كانت قطرات المطر تهطل بغزارة على الزجاج الأمامي للسيارة، في طريقي من بيتي في قرية عبلين في الجليل، إلى عملي في حيفا. كنت مضغوطة جدًا لأن "راحت علّ نومة!"، ويجب أن أصل إلى عملي في أسرع وقت ممكن، كي أحضر الاجتماع الهامّ الذي سيُعقد عند بداية الدّوام.
لكن للأسف، وكما الحال في أغلب الأيام التي يزورنا فيها المطر، تكون الطريق مزدحمة والسيارات متراصة، وبدا أملي بالوصول في الوقت المحدد، يتلاشى.
فجأة، انتبهت إلى أنني لم أشغل الراديو بعد، هل يُعقل أنني خرجت من بيتي قبل عشر دقائق ولم أشغل الراديو أو أستمع للموسيقى حتى الآن؟ فتحت الراديو، وفتشت على صوت أعشقه يعيد لي "الروقان" الصباحي اليومي الذي تعكر من الزحام. قفز في ذهني وجه أبي وهو يقول: "فش إشي بنسمع ع الصبح غير فيروز "، (هكذا يقول الشّاميون عمومًا..) جاءت صورته وطارت بعدها في لمحة بصر، مع الضوء الذي تلألأ في السماء المتلبدة خارج سيارتي.
بقيت أنقل المحطات إلى أن سمعت صوتها يصدح: "الآن الآن وليس غدًا، أصوات العودة فلتقرع!". لطالما أحببت أغنية "سيف فليشهر". عندما كنت أسمعها في أيام مضت، كنت أشعر وكأن الثورة ستبدأ في الثانية التي تلي آخر نوتة موسيقية في الأغنية، فها هي فيروز، بصوتها الملائكي تدعي الأحرار إلى أن "يجن دمهم " وتتحرر القدس، ولكن سنوات عملي في القدس قلبت المعادلات رأسًا على عقب وأدركت حقيقة كون الأغنية هي رومانسية حالمة لا تمت للواقع بصلة.
في حديثنا عن القدس، أفكر بواقعها اليوم، وبحقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد نقلت في أيار/ مايو الماضي، إبان الذكرى السبعين للنكبة، سفارتها من تل أبيب إلى القدس، كاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل. حصل ذلك في ظلّ صمت عربيّ كبير، لذلك، وارتباطًا بأغنية "سيف فليشهر"، القدس وفيروز، قررت أن أكتب للسيدة هذه الرسالة:
عزيزتي فيروز،
كيفك إنتِ؟
أتمنى أن تكوني في حال جيدة.
من خلال رسالتي هذه، أردت أن أحكي لكِ عمّا تمرّ به القدس هذه الأيام، فاسمحي لي بذلك.
إن رفيقتك قُدسنا، التي طالما ناجيتها من على منصات المسارح، هي في حال يرثى لها. في الفترة الأخيرة، وللأسف، ترك العرب القدس وفلسطين وحيدتين، أُغلق الأقصى لأيام ولم يجد غير أهل القدس ليهبوا للدفاع عنه، أُغلقت كنيسة القيامة لأيام ولم ينتفض أحد لنجدتها، يعاني المقدسيون من التنكيل والاعتقالات وسحب الإقامة، بيوت المقدسيين مهددة بالهدم، أعمال حفر مشبوهة تحت الأقصى تهدده بالانهيار ولكن ...لا حياة لمن تنادي.
لم تعد أغنيتك "سيف فليشهر" ذات علاقة بالمكان والزمان، لا أحد لديه الوقت ليشهر أي شيء بوجه الاحتلال، فالعرب غارقون بإشهار السيوف بعضهم على بعض، حتى أن بعض الدول العربية باتت تتكلم بشكل علني عن أن القضية الفلسطينية أتعبتهم واستنفدت الطاقات الموجودة لديهم. ليس هذا وحسب، إنما السلطة الفلسطينية نفسها أصبحت تنسق أمنيًا مع إسرائيل بحسب اتفاقيات أوسلو، وتطارد الفلسطينيين لتسلمهم بيدها للاحتلال.
هل عرفتِ يا عزيزتي أن ميري ريجف، وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية، زارت أبو ظبي مع وفد إسرائيلي، ورفع العلم الإسرائيلي وأنشدت التكفا (النشيد الوطني الاسرائيلي) في قلب أبو ظبي العربية؟ هل تعرفين أن غزة تحت القصف، وأطفال غزة يحاصرهم الاحتلال؟ هل تعرفين أن 50% من أطفال غزة يعانون من الاكتئاب بعدما فقدوا الرغبة في الحياة؟ وحدهم أهل غزه كالأيتام صامدون في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ولا من مساند.
إن رفيقتك قُدسنا، التي طالما ناجيتها من على منصات المسارح، هي في حال يرثى لها.
لم تعد أغنيتك "سيف فليشهر" ذات علاقة بالمكان والزمان، لا أحد لديه الوقت ليشهر أي شيء بوجه الاحتلال.
صدقيني، في الأوضاع السياسية الراهنة، وفي ظل غياب الحديث عن حق العودة وتناسيه، لا أظن أن اللاجئين الفلسطينيين سيعودون قريبًا..
وأمّا شوارع "القدس العتيقة"، فلا تسألي عن حالها، نهش سرطان الاستيطان لحمها، ويستيقظ المقدسيون كل يوم على واقع أمر من قبله.أظن يا عزيزتي أنه كان يجب أن تهدي أغنيتك "وحدن" للفلسطينيين، لأنهم يحاربون وحيدين دفاعًا عن قضيتهم العادلة، بينما باعتهم كل الأنظمة العربية لأجل عينَي ابنة ترامب، وسلطة ترامب ودولاراته. للأسف يا عزيزتي، الأغاني التي غنيتها لفلسطين في زمن مضى، أكل عليها الدهر وشرب. أعتذر لتحطيم أحلامك، ولكن من اليوم أظن أنك تستطيعين التوقف عن غناء "سنرجع يومًا". صدقيني، في الأوضاع السياسية الراهنة، وفي ظل غياب الحديث عن حق العودة وتناسيه، لا أظن أن اللاجئين الفلسطينيين سيعودون قريبًا... فحتى أبو مازن، اللاجئ الفلسطيني من صفد، صرّح أنه لا يريد العودة إليها، وحطم أحلام ملايين الفلسطينيين في الشتات بالعودة الى أرضهم. وأمّا شوارع "القدس العتيقة"، فلا تسألي عن حالها، نهش سرطان الاستيطان لحمها، ويستيقظ المقدسيون كل يوم على واقع أمر من قبله، يرون فجأة جيرانهم "الجدد" يستوطنون في بيوت مجاورة لهم بيعت في صفقات مشبوهة، فيتحوّل المنزل إلى حصن وجهنمَ حمراء لسكان الحي.
آسفة يا عزيزتي، شتان ما بين الحلم والأمل اللذين زرعتهما في قلوبنا بأغانيك، وبين الواقع المر الذي نعيشه اليوم وتعيشه القدس...
لن يكون يا عزيزتي أي شيء يُشهر في الفترة القريبة، عدا أوامر الهدم لبيوت المقدسيين. لكن الأكيد هو كما قال شاعرنا العظيم سميح القاسم: "يا منشئين على خرائب منزلي تحت الخرائب جمرة تتقلب".آخر إشي يا فيروز... بمناسبة عيد ميلادك، كل عام وأنت سبب "الروقان" في حياتنا، رغم كلّ هذا الغضب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...