شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"كَرَشَ، أَلَش، سألب"... ماذا نعرف عن عالم "كشاشي" الحمام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 29 نوفمبر 202204:23 م

عندما تتنقل في ضواحي بيروت، أو تصعد إلى جبل لبنان، أو حتى عند تجوالك في بعض العواصم العربية، ستلاحظ وجود أسراب من الحمام تحوم حول مساحة جغرافيّة محدّدة، وستراها تتداخل في ما بينها. إن دقّقت النظر أكثر، ستجد من يقود هذه الأسراب من على أسطح المنازل، حاملاً بيده مقلاعاً لرمي الحجارة أو خرقةً سوداء منصوبةً على قصبة طويلة؛ إنه "المايسترو"، أو بالأحرى كشّاش الحمام.

هواية "كش" الحمام قديمة جداً، وبحسب بعض المؤرخين قد يعود وجودها إلى عهد المماليك، ومع الوقت انتشرت هذه الهواية في العديد من الدول العربية، وخصوصاً في بلاد الشام.

يروي يوسف الزروي، من بلدة القماطية في قضاء عاليه، وهو رجل في بداية العقد السادس، تجربته مع هذه الهواية، التي يصفها بـ"السوسة التي تدخل الجسم ولا تخرج منه إلا عند الممات"، ويشير في حديثه لرصيف22، إلى أنها "منتشرة على الأراضي اللبنانية من الشمال حتى الجنوب، وهي غير محصورة في طبقة اجتماعية معيّنة، فهناك أشخاص من الطبقة البرجوازية يكشّون الحمام ويدفعون أموالاً طائلةً ثمن كل طائر".

يوسف تَعلّق بهواية كش الحمام منذ سن مبكرة، ووفق رأيه هذه الهواية لا يستطيع أحد تعلمها إلى إذا ورثها عن آبائه وأجداده. يقول: "أنا تعلّقت بالحمام بسبب جدّي وأعمامي الخمسة، مع العلم بأن والدي كان يكرهها كثيراً، لكني تأثرت بأعمامي وجدّي".

قوانين "الكش" 

محمد أيوب، ابن الثمانية والعشرين عاماً، أيضاً يهوى كش الحمام. يتحدّث إلى رصيف22 عن تعلّقه بهذه الهواية بسبب أصحابه الذين كانوا جميعهم يكشون الحمام، وكان يرافقهم إلى أسطح منازلهم، فتعلّم منهم أصول الكش.

بعض "الكشاشة" ينتقمون من بعضهم البعض عبر قطعهم رأس الطائر المحتجز لديهم، بعد رفضهم إعادته إلى صاحبه أو تركه له مقابل مبلغ مالي، فكيف ينظر "الكشاشة" إلى هذا الفعل؟

وبما أن هذه الهواية منتشرة بكثرة، وداخل البلدة الواحدة قد تجد أكثر من ثلاثين شخصاً يمارسونها، كان لا بد من وضع قانونين تنظّمها، كي يتجنب الكشاشون الاقتتال الداخلي بسبب حمامة، والمشرّعون هنا هم أنفسهم "الكشاشة"، يحددون أوقات الكش لكل كشّاش، ويراقبون من أخلّ بالهدنة بين الزملاء، أو من أعلن الحرب على الآخر تحت مسمّى "صيد".

يشرح يوسف معنى صيد، ويقول: "الصيد هو أن تعلن أنك على خلاف مع كشاش آخر، بحيث أنكما عندما تكشّان طيوركما وتخلطان بينها، فالطيور التي تأتي من الفريق الآخر تصبح ملكاً لك، وهنا يمكنك أن تُرجع له طيوره إن أردت، مقابل المال أو من دونه، وهذا الأمر يعود إليك".

من جهته، يروي محمد كيف أن بعض "الكشاشة" ينتقمون من بعضهم البعض عبر قطعهم رأس الطائر المحتجز لديهم، بعد رفضهم إعادته إلى صاحبه أو تركه له مقابل مبلغ مالي، وهنا يعلّق يوسف على هذه القضيّة بالقول: "إجرام وقلة أخلاق أن يقوم الكشاش بقطع رأس طائر بطريقة وحشية. أنا أرفض هذا العمل، ولا يمكننا أن نصنف هذا الفعل إلا تحت خانة الولدنة وقلّة الذوق".

قهوة "الكشاشين"

يجتمع الكشاشون مساء كل يوم في مكان يُسمى قهوة الحمام، حيث يتبادلون أخبارهم وأحاديثهم عن هذه الهواية الشيّقة في نظرهم، ففي هذه القهوة يستحيل أن تسمع أي أخبار سياسية أو عائلية أو رياضية أو حتى معيشيّة. هنا الحديث محصور في الكش فقط.

يقول يوسف: "في القهوة، نجتمع ونتحدث عمّن اصطاد طائر حمام لزميله، أو من اشترى طائراً وما هو نوعه ومواصفاته، ولا تخلو هذه الجلسات من مناكفات وتزريكات بين الحين والآخر، خصوصاً عندما يتم اصطياد طائر لأحدهم، وقد تتطور الأمور إلى مشكلٍ تُستخدم فيه أنواع من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة"، ويروي يوسف عن حادثة على هذا النحو حصلت في بيروت بين كشاشين على خلفية كمش أحدهم طائراً من دون أن يعيده إلى صاحبه.

اللغة المشفّرة

إن سمعت كلمة كَرَشَ، أو أَلَش، أو سألب، فماذا تفهم منها؟ إنها عبارات من لغة "الكشاشة"، يستخدمونها في أحاديثهم حول الحمام، طبعاً لم ولن تفهم شيئاً منها ما دمت لست كشّاشاً، وللوهلة الأولى قد تظنها شيفرات بينهم".

يشرح محمد معانيها: "الأولى، كَرَشَ وتعني تزاوج، وأَلَش تعني بدّل ريشه، وسألب تعني الشِباك التي يقلبونها على الطيور المراد اصطيادها".

إن سمعت كلمة كَرَشَ، أو أَلَش، أو سألب،وهي عبارات من لغة "الكشاشة"، يستخدمونها في أحاديثهم حول الحمام، ولكن ماذا تفهم منها؟ 

الحمام كما بقية الحيوانات والمخلوقات، أجناس وفصائل متنوّعة جدّاً، وهناك أنواع مؤصّلة تبلغ كلفة الطائر الواحد منها ألف دولار أمريكي وربما أكثر، فبحسب يوسف، "لكل طائر سعره الخاص، وكلما تحدّثنا عن طيور من بذار أصيلة كلما ارتفع سعرها. أما الطيور البلدية فسعرها ليس سهلاً اليوم، خصوصاً مع الأزمة التي يمر بها لبنان إذ كل الطيور تُسعَّر بالدولار، حسب ذكاء الطائر وعمره ومهاراته".

ويضيف: "قبل الأزمة، كان سعر الكشّة (مجموعة طيور بين 25 إلى 30 طائراً)، كلّها، بين 300 و400 ألف ليرة، أما اليوم فسعر الطائر الواحد بين 300 و400 ألف".

نظرة المجتمع

ينظر كثر من الناس إلى الكشاش نظرة ازدراء لأنه في نظرهم شخص مزعج، يبقى منذ الصباح وحتى مغيب الشمس على سطح المنزل، يطلق صافراته بشكل متواصل لطيوره، محوّلاً المكان إلى بؤرة للإزعاج.

يشير سعيد، وهو مواطن يقطن في مبنى مجاور لشخص يكشّ الحمام، في حديثه لرصيف22، إلى أن جاره الكشاش لا يتوانى عن إصدار الأصوات المختلفة لكي يجعل طيوره تطير، فتارةً يصفّر وتارةً أخرى يضرب على ألواح التنك، ومرّات كثيرة تصل به الأمور إلى إطلاق النار من بندقية صيد، ما يتسبب في إزعاج الحي، بكباره وصغاره.

ويعلق يوسف على هذا التصرف بالقول: "هذا كش أولاد ومراهقين. فالكش ذوق، ولا يجوز للكشاش أن يزعج أو يؤذي جيرانه، هناك العديد من الكشاشين يقومون بهكذا تصرفات ويشوهون سمعة الأوادم من الكشاشة".

محمد لا ينكر أنه كان يطلق البرتقال في الهواء بواسطة المقلاع، فهو لا يستعمل الحجارة لكيلا يؤذي الآخرين وممتلكاتهم، ولا يخفي أنه في يوم من الأيام أصابت برتقالة طائشة أطلقها رأس أحد أولاد الحي، لكن لم يتعرض لأي أذى.

"الكشاش" وشهادته

التهمة الأخرى التي توجّه إلى الكشاش، هي أنه كذّاب. يؤكّد محمد أن هذه التهمة نابعة من أن الكشاش يحلف يميناً معظّمةً وبأولاده، بأنه لم يشاهد طائراً مفقوداً لأحد "الكشاشة"، وفي الحقيقة يكون هو من اصطاده وخبّأه مع طيوره، وتالياً يكون قد كذّب على صاحب الطائر.

وهناك مقولة سائدة مفادها أن الكشاش لا يؤخذ بشهادته في المحاكم لأنه يكذب، وعندما سألنا محمد ويوسف عن صحّة هذا الأمر أجابا بالنفي، وبأنه مجرّد كلام.

الكش ذوق، ولا يجوز للكشاش أن يزعج أو يؤذي جيرانه، هناك العديد من الكشاشين يقومون بهكذا تصرفات ويشوهون سمعة الأوادم من الكشاشة، فهل من قانون يحكهم؟

تواصل رصيف22، مع قاضٍ رفض الكشف عن اسمه، للوقوف على حقيقة هذه المقولة، ليأتي الرد بأنها مجرّد "خبريّة ليس لها أساس من الصحة، فلا يوجد نص في القانون اللبناني يمنع كشاش الحمام من الإدلاء بشهادته".

يضيف: "عندما يأتي الشهود، هل يُعقل أن نسألهم هل أنتم كشاشو حمام أم لا؟ بالطبع لا، ولا يمكن أن نسأل كل شخص يريد أن يدلي بشهادته عن هواياته، لنتأكد إن كان كش الحمام من بينها أم لا".

تتمسمر عيون كشّاش الحمام في السماء طوال الوقت، فهو يراقب طيوره التي يبذل عمره في سبيلها، وبالنسبة له، مشاهدتها وهي ترفرف أفضل من أي شيء آخر، غير مبالٍ لا بنظرة المجتمع ولا برأي الناس، فسعادته مرهونة بسطح يحوي طيوراً تأكل وتشرب وترفرف، ولن تدرك حقيقة حياة الكشاش لأنه صعب عليك أن تخرق عالمه الخاص.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image