كنت طالباً في موسم الامتحانات حين بدأ مونديال 2002، والذي تقاسمت كل من كوريا الجنوبية واليابان حق استضافته وتنظيمه، حينها كنت أغادر قاعة الامتحان لأتمكن من متابعة ما أمكن من المباريات التي كانت تبث بتوقيت صباحي في سوريا.
رسبت في كل المواد التي تزامن تقديمها مع المباريات، ومثلي خرج خاسراً منتخب إيطاليا بعد هزيمته بهدفين مقابل هدف أمام كوريا الجنوبية في دور الـ16، وحين عرف أبي أنني كنت أغادر الامتحان لأحضر المباريات كاد أن يصاب بجلطة، لعلها كانت التاسعة في تاريخه المرضي، ومع ذلك بقي كأس العالم هو البطولة الأهم في حساباتي، كحال أي شاب في عمري حينها، حتى وإن لم يكن مهتماً بكرة القدم.
أفكر بما سيخطر في بالي لو جلست اليوم على أحد المدرجات في بطولة كأس العالم في قطر، أقصد هنا كمواطن سوري، من سأشجع؟ وكيف يمكن أن أبوح بتشجيعي لفريق قد يكون لحكومة بلاده موقف مما يجري في بلدي من حرب، فمثلاً هل سأتجرأ على تشجيع المنتخب الإنكليزي أو الفرنسي بشكل معلن، وهل سأتعاطف مع كل المنتخبات العربية التي تأهلت؟
"سأشجع ألمانيا من باب رد الجميل"
يشجع عبد الرحمن المعارض للحكومة السورية المنتخب البرازيلي منذ بدايات تعلقه بكرة القدم، ويقول في حديثه لرصيف22 إنه لا يجد سبباً منطقياً يمنعه من تشجيع منتخب السامبا، حتى وإن عرف أن واحداً أو حتى الآلاف من مؤيدي النظام السوري يشجعون البرازيل مثله.
كنت طالباً حين بدأ مونديال 2002، رسبت في كل المواد التي تزامن تقديمها مع المباريات، ومثلي خرج خاسراً منتخب إيطاليا بعد هزيمته بهدفين مقابل هدف أمام كوريا الجنوبية في دور الـ16
فالموقف من كرة القدم يختلف تماماً عن الموقف السياسي من الملف السوري برأي عبد الرحمن، الشاب الذي غادر بلاده أول الأمر إلى تركيا ومن ثم ألمانيا، ولا يُخفي أنه مدين لكلا البلدين حين استقبلاه في هروبه من الحرب، ويجد من الطبيعي أن يشجع ألمانيا ويتمنى لها الفوز "من باب رد الجميل"، لكن رد الجميل لن ينتقص من محبته وولائه للبرازيل، التي إن حدث وواجهت ألمانيا سيكون للسامبا عنده المكانة الأعلى.
ويرى يوسف محمود وهو مهندس ثلاثيني أن تشجيع أي منتخب لا تربطه علاقة مباشرة مع الملف السوري هو مسألة عادية، لكن مع منتخبات مثل فرنسا أو إنكلترا يصبح الأمر ملتبساً بعض الشيء، فهو لن يجرؤ على نشر أي شيء عن محبته لمنتخب الديوك الفرنسية على صفحته في الفيسبوك، لأن التعليقات ستأتي على شكل تخوينات سياسية من قبل المؤيدين للنظام السوري.
يقول محمود: "لستُ أفضل من مارسيل خليفة مكانةً عند السوريين، فالمغني الذي تم تكريمه من فرنسا قبل سنوات خُوّن لقبوله بتكريم من دولة كانت تستعمر بلاده، وتدعم الحراك المسلح في سوريا، لذا فتشجيع فرنسا بشكل معلن سيكون أشبه باستجلاب الشتائم".
لن يجرؤ محمود على نشر أي شيء عن محبته لمنتخب الديوك الفرنسية على صفحته في الفيسبوك، لأن التعليقات ستأتي على شكل تخوينات سياسية من قبل المؤيدين
يختلف معه في الرأي باسل عبد الرزاق (25 عاماً) الذي يعيش حالياً في ألمانيا حيث يعتبر أنه حر بتشجيع أي منتخب دون الحاجة لتبيان مواقف هذا البلد سياسياً أو تبيان موقفه السياسي من أية قضية، فهو يرى أن كرة القدم لا تحتمل كل هذه القياسات والتفسيرات.
يقول في حديثه لرصيف22: "بعض المنتخبات لها شعبيتها وحضورها أياً كان موقف حكومات بلادها من أية قضية في العالم، ففرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنكلترا والبرازيل والأرجنتين وهولندا، هي منتخبات لا تمثل بلادها وحسب، بل تمثل كل مشجعي هذه المدارس في كرة القدم، أما منتخبات مثل منتخب الولايات المتحدة فلا يحظى بذات الشعبية لدى جمهور كرة القدم خارج حدود بلاده، لأن الأمريكي نفسه لا يعتبرها لعبته الشعبية الأولى".
لا يفهم عبدالرزاق الحديث عن انفضاض السوريين عن منتخب أوروبي أو لاتيني بسبب موقف سياسي، يقول: "لا يمكن أن أشجع منتخب الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الموقف ليس لسبب سياسي ولكن لأنه بلا تاريخ كروي، إلا أنني أتفق مع كل الذين يشجعون ألمانيا أياً كان خيارهم السياسي السوري، وأختلف مع كل الذين لا يشجعون ألمانيا في كأس العالم أياً كان انتماؤهم العرقي أو الديني أو السياسي".
الخلاف على المنتخبات الأوروبية واللاتينية بين السوريين، يشبه الخلاف على برشلونة وريال مدريد، وأقرب إلى المفاضلة بين الدوريين الإنكليزي و الإسباني، لكن يتفق الجميع على أن كرة القدم الأوروبية واللاتينية تجمعهم على طاولة واحدة للمشاهدة، فهل تصلح كرة القدم ما أفسدته الحرب.
قطر السعودية وإيران
ماذا ستفعل ومن ستشجع لو حضرت مباراة للمنتخب القطري؟ الدولة التي تستضيف البطولة، والمتدخلة في الحرب السورية منذ شرارتها الأولى؟ يجيب أحمد محلي لرصيف22 عن هذا السؤال بقوله: "كيف أشجعها وقد أضحت جملة (شكراً قطر) تُلفظ على لسان جزء كبير من السوريين كشكر على أمر غير محمود؟ وحتى لو تحدثنا من منطلق عروبي فمنتخب قطر يسمى بمنتخب الأمم المتحدة، لأن عماده الأساسي من اللاعبين المجنسّين لا القطريين، وبالتالي فهو لا يمثل الشعب القطري، وإنما يمثل حكومة الدوحة".
جدلية التشجيع على أساس سياسي تدور سورياً حول المنتخب السعودي، المؤيد للنظام يرى أنها باعت العروبة، بينما المعارض يرى أنها دعمت الشعب السوري على أساس عروبي
في المقابل يرى جزء آخر من المعارضة السورية أن قطر هي دولة داعمة له ولتوجهه السياسي وبالتالي من الطبيعي أن يتعاطف مع منتخبها، لكن هذا الصراع لم يعد مهماً وانتهى سريعاً مع خروج المنتخب القطري مبكراً من المونديال.
لكن الجدلية نفسها تدور بين السوريين حول تشجيع المنتخب السعودي، فالرياض (برأي من يؤيد النظام السوري) كانت قد تدخلت بشكل مباشر في الحرب السورية، وهناك من يرى أن "المملكة من الدول التي باعت العروبة، بينما يرى آخرون أنها دعمت الشعب السوري على أساس عروبي بالمقام الأول".
في مونديال 2002 شجعتُ المنتخب التركي الذي كان ضمن تشكيلته اللاعب "حقان شكور" صاحب أسرع هدف في تاريخ كأس العالم، والذي سُجّل بعد (10.8) ثوان من بدء المباراة، كما كان ضمن التشكيلة اللاعب "إلهان مانسيز" الذي كان ينفذ حركة للكابتن ماجد ضد خصومه برفع الكرة من فوقهم، وقد تمكن الأتراك من تحقيق المركز الثالث في تلك البطولة.
كنا نعتقد حينها أن هذا المنتخب يشبهنا بسبب رابطة الدين، وهي نفس المرجعية التي شكلت حالة من التقبل لتاريخ الاحتلال العثماني لبلادنا عند الكثير من المتحمسين، على أساس أن هذا الاحتلال أفضل من الاحتلال الأجنبي، وكأن المفاضلة كانت على أساس "أهون الشرين".
لكن ماذا عن المنتخب الإيراني، والذي تربطه مع كثير من العرب رابطة الدين وأحياناً الطائفة، والقرب الجغرافي، وتشابه العادات نسبياً؟
ليس المنتخب الإيراني خارج المعادلة السياسية الخاصة بالسوريين في التشجيع؟ فمنهم من يعتبر أن إيران دولة شريكة في المصير، ومنهم من يعتبرها سبباً في استمرارية الحرب ويعتبر وجودها أو وجود ميليشياتها في سوريا احتلالاً، بل إن خطاب الكراهية الموجه ضد اللاعبين لا يقف عند حدود الحرب السورية، ففي العالم العربي من يصفهم بمنتخب المجوس، وهناك من سيشجع أي منتخب يواجه إيران بسبب موقفها السياسي الداعم للنظام السوري، حتى برغم الاحتجاج الصامت الذي أبداه المنتخب بعدم ترديد نشيد بلاده في مباراته الافتتاحية.
ماذا لو..؟
نتيجة للانقسام الحاصل في سوريا، يصف المعارضون للنظام المنتخب بأوصاف تُشير إلى ميول لاعبيه السياسية، ومنها "منتخب البراميل" و"منتخب الكيماوي"، كذلك لم يسلم اللاعبون الذين شاركوا في صفوفه من انتقادات المعارضة ومن بينهم عمر السومة، وعمر خريبين، وفراس الخطيب، فيما على الجانب الآخر، ذهب المؤيدون للدفاع عن المنتخب ولاعبيه من منطلق وصفه بالوطني، وهو وصف لا يبتعد عن السياسي أيضاً، فيما تتوالى الانتقادات اليوم للأداء الرياضي وللمؤسسات الرياضية السورية، وفي طليعتها كرة القدم.
هناك من سيشجع أي منتخب يواجه إيران بسبب موقفها السياسي الداعم للنظام، حتى برغم الاحتجاج الصامت الذي أبداه المنتخب بعدم ترديد نشيد بلاده في مباراته الافتتاحية
وبالتالي، يُسأل: هل يبني من يرفض تشجيع المنتخب هذا الموقف على أساس تكرار الخيبات الكروية، كوجود خلل في اختيار المدرب واللاعبين ووضع الخطط؟ أم نتيجة موقف من النظام؟ وهل يمكن أن يأتي زمن جديد يتفق فيه السوريون على تشجيع المنتخب السوري بغض النظر عن توجهاتهم السياسية
قصة كالقصة السورية، لا يمكن أن تُفصل السياسة فيها عن الرياضة بسهولة، أو على الأقل بالسهولة التي يتمناها من يريد لهذه البلاد أن تحيا من جديد، لكنه أمل مشروع لدى من يشعر بحجم المصيبة السورية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...