"أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تاريخ (كذا)، عن افتتاح عدد من المشاريع الاستثمارية والتنموية"؛ باتت هذه العبارة، وبغض النظر عن تاريخ الخبر، إحدى أكثر العبارات تكراراً وانتشاراً في وسائل الإعلام التركية والعربية المهتمة بالشأن التركي، ويبدو أن وتيرة نشرها ستزداد كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية صيف عام 2023 المقبل.
ويُلاحَظ أن معظم هذه المشاريع لم تكن ضمن المدن المصنّفة كبيرةً في تركيا، أنقرة وإزمير ومرسين وإسطنبول، بل في محافظات وولايات تركية أخرى متنوعة، كما أن أغلبها اتخذ طابع التنمية، فيما تأتي في ظلّ عدم إعلان المعارضة التركية عن الكثير من المشاريع الخاصة بها، والتي قد تغري الناخبين بمنحهم الأصوات في انتخابات اجتمعت "المعارضة" لأجلها وحيّدت الخلافات السياسية والأيديولوجية، في ما عُرف بمشروع "الطاولة السداسية".
فكيف تلعب هذه المشاريع دوراً في الاقتصاد التركي؟ وإلى أي مدى يرتبط الإعلان عنها بانتخابات 2023؟ وكيف ترى المعارضة التركية هذه المشاريع؟ وهل تمتلك بالفعل مشاريعها الخاصة القادرة من خلالها على إقناع الناخبين؟
معظم المشاريع لم تكن ضمن المدن المصنّفة كبيرةً، كأنقرة وإزمير ومرسين وإسطنبول، بل في محافظات وولايات تركية أخرى
سرّ التوقيت
عبر بحث بسيط على محرك البحث "غوغل"، نجد أخباراً كثيرةً عن المشاريع التي أُعلن عن افتتاحها، وكان آخرها الإعلان في 26 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، عن افتتاح مصنع "أسيليسان" للأسلحة، وسدّ أفيشار وعدد من المشاريع الاستثمارية في محافظة قونية وسط تركيا، بحسب ما ذكر الموقع الرسمي للرئاسة التركية.
وفي الخامس من الشهر نفسه، أعلنت الرئاسة التركية أيضاً عن افتتاح 99 مشروعاً جديداً في ولاية غازي عنتاب جنوب تركيا، من تنفيذ القطاع العام، وبقيمة 14 ملياراً و100 مليون ليرة تركية (ما يقارب 760 مليون دولار)، و70 مصنعاً بقيمة 15 ملياراً و905 ملايين ليرة (أيضاً بحدود 760 مليون دولار)، وهي من تنفيذ القطاع الخاص.
اللافت أن الرئاسة التركية لم تذكر في خبرها تفاصيل هذه المشاريع، ولا تاريخ بدء تشغيلها، فيما افتتح أردوغان في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، سدّ "يوسف إيلي"، وهو خامس أعلى سدّ في العالم بارتفاع 275 متراً، وأكد يومها على أن افتتاحه "سينتج طاقةً سنويةً قدرها مليار و900 مليون كيلو واط في الساعة، وسيوفر قيمةً مضافةً للاقتصاد بقيمة 5 مليارات ليرة (270 مليون دولار)".
وكانت شهدت ولاية قيصري، وسط تركيا، في 23 تموز/ يوليو الماضي، افتتاح فصول دراسية جديدة وصالة للألعاب الرياضية ومستشفيات، كما وضع حجر الأساس لخط سكة حديدية يربط بين العاصمة أنقرة وولاية قيصري.
من الواضح أن توقيت افتتاح هذه المشاريع يأتي في سياق اقتراب الانتخابات الرئاسية بعد أشهر قليلة، وفي ظروف اقتصادية صعبة على الصعيد الدولي لا التركي فحسب، وهذا ما يؤكده الأكاديمي الاقتصادي فراس شعبو، الذي يقول لرصيف22: "في السياسة، لا يوجد شيء عبثي، وستكون المشاريع التي سيُعلَن عن افتتاحها في الأيام القادمة ذات أثر أكبر"، مشيراً إلى أن كل هذه التحركات "مدروسة بشكل ممنهج".
ويوضح شعبو أنه "من الملاحظ أن غالبية هذه المشاريع تنموية وصناعية بشكل كبير، وحتى على الصعيد السياسي هناك عملية إصلاح للعلاقات مع كل الدول لسحب الأوراق من المعارضة، وهي في النهاية عملية سحب وتقديم أوراق".
من جهته، يشير الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، في حديثه لرصيف22، إلى نقطة مهمة طبعت افتتاح المشاريع بأسلوب معيّن عبر "تجميع عدد من المشاريع على اختلاف أحجامها ضمن الولاية الواحدة، ثم يذهب أردوغان لافتتاحها حتى لو بدأت عملها بالفعل، إذ إن عملية الافتتاح بهذه الطريقة سيكون لها تأثير أكبر على الناخبين"، ويرى أنه ومع اقتراب الانتخابات سيكون هناك "تركيز أكبر على الإنجازات الاقتصادية كونها نقطة قوة حزب العدالة والتنمية".
يتم تجميع عدد من المشاريع على اختلاف أحجامها ضمن الولاية الواحدة، ثم يذهب أردوغان لافتتاحها، فهل ينجح هذا الأسلوب في التأثير على موقف الناخبين في الانتخابات المقبلة؟
كذلك، يرى المحلل السياسي التركي مصطفى كمال أرديمول، أن "أياً كان ما تفعله حكومة أردوغان، فهي تفعله للسياسة الداخلية والانتخابات، ولم يبق لها ما تعطيه للشعب فعلياً، ولهذا السبب فإن كل مشكلة في السياسة الخارجية وكل محاولة يقوم بها أردوغان تتكيف لاحقاً مع السياسة الداخلية".
عائدات تتجاوز الانتخابات
يُركز حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، منذ وصوله إلى الحكم في عام 2002، على مشاريع البنى التحتية تحديداً، وينفذ بالفعل مئات المشاريع من شبكات طرق وسكك حديد وجسور تربط بين طرفي تركيا الآسيوي والأوروبي، وتالياً فإن عملية افتتاح المشاريع التي يقوم بها أردوغان في الوقت الحالي، ليست أمراً جديداً، بل إن الرئيس التركي لا يدع فرصةً للتباهي بهذه المشاريع من دون استغلالها وتذكير ناخبيه وأحزاب المعارضة على حد سواء بها.
إلا أن هذا الكم من المشاريع سواء كان كبيراً أم صغيراً، لا يمكن ربطه بعملية الانتخابات فقط، مع الأخذ بعين الاعتبار إدراك حزب العدالة والتنمية صعوبة الانتخابات المقبلة وتحديداً بعد خسارته حكم مدينة إسطنبول في انتخابات 2019، بجانب مدن ثلاث رئيسة، أنقرة وإزمير ومرسين.
وسبق للرئيس التركي أن تحدث مراراً عن طموح بلاده لتكون مركزاً رئيسياً لسلاسل التوريد العالمية، وضمن أقوى عشر اقتصادات عالمية، ومن هذا المنطلق يرى شعبو أن "هذه المشاريع ليست وليدة اللحظة بل نتيجة تخطيط وإستراتيجيات موضوعة منذ عشر سنوات على الأقل".
الرئيس التركي لا يدع فرصةً للتباهي بهذه المشاريع من دون استغلالها وتذكير ناخبيه وأحزاب المعارضة على حد سواء بها
ويستند شعبو في هذا الرأي، إلى أن تركيا سبق أن أعلنت مراراً أنها "تطمح إلى أن تكون في مصاف الدول العشرة الكبرى صناعياً من حيث قدرتها التصديرية والناتج المحلي الإجمالي، وذلك من خلال الاستثمارات والانفتاح على قطاعات جديدة"، مشيراً إلى أن الظروف العالمية خلال السنوات الأخيرة، بما فيها جائحة كورونا وحرب أذربيجان وغيرهما من الظروف غيّرت العديد من المعطيات الاقتصادية والسياسية".
وتمتلك تركيا بالفعل موقعاً جغرافياً مميزاً، كونها بوابةً لأوروبا ولديها حدود برية مع الدول الآسيوية بما فيها سوريا والعراق، بالإضافة إلى الحدود البحرية مع إفريقيا، كما تمتلك علاقات جيدةً على الصعيد الدبلوماسي مع دول البلقان والقوقاز على حد سواء.
يقول أرديمول لرصيف22، إن أردوغان "يمتلك بالفعل العديد من المشاريع لكنها لم تسفر عن أي نتائج حتى الآن"، ويضيف: "لا يوجد مشروع في تركيا يؤخذ على محمل الجد، فقط هناك بعض الشراكات مع أذربيجان وتحديداً في مجال الدفاع لكنه ليس مشروعاً خاصاً بدرجة كبيرة".
وحققت تركيا بحسب البيانات الرسمية، عائدات إجماليةً تُقدّر بـ815.3 مليار دولار أمريكي، بزيادة عن الناتج الخاص في عام 2020، الذي بلغ 720 مليار دولار، فيما أعلنت هيئة الإحصاء التركية (هيئة رسمية)، في 31 من آب/ أغسطس الماضي، عن نمو الاقتصاد التركي بنسبة 7.6% خلال الربع الثاني من 2022.
وتأتي هذه الأرقام في ظلّ تضخم كبير ضرب تركيا إلى جانب دول العالم، إذ تجاوزت نسبته الـ80% محققاً مستوى قياسياً لم يصل إليه منذ 24 عاماً، وعلى الرغم من ذلك أشارت التقديرات الحكومية التركية إلى انخفاضه إلى 65%.
موقف المعارضة
مع استمرار الجدل حول الانتخابات التركية المقبلة، والتي يعدّها كثيرون "الأكثر حسماً وصعوبةً وأهميةً" في تاريخ تركيا الحديث، وبالتوازي مع تحركات أردوغان لضمان انتصار جديد يبقيه في سدة الحكم، تبدو المعارضة هادئةً "أكثر من اللازم"، إذ إنها وبالرغم من التصريحات المتكررة حول أهمية الانتخابات وقدرتها على تحقيق الانتصار فيها عبر تحالف "الطاولة السداسية"، لم تعلن حتى اللحظة عن مرشحها الرئاسي، أو عن أي خطط اقتصادية أو سياسية واضحة، باستثناء اعتزامها العودة إلى النظام البرلماني بشكل "مُعزّز".
أياً كان ما تفعله حكومة أردوغان، فهي تفعله للسياسة الداخلية والانتخابات، ولم يبق لها ما تعطيه للشعب فعلياً، ولكن أين المعارضة اليوم من كُل ما يجري؟
هذا الهدوء يشكل فضولاً حول كيفية تعاطيها وأحزابها مع المشاريع المتتالية التي يعلن عنها أردوغان، ومدى قدرتها على إيجاد مشاريع بديلة قادرة على إقناع الناخبين بتحسّن ظروفهم، بعد الانتخابات.
ويشير المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو، إلى أن المعارضة "لم تتحدث حتى اللحظة عن مشاريع كبيرة تغري الناخبين، لكنها تمتلك مشاريع أخرى في مجالات الزراعة والتأمينات الاجتماعية تحاول المنافسة من خلالها".
ويقول التركاوي، إن "المعارضة تدير البلديات وتركز أكثر على المشاريع داخل هذه البلديات، ولديها بالفعل مجموعة واسعة من الخدمات التي تقدّمها في ولايات أنقرة وإزمير ومرسين وإسطنبول وغيرها".
وسبق لرئيسة حزب "الجيد" ميرال أكشنار، أن هاجمت مشروع وكالة الفضاء التركية عبر كلمة لها في البرلمان التركي، عادّةً أنه من الأجدى البحث عن حلول لمشكلات البلاد بدلاً من التفكير في الفضاء الخارجي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...