صار بعيداً، ذلك اليوم الذي كان عمي الأصغر يجمعني فيه مع أولاد عمي الآخرين، نصعد إلى سطح المنزل حيث السماء فوقنا دون حاجز، نلتف حول تلفاز لا يحوي أكثر من ثلاث قنوات. رغم ذلك، وبإجراءات بدائية كتركيب "آريل" كنّا نشاهد مباريات كأس العالم، أو بمعنى أدق نرى الدنيا عبر شاشته الصغيرة.
أتذكر كل ذلك وأنا أتابع كأس العالم 2022. كم تغيّرت الأمور! فاليوم قبل الحدث العالمي بشهر عرف الجميع الفرق المشاركة، أسماء اللاعبين الجاهزين للماراثون الرياضي ومن تم استبعادهم بسبب الإصابة أو لأسباب أخرى، على أي ملاعب سُتجرى المباريات، وكم تكلفة الاشتراك في البث التلفزيوني للبطولة.
لا أحب أن أبدو قديماً هكذا، فمازلت في بداية الثلاثينات من عمري. لكن، كل عام يحدث فيه الكثير، وبصفتي من أبناء جيل التسعينيات، سأصف المونديال كما عرفه جيلي
واليوم أيضاً، يتابع الجميع المباريات "لايف" عبر شاشة ليست صغيرة، يستمعون لمحللين رياضيين قبل المباراة وبعدها، ويرون بأعينهم أين أخطأ اللاعب ومتى أصاب من خلال محللي البرامج الرياضية. بل واليوم يمكن للجميع التعليق على حساب اللاعب الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي، إما بالمديح أو بالذم، وبالتأكيد يقيّمون المستوى، هل تحسّن أم تراجع؟ فعشّاق الساحرة المستديرة يتابعون هؤلاء اللاعبين في دورياتهم المختلفة طوال العام. لكن السؤال، هل يعرف جيل الألفية الثانية كيف كانت الأمور تتم قبل كل ذلك، ليدركوا على الأقل كم هم محظوظين؟
هل يعرف جيل الألفية الثانية كيف كانت الأمور تتم قبل كل ذلك، ليدركوا على الأقل كم هم محظوظين؟
لا أحب أن أبدو قديماً هكذا، فمازلت في بداية الثلاثينات من عمري. لكن، كل عام يحدث فيه الكثير، وبصفتي من أبناء جيل التسعينيات، سأصف المونديال كما عرفته أنا وجيلي، وكما تجسّد لنا في هذا الوقت. وقد كانت بدايتي مع نسخة 1998 في فرنسا، وأوضح أولاً، أن المونديال لم يكن مجرد بطولة عالمية كبرى فقط، بل بالنسبة لنا كان هو الحدث الذي يربطنا بالعالم، ويشعرنا أننا جزء من كل كبير. نعم، ففي عصر ما قبل الإنترنت وقلة البيوت التي تحوي أجهزة الأقمار الصناعية "الدِش" لم يكن متاحاً متابعة الدوريات العالمية أو رؤية من نحبهم، فقط بعض مباريات الدوري الإسباني كان يُسمح لنا برؤيتها.
تخيّل عزيزي من أبناء جيل الإنترنت، أن من سبقوك كانوا يجلسون أربع سنوات من أجل رؤية لاعبيهم المفضلين يلعبون، ينتظرون تلك المدة فقط للاستمتاع بمهاراتهم، ولن أحدثك عن مدى البؤس إذا كان هناك لاعب نحبه ولن يتأهل منتخبه إلى المونديال، فهذا يعني أننا قد لا نراه يلعب أبداً. سنظل نقرأ أخباره في بعض الصحف التي تهتم قليلاً بالرياضة العالمية.
المعظم يحب البرازيل، لكن أجيال الآن ربما يعيشون على السيرة والتاريخ، أما نحن أبناء التسعينات فقد عشنا آخر هذا التاريخ، رأينا بأعيننا اللاعب البرازيلي روبرتو كارلوس بتسديداته الصاروخية، ودينلسون البرازيلي وهو يقدم عرض مهارات على الخط، واللاعب رونالدو وهو يحمل كأس الـ 2002. متى أحببنا السامبا - مصطلح يطلق على الفريق البرازيلي؟ لا أدري، لكني شجعتها صغيراً جداً، آخرون كانوا يشجعون الأرجنتين، أما وجود المدرب الفرنسي زين الدين زيدان كعربي مسلم كان أمراً كفيلاً لتقدم المنتخب الفرنسي في قلوب البعض.
تخيّل عزيزي من أبناء جيل الإنترنت، أن من سبقوك كانوا يجلسون أربع سنوات من أجل رؤية لاعبيهم المفضلين يلعبون، ولن أحدثك عن مدى البؤس إذا كان هناك لاعب نحبه ولن يتأهل منتخبه إلى المونديال
ولأن المنافسات لا تنتهي، وإن كان هناك ميسي وكريستيانو كأوضح مثال خلال العقد الماضي، فأبناء التسعينات عاشوا منافسة "رونالدو" و"زيدان". وبالنسبة لي، شعرت بالحسرة حين فاز الأخير بنسخة 98، الأمر الذي جعلني لم أشجع فرنسا من وقتها وحتى الآن. لن أنسى بكائي بسببهم وأنا صغير، مقهوراً على بطلي الذي غادر الملعب مهزوماً قبل أن يعود بعد 4 سنوات فقط في 2002 لينتصر على الجميع، هل يعلم رونالدو أني بسببه عشت كل هذا؟
بالتأكيد لا يعرف، فوقتها لم يكن هناك أي وسيلة تواصل، لا فيسبوك أو إنستغرام أو برامج تلفزيونية نرسل عبرها ما تضيق به الصدور، وإن كان كل ذلك قد تحسن قليلاً في السنوات الأولى من الألفية الثانية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. لكن، هل يعلم الأجيال الجديدة أن مهارات أبرز نجوم الكرة قبل الألفين، والممتلئ بها يوتيوب الآن لم نرَ منها إلا القليل جداً في وقتها، بل ولولا ثورة الاتصالات الحاصلة لما كنّا سنراها بالأصل.
رغم ابتعادي عن متابعة كرة القدم حين كبرت، وعدم رؤيتي لأي بطولة رياضية، يظل سحر المونديال قادراً على إعادتي كما كنت
تلك ملامح عابرة عن كأس العالم في ذاكرتي أنا وجيلي. ورغم ابتعادي عن متابعة كرة القدم حين كبرت، وعدم رؤيتي لأي بطولة رياضية، يظل سحر المونديال قادراً على إعادتي كما كنت، فكل أربع سنوات يعود لي نفس الشغف، فأتابع جدول المباريات التي بات بإمكاني معرفة مواعيدها، وأطالع أسماء اللاعبين وأستمع لمحللي الكرة دون الحاجة إلى سطح منزلنا الغريب. إنه بعد كل تلك السنوات ما زالت انحيازاتي كما هي، حب وتشجيع للبرازيل والأرجنتين وباقي منتخبات أميركا اللاتينية، نفور من فرنسا وألمانيا، وإعجاب بإسبانيا، لكن ما لم أستطع التأقلم معه، أن يتحدث الجميع عن نجوم حاليين ويصفونهم بالأفضل في التاريخ. لا، حتى لو فازوا بكأس العالم، لا يمكنهم أن يتجاوزوا نجومي المفضلين، هل هذا تعلق بالماضي أكثر من اللازم؟ ربما، لكن الأكيد أن من حق كل جيل أن يتمسك برموزه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 10 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت