شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"نحن بشر فينا الصادق وأيضاً الكذّاب"... عن عاشقي "كشّ الحمام" في الأردن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 23 ديسمبر 202005:09 م

تشعر كأن شيئاً لا تراه لكنه يحوم من حولك، أو يحوم في مكان ما ينتظر وصولك وأنت تصعد درجات أربعة طوابق لا تنتهي بوصولك سطح العمارة، إنما بعد صعودك سلماً مسنوداً بين تنكات المياه في السطح، وما إن تصل لآخر درجة من السلم يستقبلك ما كان يحوم بانتظارك، أشكال وألوان من طيور الحمام، تجبرك على أن يبقى رأسك مرفوعاً في السماء.

مثل رأس الشاب معتز غيث (31 عاماً)، الذي قضى معظم الوقت الذي أجريت الحوار معه فيه وهو ينظر إلى السماء، كعادة اكتسبها من هوايته التي نشأ عليها منذ صغره في تربية الحمام، أو كما هو متعارف "كش" الحمام، فمعتز الذي اصطحب رصيف22 في جولة على ذلك السطح الذي يربي فيه الحمام، سيحاول من خلال هذا التقرير أن يعرّف القراء على هواية كش الحمام، وأن يفند كما أصر أكثر من مرة الصورة النمطية لـ"كشيشي" الحمام، تلك التي تصفهم بأنهم "كذابون".

إن منطقة جبل المنارة في عمّان الشرقية واحدة من أهم المناطق التي تكثر فيها هواية كش الحمام.

قبل الغوص في مدى صحة الوصف أو عدمها يفول معتز  عن هواية كش الحمام: "هواية لها غايتان، تربية الحمام لأجل الفراخ أو كما يقال بـ(الزق) لغايات التجارة بها، والثانية هي لغايات كشه أو تطييره، وأنا متعتي بالكش وليس الزق، بدأت الهواية في عمر الخمسة أعوام، إذ كان أخواني الذين يكبرونني يربون الحمام وكنت أنتظر انتهاء دوام المدرسة حتى أركض إلى سطح العمارة وأسلم على الحمام قبل أن أسلم على أهلي… كبرنا مع الحمام وكبر معنا".

لم تفارق عينا معتز وهو يتحدث السماء، حتى قبل أن يقوم بتطيير الحمامات من "بيوتها"، ومما جاء في سرده: "حالما أكش الحمام تنسحب كل طاقتي السلبية وما أشعره من ضغوط حياتي اليومية، خصوصاً عندما أنظر إليها وهي أسفل غيمة بصحبة نسمة هواء خفيفة، مشهد (سرجة) الشمس مع الغيم مع الحمام، مشهد جميل جداً". 

كيف يعود الحمام إليك بعد كشه وإطلاق حريته للطيران؟ سألت معتز ونحن نقف أمام "الرفصة" وهي أشبه بالعصا الطويلة التي يقف عليها الحمام، حالما تم إطلاقها لتصطف بعضها قرب بعض قبل الطيران، وأجاب: "هنا ندخل بمفهوم تربية الحمام، إذ مجرد أن ربيت فرخ حمام صغيراً تعودينه على طريقة حياته معك كيف ستكون، حتى هو يكتسب التربية من الحمام الأكبر منه ويراقب كيف أن كلاً منها يتواجد فوق أصبع في الخم، كل حمام له أصبع خاص ويرفض أن يأتي حمام آخر في مكانه، فيبدأ يحفظ ويلتقط ويعتاد، حتى عندما يتم تطييره يتعلم كيف يعود إلى بيته، وعملية التعويد لا تستغرق أكثر من خمسة أيام".


"الطير قاعد وعينه في السماء، سبحان الله حتى الطير يحب الحرية" يقول معتز، جواباً عن سؤالي عن أنسب وقت لـ "كش" الحمام، ويضيف: "أنسب وقت عند أذان المغرب، هذا الوقت يكون الحمام ينتظر بفارغ الصبر أن تصفري له لأجل أن يطير لأنه اعتاد تطييره في هذا الوقت، وبالفعل أكشها ولا تبعد كثيراً بسبب قرب وجبتها الرئيسية، من ثم تعود إلي".

قلت تعود إليك رغم أنها تحب الحرية والسماء، هل يعني ذلك أن الحمام كائن مخلص؟ سألت معتز، أجاب: "نعم، إنه مخلص جداً".

"علّمني الحمام الصبر... الطير روحه خفيفة... عندما أتأخر في العمل أشعر بالذنب، وعندما أعود إلى طيوري أشعر أنها تقول لي "من شان الله افتحلنا الخم وطيرنا وطعمينا بالأحرى، حن علينا. الحمام كائن حساس جداً، وبيني وبينك؟ اكتشفت معادن البشر"

صورة نمطية 

وإن تمت سرقته؟ ضحك معتز، لأنه اعترف أنه كان ينتظر ما يشاع عن كشيشي الحمام بأنهم "كذابون" لأنهم "يسرقون" حمامات لم يربوها وأجاب: "مبدئياً لا نسمي كش الحمام سرقة، بل صيدة، وصفة الكذب لكشيشي الحمام صورة نمطية ألصقت بنا من جراء أشخاص لديهم أنفس طماعة، إذ تأتيهم حمامة مميزة ويحتكرونها عندهم، وعندما يسأل صاحبها الأصلي عنها يُجاب: مش عندي. ليس كل كشاشي الحمام كذابين وليس جميعهم صادقين، كشاشي الحمام بشر منهم الكذاب ومنهم الصادق".

وبحسب حديث معتز فإن صفة الكذب الملتصقة بكشيشي الحمام تعود لقصة حدثت أيام الدولة العباسية، هي: "كان هناك تاجر شامي يعمل في اللوز. مرة أرسل له تاجر أجنبي أن اللوز في بلاده غالٍ جداً عبر رسالة عن طريق طير حمام زاجل، وأثناء طريق الطير اصطاده شخص ما وقرأ الرسالة وأوصلها إلى تاجر آخر راح بدوره يصدر اللوز إلى بلد ذلك الأجنبي وبنى ثروة كبيرة".

أنزل معتز رأسه خجلاً عندما سألته هل سبق أن "صاد" شخص طير من حمائمه؟ سبب خجله أنه وقتها كان شاباً صغيراً "طائشاً". يروي: "كان لدي طير حمام، وافتقدته ذات يوم، وبعد أيام من البحث عنه اكتشفت أنه لدى بيت الجيران، صراحة؟ هجمت عليهم الساعة السادسة صباحاً... كنت مقهوراً جداً".

معتز غيث | تصوير: غادة كامل الشيخ

ماذا علمتك هذه الهواية؟ أجاب: "الصبر، عندما تتعامل مع طير جديد يجب أن يكون نفسك طويلاً، وتعلمت التعاطف مع الكائنات الحية... الطير روحه خفيفة، أنا مثلاً عندما أتأخر في العمل أشعر بالذنب، وعندما أعود إلى طيوري أشعر أنها تقول لي "من شان الله افتحلنا الخم وطيرنا وطعمينا بالأحرى، حن علينا. الحمام كائن حساس جداً، وبيني وبينك؟ تكتشفين معادن البشر".

ثم انتقل إلى أصول الحمام، وتحديداً الحمام الزاجل، وبحسب قوله: "الحمام الزاجل أصله عربي، اهتمت به الدولة العباسية كثيراً، لكن العرب أهملوه. الغرب التقطه واستخدمه في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأطلق عليه عدة مسميات من بينها: جان آردن، رغم أن أصوله عربية وتحديداً من بلاد الشام، وأكثر دولة عربية اهتمت بالحمام هي سوريا".

"سوريا تعبت على تربية الحمام جداً" يضيف معتز، ويقول: "حتى أن سوريا كانت تحرص على حماية البذرة الأصلية للحمام دون الاكتراث ببيعها. المهم ألا تنقرض وأن تحافظ على عروبتها، ونحن في الأردن كالعادة كنا ننتظر حتى يأتينا الطير جاهزاً من سوريا وبالطبع لم نحافظ عليه مثل السوريين".

لا يوجد نص واضح وصريح في القوانين الأردنية بشأن شهادة مربي الحمام".

"طعميت ولادك؟"

تبين أن منطقة جبل المنارة في عمّان الشرقية واحدة من أهم المناطق التي تكثر فيها هواية كش الحمام، فهي منطقة معتز، وباقي أصدقائه الذين تحدث رصيف22 مع بعضهم، من بينهم مالك قاسم (31) عاماً، الذي قال: "تربيت على كش الحمام منذ صغري، كنت أنتهز أية فرصة يوجد فيها أخي الكبير مع أصدقائه في سهرة على سطح العمارة، حتى أتقمص شخصية الأخ الخدوم وأخدم أصحابه لأجل أن أبقى حول الحمام الموجود في السطح".

ويضيف: "أدركت أن هواية كش الحمام مغرية وصعب جداً التخلي عنها، علمتني امتصاص الغضب وأشعر كثيراً أن الحمام "يطبطب علي" عندما أكون في حالة نفسية سيئة، حتى أهلي اعتادوا تعلقي بهذه الطيور، ويسألونني باستمرار: طعميت ولادك؟".

"إنت مصرة تعرفي أكثر على حرامية الحمام"، قاطعني معتز مازحاً وأنا أحاول أن أسحب معلومات من صديقه مالك حول ما يشاع عن كشاشي الحمام، ليقاطعه مالك ويجيب: "نعم هناك حرامية حمام ويتخذونها مهنة لهم، يعني يصيد حماماً أو يسرقه لأجل بيعه، وأنا مثلك كنت أسمع منذ صغري أن كشاشي الحمام كذابون وسترقون، لكن عندما تعمقت في الهواية وتعلقت بها اكتشفت أنها نظرة ظالمة، يوجد بيننا مهندسون وأطباء ودكاترة جامعات، تعرفت عليهم في ملتقيات لكشاشي الحمام، والله فينا أناس محترمون!".

ولم ينكر مالك أن كش الحمام هواية تصحب معها مشاكل أحياناً، قال: "عن المشاكل بين كشاشي الحمام حدثي ولا حرج، لا أبالغ أنها يومية ودائماً تسمعين كلمة: أنت اصطدت حمامة من عندي، وصوت آخر ينكر ذلك الاتهام، حتى أن الأمور تصل إلى حد مشاجرات بالأيادي. قبل حوالي ستة أعوام حدثت مشاجرة في حي قريب منا بين كشاشي حمام أحدهما سرق حمامة رباها الآخر واحتمدت المشاجرة وانتهت بمقتل السارق!".

وقبل أن أودع معتز ومالك، مرت تاكسي نزل منها السائق إبراهيم داوود (33 عاماً)، تبين أنه من "شلة" كشاشي الحمام في منطقة جبل المنارة، وصف هواية كش الحمام نفس الوصف الذي قاله معتز ومالك: "هذه سوسة"، مبيناً أنه تربى على هذه الهواية منذ أكثر من عشرين عاماً، "أصبّح عليها قبل أن أصبّح على زوجتي وأولادي، هي هواية جميلة حد الإدمان، لكن هذا الإدمان جميل"، يقول إبراهيم.

"الحمام الزاجل أصله عربي، اهتمت به الدولة العباسية كثيراً، لكن العرب أهملوه. الغرب التقطه واستخدمه في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأطلق عليه عدة مسميات من بينها: جان آردن، رغم أن أصوله عربية وتحديداً من بلاد الشام"

مربّو الحمام والقانون

يقال إن شهادة مربي الحمام أو الكشاش لا تقبل في المحاكم، وهذا ما أنكره المحامي معاذ المومني في حديثه لرصيف22، قال: "لا يوجد نص واضح وصريح في القوانين الأردنية بشأن شهادة مربي الحمام"، مضيفاً: "في مجلة الأحكام العدلية المعمول بها في الأردن منذ أيام الحكم العثماني حتى العام 1977 من إقرار القانون المدني كانت بعض الفئات لا تقبل شهادتهم في المحكمة مع الإشارة إلى أن بعض المواد في مجلة الأحكام العدلية ما يزال معمولاً بها حتى اليوم".

وتابع: "في المادة 1705 من مجلة الأحكام العدلية يشترط أن يكون الشاهد عدلاً، والعدل من تكون حسناته غالبة على سيئاته، وبناء عليه لا تقبل شهادة كل من اعتاد حركة تمس الناموس والمروءة، كالرقص والمسخرة، ولا تقبل شهادة المعروفين بالكذب".  وأكمل: "حدثت عدة ممارسات من قبل بعض القضاة بعدم قبول شهادة من يحملون تلك الصفات"، مؤكداً عدم وجود نص صريح يستهدف مربي الحمام في القانون المدني.

وختم: "بالتالي لا يوجد في مجلة الأحكام العدلية ولا في القانون المدني ما يمنع مربي الحمام من تقديم شهادته بشكل صريح، إنما كانت بمثابة العرف بعدم قبول شهادتهم في فترة الحكم العثماني".

أنهي التقرير بقصة سردها معتز، لا يعرف مدى صحتها، لكن ربما تجيب عن سؤال: هل جميع مربي الحمام كذابون؟ تقول القصة: "في قديم الزمان كان هناك مربّيا طير الحمام يسيران معاً في طريق ما، ونظراهما إلى أعالي السماء يراقبان طيور الحمام، وبالصدفة حدثت جريمة قتل في المكان نفسه، وبعد فترة استدعيا لتقديم الشهادة، وكانت إجابتهما: "لا نعلم ماذا حدث، لأن رأسينا كانا مرفوعين للسماء!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image