لا جديد أيها السادة. بمجرد أن يحاول شخص انتقاد الأزهر، أو الاختلاف مع شيخه، تُشنّ ضده حملات الترهيب والتخوين، ويسبّه الشيوخ بلا خجل. يحدث ذلك من دون مناقشة موضوع الخلاف ذاته، وحجج الحديث ومصداقية كل طرف في ما يقول.
هذا تحديداً ما حدث مع إسلام البحيري، إثر مداخلة هاتفية أوضح فيها أن شيخ الأزهر مُخطئ في إباحته ضرب الزوج للزوجة، حتى ولو بشروط، وأن الواجب احترام الدستور الذي يُحرّم مثل تلك الأمور تماماً.
لكن، على الرغم من أن انتقاد الأزهر يُغضب البعض، ويُربك آخرين، فهذا لا يمنعنا من قول إنه أمر ضروري، بل وواجب علينا من دون خوف من إرهاب العمائم، ومن دون اعتبار لكل من يحاول التقليل من شأننا، لأننا لا نليق بأن نفكر ونقول رأينا بحرية. وقبل اختلاط المفاهيم، فإن النقد والاختلاف لا علاقة لهما بالتقليل من قدر أحد، أو عدم احترامه.
على الرغم من أن انتقاد الأزهر يُغضب البعض، ويُربك آخرين، فهذا لا يمنعنا من قول إنه أمر ضروري، بل وواجب علينا من دون خوف من إرهاب العمائم، ومن دون اعتبار لكل من يحاول التقليل من شأننا، لأننا لا نليق بأن نفكر ونقول رأينا بحرية
أما لماذا هناك ضرورة للانتقاد، فأقول بدايةً، إن الأفكار البشرية لم تتقدم سوى من خلال انتقادها، والإشارة إلى مواطن الضعف فيها. هذا ما حدث بدءاً من غاليليو الذي تحدى سلطة الكنيسة الأوروبية منتصف القرن السادس عشر، ليثبت أن الشمس هي مركز الكون، وصولاً إلى علي عبد الرازق الذي أعلن عام 1925، أن نظام الخلافة ليست له علاقة بالإسلام، وبسبب هذا الموقف تم فصله من الأزهر، قبل أن تمر السنون ويُعلن الأخير أن الإسلام لم يضع نظاماً مُحدداً في الحكم.
ولا يعني الانتقاد هدم الأفكار أو إثبات أنها خطأ، بل أحياناً يدفعها إلى التحسّن، فحين أصدر كارل ماركس البيان الشيوعي 1848، منتقداً الرأسمالية، ما كان من الأخيرة سوى تطوير نفسها بمراعاة البُعد الاجتماعي للعمّال، وهو ما لم يكن يحدث من دون احتجاج ماركس.
إن الأفكار البشرية لم تتقدم سوى من خلال انتقادها، والإشارة إلى مواطن الضعف فيها.
ولأن الانتقاد ضرورة، فإن الأزهر ليس استثناءً، لأنه أولاً وأخيراً مؤسسة بشرية تخضع للصواب والخطأ والمراجعة، وفي أوقات كثيرة تتبع تلك المؤسسة مذهب شيخها الذي ما إن يتغير، حتى تتغير الفتاوى والآراء وفقاً لمذهب الشيخ الجديد وآرائه.
تماماً كما حدث حين أباح شيخ الأزهر السابق، محمد سيد طنطاوي، زيارة المسجد الأقصى على الرغم من احتلاله، وهو ما رفضه من قبله ومن بعده في رئاسة المؤسسة الدينية، وتكرر ذلك حين حرّم الشيخ جاد الحق، فوائد البنوك، وأحلّها مَن بعده، وهكذا دواليك مع مئات الفتاوى التي تأرجحت بين التحريم والتحليل حسب آراء من يتقلّد منصب "الإمام الأكبر".
وإذا كان هذا التأرجح دليلاً على حيوية الأفكار الأزهرية وتطورها كما يقول البعض، فالسؤال هو: لماذا يكون التطور حِكراً عليهم؟ ولماذا يهاجمون كل من يخالفهم الرأي، ثم يعودون ويتفقون معه، بعد أن ينال حظه من التخوين والتكفير؟ ثم أليس هذا التأرجح دلالة على أن الأمور ليست ثابتةً، وتالياً من حق الجميع الحديث والانتقاد، خاصةً أن الحق لا يُعرف بالرجال، إنما الرجال يُعرفون بالحق؟
النقطة الأخيرة تأخذنا إلى ما يتعرض له كل صاحب رأي مخالف، من سخرية على شاكلة مقولات "أنت دارس إيه"، و"ما مؤهلاتك وقدراتك على النقاش مع كبار الشيوخ؟"، و"أين أنت في عِلمه؟"، والحقيقة أن الإجابة كان من الممكن أن تكون صعبةً، لو اقتصر نطاق عمل الأزهر على الأمور الدينية، لكن لأنه يتدخل في الطب والزراعة وعمليات التجميل وعلوم الفلك وغيرها، فهذا يعني أن أي خبير في تلك المجالات، ومن دون حصيلة دينية، قادر على مناقشة شيخ الأزهر نفسه، والتصحيح له في بعض الأحيان.
يدلل على ذلك، ما تعرضت له الراحلة نوال السعداوي، حين طالبت قبل نحو خمسة عقود، بوقف ختان الإناث، مؤكدةً بُحكم عملها كطبيبة أنه جريمة بحق الفتيات، ووقتها قوبلت بهجوم ضارٍ من مؤسسات دينية على رأسها الأزهر. لكن ماذا حدث؟ بعد سنوات طويلة أقرّ الأزهر ما طالبت به، فحرّم الختان، وعدّه جريمةً يُحاسَب مُرتكبها، لكن بعد ملايين الضحايا من الفتيات، وهذا ما يجعل الانتقاد ضرورةً لا بد منها.
ثم إذا كان الدكتور محمد عثمان الخشت، وهو المفكر ورئيس جامعة القاهرة، قد هُوجم حين اختلف مع شيخ الأزهر، ونصر حامد أبو زيد المتخصص في الدراسات الإسلامية وعلم اللغة، قد تم تكفيره، والآن إسلام البحيري قد شُتم، وغيرهم المئات من مختلف مستويات التعليم والفكر، فهل يدلّونا على مواصفات من يصلح للنقد؟ بالطبع لن يفعلوا، لأن المقصد ألا يقول أحد رأياً مخالفاً، ولهذا يجب ألا نقع في هذا الفخ.
إن أعظم ما في الإسلام من وجهة نظري، أنه دين فردي تماماً، منح الجميع الحرية في التفكير والشك والاعتقاد من دون رقيب، بل وحذّرنا من الانسياق وراء أي فرد، حتى لو كان "كبيراً"
ولأن آفة حارتنا "شخصنة الأمور"، فإن أسباب ضرورة الانتقاد التي سردتها، لا تقتصر على الأزهر، أو شيخه الدكتور أحمد الطيب، فالحديث بعيد عن الأسماء، والمقصد أن يسري ذلك على جميع المؤسسات الدينية وغيرها، لأنهم بشر، ولأنهم يصيبون ويخطئون ويراجعون أنفسهم، ولأن ما يدور في عقل طفل صغير، قد لا يرد في ذهن عالم كبير، ولأن من حقنا أن نتحدث طالما لم نُقلل من شأن أحد، أو نحاول تسفيه أفكاره.
وأخيراً، فإن أعظم ما في الإسلام من وجهة نظري، أنه دين فردي تماماً، منح الجميع الحرية في التفكير والشك والاعتقاد من دون رقيب، بل وحذّرنا من الانسياق وراء أي فرد، حتى لو كان "كبيراً"، ففي سورة الأحزاب، يقول المشركون: "ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا"، فلم يغفر الله لهم الانسياق، ليكون ذلك أعظم تشجيع على تكوين عقل نقدي يقبل ما يقتنع به، لأنه سُيحاسب عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...