد، ولا تخلو من الضغط والكدر في كل خطوة، ففي صغري، عندما كنت أذهب للكُتّاب، كنت أتمنّى يومياً ألّا أستيقظ صباحاً أو أن أمرض بشدة، فقد عشت حالة رعب دائمة، لا تنفك تراودني صبيحة كل يوم جديد أثناء ذهابي للحفظ والتسميع، ولعل أبناء الريف من حفظة القرآن هم أكثر من سيتفهّم تلك التجربة ويشعر بها.
زنزانة لتحفيظ القرآن
كان كتّابي عبارة عن غرفة بالكاد ترى ضوء النهار، أرضيتها مغطاة بالحصير البالي ولا يوجد بها أي شيء آخر. مكتظة عن آخرها بالأطفال، وتفوح منها رائحة العرق بسبب انعدام التهوية وكثرة العدد.
كنت ورفاقي نجلس على الأرض، وكلٌّ منا ينتظر دوره لتسميع الوِرد الخاص به أو "اللوح"، وهو بعض الآيات القرآنية التي يحفظها الطفل للمرة الأولى. وكنت عند دخولي إلى ذلك المكان أشعر وكأني آتٍ فقط لأنال عقابي، فلطالما كنت أتمنى الهروب من هناك، أو أن يتأخر دوري في التسميع قدر المستطاع، إلى أن يأتي صوت الشيخ أو زوجته. كان التسميع لا يمر بدون ضرب، وكأن الشيخ أخذ عهداً على نفسه ألا يترك طفلاً دون ألم في مكان ما من جسده الضئيل.
الأهل في قرى ونجوع مصر يفضلون إلحاق أبنائهم بدور تحفيظ القرآن الكريم، والتي كان من المفترض أن تعلمهم القراءة والكتابة بجانب حفظهم للقرآن، لكنها في أغلب الأحيان ليست إلا مقرّات للتعذيب لا التعليم
وكان يستعين في العقاب بسير غسالة قديم، وهو عبارة عن قطعة من الجلد الغليظ والمرن، ويظل يرفعها أمام الطفل أثناء التسميع، متربصاً لأي خطأ منه، لينهال بها على ظهره، والمطلوب من المُسَمِّع أن يستمر في القراءة الصحيحة والتسميع الدقيق رغم خوفه حتى يتحاشى العقاب.
ومن المواقف التي كثيراً ما أتذكرها هي صورة هؤلاء الأطفال الذين كانوا يحاولون الهرب من الكتّاب، فكانوا يقومون ببلع قطعة حلوى بغلافها حتى يصابوا بالاختناق أو الاقياء، فتضطرّ زوجة الشيخ لطردهم بسرعة قبل التقيّؤ على الأرض، لأن ذلك كان يغضبها بشدة. وكثيراً ما حاول أصدقائي إقناعي بفعل ذلك، لكني كنت أراه تصرفاً جنونياً. كنت أفضّل أن أشرب الكثير من الماء حتي أطلب الذهاب إلى الحمام عدة مرات، فأذهب ولا أعود حتى صبيحة اليوم التالي، وكان الشيخ أحياناً لا ينتبه لتأخري بسبب كثرة العدد أمامه.
رشوة وتشجيع على السرقة
كانت لدينا عادة جميلة، وهي أننا كنا نجمع مصروفنا معاً، ننتظر حتى ينتهي التسميع ونذهب لشراء الحلوى والطعام ونتقاسمه معاً، وكنا نسمي ذلك "الغديوة".
الشيوخ في الريف المصري يحصلون على احترام وتبجيل مبالغ فيه من قبل العامة، بدعوى أنهم يحملون كتاب الله ولا يخطؤون مثل باقي الناس، وكان يحظون بالترحيب في أي جمع من الناس، وحولهم هالة من الفخر والوقار.
لكن سرعان ما تتهدم تلك الصورة، عندما ترى الشيخ أو أحد أفراد أسرته يقبل هدايا من طفلة صغيرة كانت تحاول التودّد، حتى تحظى ببعض الاستحسان عندهم فلا يعاقبونها كالبقية، فكانت تحضر أغراضاً من بيت أهلها يومياً، كالمنظفات والصابون، وكانت المعلمة تأخذهم منها دون استفسار. كنت دائماً أصاب بالدهشة: فكيف لزوجة الشيخ، حاملة القرآن، أن تقبل تلك الأشياء دون أن تثار في داخلها الشكوك، فعوضاً عن طمأنة البنت وتعليمها الأمانة والقيم المثلى كانت لا تكترث سوى لمصلحتها فقط.
ولا أنسى أيضاً شعوري الدفين بالشماتة في ذلك اليوم الذي قامت فيه زوجة الشيخ بضرب طفلة حتي أغشي عليها من كثرة الضرب، واستمر الإغماء ما يقارب 5 دقائق، وبعدما فاقت البنت، ذهبت لمنزلها لتعود برفقة والديها وضابط شرطة، وأخذوا المعلمة. غمر المكان فرح شديد وهرج ومرج، حتى أن بعض الأطفال قاموا بضرب أبناء الشيخ، وبعدها بعدة ساعات، عادت المعلمة مرة أخرى، وعلمنا أن ذراع البنت قد كُسرت، وذلك تسبب في حالة ذعر للجميع.
واتخذت قراري يومها بأني لن أذهب لذلك المكان مرةً أخرى، فكنت أخرج من البيت وكأني ذاهب للكُتّاب، ثم أهرب وألعب في الشارع، وعندما يحين موعد الخروج كنت أعود للمنزل.
وبعد تكرار ذلك، رآني والدي بالصدفة واكتشف أمر هروبي، وعندما رفضت العودة، قام بنقلي لمكان آخر أشدّ سوءاً، حيث كنا نقف في الشارع مع شيخنا لأنه لا يملك غرفة أو مكاناً يجلسنا فيه. نقف بجوار جدران المنازل حتى لا نسد الشارع ويستطيع الناس المرور، أقدامنا تؤلمنا من كثرة الوقوف، من الساعة 8 صباحاً حتى 12 ظهراً. لم أستطع التحمّل لأكثر من 3 أيام، ثم عدت للهروب مجدداً.
تسميع الآيات لا يمر بدون ضرب، وكأن الشيخ أخذ عهداً على نفسه ألا يترك طفلاً دون ألم في مكان ما من جسده الضئيل. وكان يستعين في العقاب بسير غسالة قديم، وهو عبارة عن قطعة من الجلد الغليظ والمرن
وكالعادة، استطاع والدي إلحاقي وأختي بمكان آخر، وكان شيخي الجديد شديد القسوة أيضاً، ففي أحد المرات رفضت أختي الذهاب للكتّاب، فخشيت لو تركتها تتغيب بمفردها أن يضربها الشيخ، فجلست معها ولم نذهب، وذهبنا للعب في الشارع، فرآنا أبي وأخذنا إلى الكُتّاب، وقام الشيخ بربطي وضربي حتي ازرق جسدي.
تعذيب ليس أكثر
تلك الأفعال العنيفة كانت تصدر بسبب كلمة يكرّرها الأهل وهي: "اضرب واكسر وإحنا نداوي"، ظانين بذلك أن ابنهم سيكون على ما يرام، لكن لا يعلمون أن بعض المرضى يستغلون تلك الكلمات لتعذيب الطفل بلا رحمة.
أحببت فكرة حفظ القرآن نفسها لأنني نشأت في أسرة متديّنة، وكنت أعتقد أن الأمر بالغ الأهمية في ديني، أي لست مخيراً فيه، وكنت أندهش عندما أرى أحداً لا يذهب للكتّاب وكأن ذلك يطعن في إيمانه، لكني ومع الوقت أدركت أني غير قادر على الحفظ وأنسى بسرعة ولا أحصل على شيء سوى التعنيف.
بسبب كثرة نسياني وتكرار عقابي بدأت أمقت الكُتّاب وأفزع عند سماع جملة "حفظ القرآن". كان ذلك كالكابوس الذي يلاحقني ولا أستطيع الخلاص منه، خاصة أن أهلي لا يكترثون لشكواي من قسوة ضرب الشيخ أو العنف، لأنه السائد والمتعارف عليه في كل البيوت، وظللت ضائعاً بين الكتاتيب لا أستطيع التحمل والثبات في مكان، وفي أحد الأيام سمعت من أصدقائي عن شيخ طيب لا يضرب الأطفال، فذهبت إليه دون علم أسرتي، لأجده لا يكترث مطلقاً لتحفيظ أحد، فكان رفاقي يذهبون إليه لأنهم يستطيعون خداعه، وعندما علم أبي ضربني وقرّر أن يحفّظني القرآن بنفسه في المنزل، وكان ذلك الأصعب لي على الإطلاق، فأبي شخص حازم ودقيق، لكن ذلك كان الأفضل لي من الناحية النفسية.
بسبب كثرة نسياني وتكرار عقابي بدأت أمقت الكُتّاب وأفزع عند سماع جملة "حفظ القرآن". كان ذلك كالكابوس الذي يلاحقني ولا أستطيع الخلاص منه، خاصة أن أهلي لا يكترثون لشكواي من قسوة ضرب الشيخ
عندما كبر أخي الصغير قليلاً كان لابد أن يحفظ القرآن الكريم حتى يلتحق بالأزهر الشريف، فألحقه والدي بأحد الكتاتيب، حيث كانت تضربه زوجة الشيخ ضرباً مبرحاً كان سبباً في خلع ظفره في أحد المرات، وما كان من زوجة الشيخ حينها إلا أن قالت: "لو شوفت نقطة دم على الأرض هخليك تلحسها".
وتتكرّر المعاناة في كل قري مصر تقريباً، فالعنف لم يكن مقتصراً على مكان بعينه بحجة تحفيظ القرآن الكريم، فقد حكت لي زوجتي أن شيخها ضربها بشدة جعلتها طريحة الفراش لمدة أسبوعين، وكذلك حكت لي إحدى قريباتي بأن شيخها كان يعاقبهم بأن يضع حصوة عند شحمة أذن الطفل أثناء التسميع، وإذا أخطأ الطفل كان يقوم بفرك الحصوة بشدة، وأيضاً كان هناك شيء يسمى" الفلكة"، وهو عباره عن عصا مربوطة بحبل من الطرفين ومعلقة في السقف، وكانت تُلفّ على قدم الطفل حتى يضربه الشيخ علي قدميه.
وعلى النقيض، كنت أسمع عن كتاتيب أخرى تعلم القرآن بآدمية، فقد ذاع صيت شيخ يُدعي "الطباخ"، كان عظيماً حقاً وليس كمثل هؤلاء الأشخاص الذين يمارسون مهنة التحفيظ، نعم كان يستخدم الضرب أحياناً في التحفيظ، لكن ضربه كان للتخويف فقط وليس للتشويه أو الإصابات، وكان يستعين بأبنائه لمساعدته في التسميع، وكانوا يتعاملون مع الطفل كالأخ الكبير فلا يرهبون أحداً بأي شكل من الأشكال.
إن المشكلة في الثقة العمياء بهؤلاء الأشخاص، لاعتقاد الأهل أنهم أصحاب دين ولا يخطر ببالهم أن عدداً لا يستهان به من هؤلاء المحفّظين ليسوا سوى تجاراً بكتاب الله، لا يهتمون لا بالتعليم ولا بالكتاب نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون