يخفت الاهتمام بنقاشات الصحة النفسية وأهمية الحديث عن الاضطرابات النفسية عن الساحة الإعلامية ليعود من جديد بين الفينة والأخرى. إلا أنه وعلى الرغم من التذكير الدائم بأن "مرض الروح" والاضطرابات النفسية لا يقل أهمية عن الصحة الجسدية، لا يزال الحديث عن هذه الأمور بمثابة "تابو" في مجتمعنا اللبناني والعربي.
بشكل عام، يأخذنا مصطلح "تابو" إلى ما هو مخفي وممنوع الحديث عنه، إلا أن بودكاست "تابو" الذي تعدّه الأخصائية في علم النفس، وردة بو ضاهر، على العكس، إذ يرفع النقاب عن الاضطرابات النفسية ويستحضر الحديث عنها من الهمسات والوشوشات خلف الجدران، إلى برنامج منتشر بقوة على السوشال ميديا، يقرع مسامع الكثيرين ويهدف إلى كسر الصور النمطية المتعلقة بالصحة النفسية.
يأخذنا مصطلح "تابو" إلى ما هو مخفي وممنوع الحديث عنه.
قصص ملهمة
ولدت فكرة بودكاست "تابو" بعد التفاعل الذي لاحظته وردة بو ضاهر من الجمهور المتابع لها على صفحتها على إنستغرام، مع المواضيع التي تطرحها والاستفسارات التي تصلها حول الاضطرابات النفسية، خصوصاً وأن طرح المواضيع يتم باللغة العربية والمحكية، في خطوة أرادتها وردة لتأمين محتوى عن الصحة النفسية "بلغتنا"، يكون فرصة للتعبير عن مكنونات القلب دون خوف أو خجل: "لا تزال شريحة من المجتمع تعتبر أن الحديث والإفصاح عن الاضطرابات النفسية أمر مخجل ومعيب، يجعل الفرد في دائرة تصويب اتهامات الوصم الاجتماعي عليه، كأن ينعت بالجنون"، وفق ما أكدته بو ضاهر في حديثها مع موقع رصيف22.
والواقع، إن طرح القصص المتعلقة بالصحة النفسية على البرامج الإعلامية ليس بجديد، إلا أنه غالباً ما يتّسم بالتشويق والحركة التي تضع الضيف الذي يمرّ بالاضطرابات النفسية "موضع الضحية"، وهذا ما تؤكّد عليه بو ضاهر التي تسعى إلى معالجة القصص من زاوية تخصصية، تهدف لمساعدة الأشخاص الذين يمرّون باضطرابات نفسية: "نحكي بطريقة تقوّي الشخص مش ضحية عم يعاني ويتعذّب من الاضطراب النفسي".
على الرغم من التذكير الدائم بأن "مرض الروح" والاضطرابات النفسية لا يقل أهمية عن الصحة الجسدية، لا يزال الحديث عن هذه الأمور بمثابة "تابو" في مجتمعنا اللبناني والعربي
تركّز بو ضاهر في استضافتها على انتقاء القصص التي من شأنها أن تلهم من يمرّ بنفس حالة الضيوف وأن يمدّهم بالأمل لا إحباطهم، وهذا ما يمكن لمسه مثلاً في حلقة الأسى التي تناولت طرحاً مهماً، ألا وهو الحزن بسبب الفقد، باستضافتها ياسمينة عودة، التي عرّفت عن نفسها بأنها أم لثلاثة أولاد، إلا أن القدر سرق منها طفلتها.
في حلقة الأسى تحدثت وردة عن نموذج "كوبلر روس" الذي قدمته المعالجة النفسية السويدية إليزابيث كوبلر، في العام 1969، والذي تناول مراحل الحزن التي قد يمر بها أي شخص فقد شخصاً عزيزاً عليه، دون أن يبهت حضور تجربة ياسمينة التي تحدّثت عن خسارتها ابنتها، وكيف تعاملت مع ألم الفقد بمساندة متابعيها على السوشال ميديا.
لكن الجانب التخصصي في عمل وردة لا ينتهي فقط باستضافة الأشخاص الذي مرّوا باضطراب نفسي، إذ تستضيف متخصصين/ات في علم النفس للحديث عن الجوانب الطبية المتعلقة بالأمراض النفسية، كما في حلقة "اضطراب ثنائي القطب"، بحيث أنها استضافت ميشال نوفل، نائب رئيس جمعية علم النفس في الشرق الأوسط، وهو متابع لحالات تعاني من اضطراب ثنائي القطب.
وفي هذه الحلقة، تم تسليط الضوء على اضطراب ثنائي القطب من ناحية علمية تخصصية، ما خلق توازناً ما بين الحسية وتجارب الأشخاص التي من شأنها إعطاء الدعم والأمل للأفراد، وما بين الناحية الطبية التخصصية التي من شأنها تثقيف الأفراد وتزويدهم بالمعلومات.
كسر عائق اللغة
حقّق بودكاست "تابو" المركز الأول في المواضيع المتعلقة بالصحة النفسية على قائمة البودكاست للبرامج التي تستخدم آبل، على صعيد العديد من الدول العربية، منها الإمارات المتحدة، الكويت، مصر ولبنان، كما حصد المرتبة 66 في بلجيكا و89 في فرنسا.
تخبر وردة أن الهدف من بودكاست "تابو" هو طرح المواضيع التي تتعلّق بالصحة النفسية باللغة العربية، وبالتالي كسر الصمت اللغوي عنها، إذ عادة ما يكون الحديث عنها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ما ينعكس سلباً على نشر التوعية فيما يتعلّق بالصحة النفسية في عالمنا العربي: "الهدف هو طرح المواضيع المتعلقة بالصحة النفسية بلغة تكون بمتناول الجميع، مش ضروري يحكي لغة أجنبية ليحكي فيها".
تضيف وردة إن استخدام اللغة العربية يسمح للأشخاص الذين يمرّون باضطراب نفسي ولا يجيدون اللغات الأجنبية بإيجاد مساحة تعبّر عنهم بطريقة متخصصة، من شأنها أن تكون وسيلة تساعد من حولهم من العائلة على فهم ما يمرّون به.
يشكّل استخدام اللغة العربية في المواضيع العلمية التي تتناول الصحة النفسية صعوبة، إذ إن معظم الدراسات المتعلقة بالصحة النفسية تكون باللغة الأجنبية، وبالتالي يعتبر أمر ترجمة المصطلحات العلمية وخلق محتوى باللغة العربية تحدياً كبيراً لوردة، وفق ما تؤكده، إلّا أن شغف رسالتها يخلق لها الدعم للمثابرة في عملها.
تسعى بو ضاهر إلى فتح النقاش حول الصحة النفسية بلغة يسهل على المتخصص في علم النفس وغير المتخصص فهمها، بشرح مبسّط يتضمن إعطاء نصائح عملية وحسّية للشخص الذي يعيش الاضطراب النفسي، والإجابة على الأسئلة المتكررة في رأسه، بهدف إيصال معلومات بطريقة متخصصة مناسبة.
الجدير بالذكر أن بودكاست "تابو" يبث على بعض التطبيقات مثل أنغامي وpodcast player، ما يتيح الوصول إلى المحتوى بكلفة بسيطة، أما الإنتاج فهو لحكواتي، وهي منصة بودكاست متخصصة في إعداد وإنتاج وتسويق وإذاعة مجموعة من برامج المحتوى العربي، المسموعة والمُقدَّمة خصيصاً للناطقين بالعربية في منطقة الشرق الأوسط، شمال إفريقيا ودول المهجر.
يشكّل استخدام اللغة العربية في المواضيع العلمية التي تتناول الصحة النفسية صعوبة، إذ إن معظم الدراسات المتعلقة بالصحة النفسية تكون باللغة الأجنبية، وبالتالي يعتبر أمر ترجمة المصطلحات العلمية وخلق محتوى باللغة العربية تحدياً كبيراً
مسؤولية النشر
شهدنا في الآونة الأخيرة حالات انتحار في عدد من المناطق اللبنانية وذلك في ظلّ الظروف القاسية التي يمّر بها اللبنانيون من تأزّم الوضع الاقتصادي، ولكن تفيد ليا زينون، المديرة التنفيذية في جمعية Embrace، التي تعمل على رفع مستوى الوعي حول الصحة النفسية في لبنان، أن الأزمة الاقتصادية ليست السبب الوحيد الدافع للانتحار، إذ إن أصحاب معظم حالات الانتحار يعانون من اضطرابات نفسية، كما أن تراكم الضغوطات الناجمة عن الظروف السلبية قد تساعد في دفع البعض إلى الانتحار.
من هنا تؤكّد زينون على أهمية الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها في التوعية عن الصحة النفسية والاضطرابات النفسية، خصوصاً عند الفئة الشابة التي تعد الأكثر استخداماً لهذه التطبيقات.
وفي حديثها لرصيف22، تشدد زينون على أهمية أن تطوّع المنصات الحديثة مثل البودكاست، الإنستغرام وغيرها من المنصات الحديثة، من قبل متخصصين بعلم النفس لنشر التوعية، عبر توفير المعلومات المتعلقة بالاضطرابات النفسية والأمراض النفسية، وتقديم الدعم لمن يمرّ باضطراب نفسي، وهكذا يكون مصدر المعلومة موثوقاً.
هذا وتؤكّد ليا زينون على مسؤولية النشر المتعلقة بالأخبار التي تتناول الإعلان عن حالة انتحار، في سبيل عدم التشجيع على الانتحار، أو التأثير سلباً على الأشخاص الذين يعيشون نفس الحالة: "يجب التوخي في نشر الخبر بعدم نشر الوسيلة المستخدمة، عدم نشر الصور...".
يُذكر أن جمعية Embrace وبالتعاون مع وزارة الصحة، كانت قد نشرت دليلاً للوسائل الإعلامية لمساعدتها في كيفية تغطية الأخبار المتعلقة بالانتحار بأسلوب متخصص وحذر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...