شاعت الكلمة "مقصودة" في السنوات الأخيرة في عالم منصّات التواصل الاجتماعي، وتحديداً فيسبوك، عند كتابة شخص لمنشور فيه ذمّ أو سخرية أو شتم أو "فضح" لشخص آخر، دون ذكر اسمه أو هويّته بشكل واضح، منهياً الكلام، أو بالأحرى المنشور، بكلمة "مقصودة"، والتي غالباً ما تترافق مع إشارة الهاشتاغ (#)، تاركاً القرّاء في حيرتهم أو فضولهم أو شماتتهم أو سخريتهم منه، موصلاً رسالته لـ "المقصود" في الكلام، بشكل ملتو يصعّب من الردّ أو الدفاع.
مع الوقت، تحوّل "#مقصودة" إلى مادّة للسخرية لما فيه من كيد وعدم نضج، وصار يُستخدم للسخرية أكثر من استخدامه الفعلي، وغدا رمزاً للكيتش على المنصّة الزرقاء، كما هو الحال مع صور الطيور أو المناظر الطبيعيّة أو فنجان القهوة المكتوب عليها "صباح الخير"، في مجموعات الأشخاص الأكبر عمراً منّا، نحن الميلينيالز على تطبيق واتساب.
من هذا الهاشتاغ المعروف، يأتي -بتحليلي- اختيار عنوان بودكاست "مقصودة" بشكل ذكي، ليتناسب استحضار الكلمة كعنوان مع هويّة البودكاست ومضمونه تماماً؛ كونه يتناول عالماً عادة ما يكون بعيداً وعصيّاً على الفهم، ألا وهو الشِّعر، بشكل بسيط وشعبي مثل الهاشتاج، والعنصر الأساسي فيه هو التأويل. فكما تدفعك منشورات "هاشتاج مقصودة" إلى التفكير والتأويل والتوقّف والبحث، هكذا من المفترض أن يفعل الشِّعر، لتفهم المعاني والغايات من ورائه، فـ "قَصَدَ" الشاعر أي فعله عمداً، وعلينا أن نفهم ما وراء هذا الفعل. بالإضافة إلى أنه يلعب على جذر "قصد" التي تأتي منه "قصيدة"، وهي المادّة والموضوع الأساسي لهذا البودكاست.
مبنى البودكاست: إلقاءٌ ونقاش
بودكاست "مقصودة" من إنتاج منصّة "صوت" المتخصّصة في صناعة البودكاست، من تقديم فرح شمّا وزينة هاشم بيك. "مقصودة" يتخصّص في الشعر العربي المعاصر، وخرج منه حتّى كتابة هذه المراجعة 27 حلقة موزّعة على موسمين، ما بين صيف العام الماضي وهذا العام.
بودكاست "مقصودة"، جلسة حميميّة لصديقتين في البيجامات، تشرّحان فيها قصائد وجوديّة وفلسفيّة وسياسيّة، باسترخاء وشغف وفضول
تنقسم حلقات مقصودة إلى فئتين: الأولى، وهي ذات الحلقات الأطول مدّة، حلقات "نقاش". لا تقلّ كل حلقة من حلقات نقاش عن ساعة من الزمن، تسهب فيها مقدّمتا البودكاست في الحديث عن قصيدة مختارة وتأويلها وربطها بحياتنا اليوميّة. أما الفئة الثانية فهي "إلقاء"، والتي تكتفي فيها فرح و زينة بإلقاء قصيدة تكون لنفس الشاعر الذي ناقشتا قصيدة له في حلقة "نقاش"، وتتراوح المدّة الزمنيّة لهذه الفئة من الحلقات ما بين دقيقتين إلى ثماني دقائق.
تقريب وسلاسة
يرتبط عالم الشعر، الكلاسيكي منه والمعاصر، بما هو غريب وعصيّ على الفهم. فالشعر في ذهن الغالبيّة العامّة من الناس، ومنهم أنا، مقتصر على "مثقّفين" يتحدّثون في العادة كلاماً لا نفهمه أو نجد أي صلات شخصيّة معه، ويضطلع به رجال كبار في السنّ أو أشخاص مصطنعون غليظو القلب، يحرّكون أيديهم كثيراً عند الكلام، ويستخدمون مصطلحات معقّدة وغريبة بشكل مفتعل. يغدو الشعر العربي المعاصر في "مقصودة" خفيفاً ظريفاً؛ ليس سطحياً كمادّة استهلاكيّة عابرة، ولكنّه مرتبط بحياتنا وأفكارنا ومشاعرنا اليوميّة، تعطينا فيه المقدّمتان بسلاسة مفاتيح وأدوات لقراءته وتأويله والتفاعل معه.
نساء في مقتبل أعمارهنّ، كاتبات للشعر أو مهتمّات به، يتناولن الشعر بتجديد وخفّة وإثارة.
نقرأ على موقع منصّة "صوت" المنتجة للبودكاست وصفاً له: "يهدف البودكاست… لتقريب الشعر من الناس وحياتهم اليومية، من خلال جعله موضوع حديث سلس"، وهو الأمر الذي ينجح فيه بجدارة.
تقول فرح شمّا في مقابلة تلفزيونيّة، إنّ بودكاست "مقصودة" هو "مشروع شغف وحبّ بين صديقتين"، وهو ما ينفَذ بسهولة إلى أذن المستمع لما في حديث المقدّمتين من حرارة وحماس. تشرح شمّا أن البودكاست بدأ عندما كانت ترسل قصائد مختارة تسجّلها وهي في البيجاما وترسلها إلى زينة. وهو فعلاً ما قدّ يتخيّله المستمع: جلسة حميميّة لصديقتين في البيجامات، تشرّحان فيها قصائد وجوديّة وفلسفيّة وسياسيّة، باسترخاء وشغف وفضول.
المقدّمتان: فرح وزينة
اشتهرت إحدى مقدّمتيّ البودكاست فرح شمّا في السنوات الماضية من خلال فيديوهات تقدّم فيها الشعر أو الكلمة المحكيّة على مواقع التواصل الاجتماعي، منوّعة ما بين العربيّة الفصحى واللهجة المحكيّة الشاميّة (مزيج من الفلسطينية والسورية كنتاج طبيعي لأصولها الفلسطينية السورية، ومن ثمّ منشأها في الإمارات)، وحظيت على مدار السنوات الأخيرة بتغطية إعلامية لا بأس بها.
ظهرت شمّا في فيديوهات بسيطة من النوع الذي يناسب مواقع التواصل الاجتماعي: فيديوهات قصيرة محشوّة بالكليشيهات "الوطنيّة" حول مواضيع مختلفة، قد تكون من عناوينها العريضة الهويّة والمنفى والحروب وغيرها. يكشف "مقصودة" عن جانب جديد من شمّا، بعيداً عمّا تكتب بالعاميّة أو الفصحى، ويشي بما هو واعد وعميق و"متمكّن" من الشعر ومفاتيح أقفاله.
يرتبط عالم الشعر بما هو غريب وعصيّ على الفهم. فالشعر في ذهن الغالبيّة العامّة من الناس، مقتصر على "مثقّفين" يتحدّثون في العادة كلاماً لا نفهمه أو نجد أي صلات شخصيّة معه
أما المقدّمة الثانية، زينة هاشم بيك، فهي حالة أدبيّة مركّبة ومثيرة، كونها شاعرة لبنانيّة تكتب باللغة الإنجليزيّة. صدر لزينة خمس مجموعات شعريّة، وتردّد اسمها في السنوات الأخيرة في أكثر من جائزة ومناسبة أدبيّة مرموقة. يحضر موضوع اللغة في حياة زينة الشعريّة بكثرة، سواء في القصائد نفسها أو في الحديث عنها. تعي هاشم بيك أن الكتابة بالإنجليزية سببه "الاستعمار والإمبرياليّة"، وسبق وصرّحت عام 2017 أنها حملت شعوراً بالذنب تجاه اللغة العربيّة، كما قالت في لقاء آخر باللغة الإنجليزية: "لا بأس في أن اللغة الإنجليزية أسهل بالنسبة لي. لقد غفرت لنفسي".
ومن بين هذه الهواجس في اللغة والشعر، تغوص هاشم بيك في "مقصودة" في بحور الشعر العربي المعاصر وتسحبنا معها، ربّما كاستمرار السعي "للتكفير" عن ذنبها اللغوي للكتابة بالإنجليزيّة، ولا شكّ أنها من أعماق هذه الهواجس والتخبّط بين لغة الأم و"لغة الاستعمار" ساهمت في محتوى عربي شعري جديد وبديع وأظهرت قوّة وسلاسة شعريّة.
نساء يلعبن مع الشعر
ختاماً، ما لا شكّ فيه أن من أبرز نقاط قوّة ومتعة "مقصودة" إعداده وتقديمه من نساء يلعبن مع الشعر، وهو ما يعيدنا إلى نقطة التجديد واختراق مساحات غير مألوفة، على اعتبار الشعر، وبالأخصّ تأويله، عادة ما يكون حكراً على أصحاب السلطة والقوّة: الرجال، كما هو الحال مع معظم المجالات العامّة والفكريّة، مثل الرياضة والفلسفة والدين وغيرهم. يكسر حديث امرأتين عربيّتين وشابّتين صورة نمطيّة عمّن يستطيع التحدّث عن الشعر، وبطبيعة الحال يضيف روحاً مميّزة للبودكاست ومضمونه.
ما لا شكّ فيه أن من أبرز نقاط قوّة ومتعة "مقصودة" إعداده وتقديمه من نساء يلعبن مع الشعر، وهو ما يعيدنا إلى نقطة التجديد واختراق مساحات غير مألوفة، على اعتبار الشعر، وبالأخصّ تأويله، عادة ما يكون حكراً على أصحاب السلطة والقوّة: الرجال
في سياق آخر بعيد جغرافياً وقريب مضموناً؛ بدأت منذ شهرين في مركز خليل السكاكيني الثقافي في رام الله سلسلة لقاءات بعنوان "هذه القصيدة"، بمبادرة كل من الكاتبة والشاعرة داليا طه، والكاتبة والمترجمة ملك عفونة. يأتي في وصف السلسلة على موقع المركز: "نجتمع في كلّ مرّة حول ثيمة شعريّة ما، ونتعرّف على طرق حضورها المختلفة في مجموعة مختارة من القصائد، وعبر طوّياتها، نحاول أن نصغي لما يقوله لنا الشعر، ونناقش حاجتنا له في هذا العالم". تناول اللقاء الأوّل الشّعر بالمطلق؛ جدواه ومعناه وغاياته، أما اللقاء الثاني فتناول الصمت، "صمت مجموعة من الشاعرات والشعراء، مرّةً باعتباره شرطاً للشعر، ومرّةً باعتباره موضوعاً له".
تعيدني السلسلة إلى "مقصودة"، وأتصوّر دوراً للبودكاست في الدفع أو التشجيع للبدء في هذه السلسلة أصلاً، كون القائمات على السلسلتين نساء في مقتبل أعمارهنّ، كاتبات للشعر أو مهتمّات به، أو لكونهن يتناولن الشعر بتجديد وخفّة وإثارة. ولأجل كلّ تلك القصائد الملقيّة والمأوّلة، نجح "مقصودة" في إدخال موضوع جديد وغني للبودكاست العربي في تجربة تستحقّ التقدير والدفع للمزيد لمساحات شبيهة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...